أما بعد: ها نحن مع خاتمة سورة نوح عليه السلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:21-28].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق الكريم فيما شكاه نوح عليه السلام إلى ربه تعالى مما يجد من قومه المشركين الذين يعبدون الأصنام والأوثان.
قال تعالى: قَالَ نُوحٌ رَبِّ [نوح:21], أي: يا رب! إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نوح:21], وما أطاعوني، وما استجابوا لي. وقد مكث يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ليلاً نهاراً، وكما مر فقد كان يأتيهم في الليل في الاجتماعات وما استجابوا, فشكا إلى ربه فقال: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا [نوح:21]، أي: اتبعوا الأغنياء أرباب المال والأولاد، والفقراء هذا شأنهم. فهؤلاء مشوا وراء الأغنياء وأرباب المال, فمنعوهم من الدخول في الإسلام. وهذا هو الحال في مكة, فقد حصل هذا، فالفقراء اضطروا إلى أن يتبعوا الأغنياء, ويمشوا وراءهم.
وشكوى نوح هذه ظاهرة، فقد قال: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا [نوح:21] في الدنيا وفي الآخرة. وليس هناك خسارة أعظم من أن يموتوا على الكفر, ويخلدوا في جهنم.
إذاً: قال قوم نوح بعضهم لبعض : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23].
ثم قال: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح:24]. فقد علم أنهم لا يؤمنون، وذلك بعد أن أُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]. فلما عرف أنهم لا يؤمنون دعا عليهم, فقال: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح:24]. فما داموا ضلوا فاللهم زدهم ضلالاً، وهذا بعد أن تعب تسعمائة سنة وخمسين.
هكذا يقول تعالى عنهم هنا: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ [نوح:25], أي: بخطيئتهم أُغْرِقُوا [نوح:25] في ذلك الطوفان، فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]. فما إن تخرج روح أحدهم من بدنه بالغرق حتى تدخل جهنم في البرزخ. فهم قد أغرقوا فأدخلوا على الفور، فكل من غرق ومات فروحه إلى النار في البرزخ، فأدخلوا ناراً، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [نوح:25]. ولن يجدوا الأنصار الذين ينصرونهم, وهم مشركون, وقد أراد الله هلاكهم ودمارهم، فلن ينصرهم أحد, فإذا دقت الساعة وجاء عذاب الانتقام -والعياذ بالله- فلن يبقى من ينصرهم، كما قال تعالى: فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا [نوح:25].
وهنا لطيفة, وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: ( أن العبد إذا صلى في مكان وجلس فيه الملائكة تقول له: اللهم اغفر له وارحمه حتى يقوم, ما لم يحدث ). إذا أحدث وانتقض وضوءه سقط هذا, ولا يبقى، لكن ما دام متطهراً وجالساً في مصلاه فوالله إن الملائكة تصلي عليه, فتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، حتى يغادر ذلك المكان، سواء في المسجد أو في غير المسجد.
إذاً: نوح سأل ربه: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا [نوح:28]، أي: مصلاه الذي كان يصلي فيه، ولا يدخل بيته إلا مؤمن، وكان المؤمنون أقلية معدودين, وكانوا يأتونه إلى بيته؛ يعلمهم ويعبدون الله معه. فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ [نوح:28]. وأما إذا دخل بيته كافر فما يدعو له بالمغفرة، بل إذا كان مؤمناً ودخل مصلاه أو مسجده أو بيته, هذا الذي دعا له, فقال: اللهم اغفر له. وكذلك المؤمنين والمؤمنات عامة. فهذه الدعوة تشملنا جميعاً إلى يوم الدين.
ثم قال: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28]، أي هلاكاً يا رب! فلا تزد الظالمين إلا هلاكاً. فدعا للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة، ودعا للظالمين بزيادة الإهلاك والدمار الكامل، فقال: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح:28]. والظالمون هم: كل من صرف عبادة الله وأعطاها لغير الله, فمن فعل هذا فهو والله ظالم. وكذلك كل من أخذ مال مؤمن وأعطاه لغيره فهو ظالم، وكل من سبّ مؤمناً أو شتمه ظلماً وعدواناً فهو ظالم. وأبشع أنواع الظلم وأقبحها الشرك بالله؛ لقول الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. وهذا في كتاب الله، فهو يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وما هو سهل أبداً.
وبيان ذلك: أن الذي خلقك هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، والذي خلق لك كل ما في هذه الحياة, فمن أجلك خلق الشمس والقمر، ومن أجلك خلق الأرض والجبال, والأنهار والأمطار, والنباتات والحيوانات, فهذه كلها مخلوقة من أجلك، وذلك من أجل أن تذكر الله وتشكره، فإذا بك تعمى وتنساه وتأخذ حقه وتعطيه لحجر أو لصنم. وليس هناك أفظع من هذا الظلم؛ لأنك تأخذ حق الله وتعطيه للمخلوقين. فليس هناك ظلم أفظع من هذا. فلذلك دعا نوح بقول: ولا تزد الظالمين إلا هلاكاً ودماراً وتباراً. والظلم هنا هو: الشرك بالله. ووجه الظلم: أنه خلقك ورزقك لتعبده، فإذا بك تتركه وتعبد غيره. فليس هناك ظلم أفظع من هذا الظلم. وكذلك شرع لك عبادات لتعبده بها، فإذا بك تصرف بعضها لغيره من مخلوقاته. وهذا هو الشرك, والعياذ بالله. ونحن نبرأ إلى الله منه ومن أهله.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: مشروعية الشكوى إلى الله تعالى، ولكن بدون صخبٍ ولا نصب ] فنستفيد من هذه الآيات: مشروعية الدعاء ورفع اليدين إلى الله عز وجل بدون صخبٍ ولا صياحٍ ولا ضجيج، وعلى الداعي أن يبكي, وأن يكون صوته منخفضاً، ويدعو كما ينبغي. والدعاء مشروع، وهو من أفضل العبادات, وليكن في خشوع وخضوع وبينك وبين ربك, ولا أحد بينكما، فهو يبلغه كلامك ويسمعه، ويستجيب لك.
ففي هذه الآيات: مشروعية الشكوى إلى الله، وقد شكا نوح إلى ربه, فالشكوى إلى الله محمودة. فعلينا كلنا أن نشكو إلى ربنا إذا ظلمنا أو إذا اعتدي علينا. فنرفع أيدينا إلى الله ونشكو إليه، كما شكا نوح إليه.
[ ثانياً: بيان أن السفلة والفقراء يتبعون الرؤساء والأغنياء وأصحاب الحظ ] فمن سنن الله في الخلق: أن الفقراء يتبعون الأغنياء، ويمشون وراءهم، وأن الأغنياء وأرباب المال والأولاد هم الظلمة، وهم الذين يدعون إلى الشر والفساد في كل زمان ومكان.
[ ثالثاً: بيان ] وتوضيح [ أن المكر ] والخداع والغش [ من شأن الكافرين والظالمين ] فهم الذين يغشون ويخدعون، والعياذ بالله. فالظلمة المشركون هم أهل المكر والخدعة، كما أعلن ذلك نوح عليه السلام في قوله: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح:22].
[ رابعاً: بيان أن المشركين لضلالهم يطلقون لفظ الآلهة على من يعبدونهم من الأصنام والأوثان ] والإله هو: المعبود. والإله الحق هو الله، وعبادته من أجلها خلقنا، وبها نكمل ونسعد، وليس عبادة الأولياء والصالحين, والأغنياء والأموات, والعياذ بالله. ولكنهم ألهوهم وجعلوهم آلهة وعبدوهم، كما فعل المشركون في مكة، فقد عبدوا هبل وغيره, وكما عبد المؤمنون أيام الجهل الأولياء، وما هم بأولياء, بل أغلبهم ضلال، وكانوا يبنون عليهم القباب، ويضعون الستائر والشموع وكذا، ويلتفون حولهم، ويحلفون بهم، ويذبحون لهم، وينذرون لهم النذور، ويقولون: يا سيدي فلان! إن تحقق كذا فسنفعل كذا من إندونيسيا إلى موريتانيا. اللهم إلا في هذه الخمسين سنة, فقد انتشر العلم بوسائطه المعروفة, فخفت هذه المحنة، وإن كانت ما زالت إلى اليوم.
[ خامساً: مشروعية الدعاء على الظالمين عند اليأس من هدايتهم ] فمن هداية الآيات: أنه يجوز لك أن تدعو على الظالم إذا أيست من هدايته؛ لأن نوحاً دعا عليهم لما أيس منهم, وما أصبح يؤمن أن هناك من يسلم منهم أو يدخل في الإيمان. فالظالم إذا أيست من هدايته ادع عليه بالهلاك، وإذا كنت ترجو أن يؤمن ويسلم فلا تدع عليه. أو ادع بدعوة عامة، مثل أن تقول: اللهم أهلك الظالمين، اللهم أغرق الفاسدين. فهذا لا بأس. وأما شخص واحد بعينه فلا تدع عليه بالهلاك، إلا إذا أيست من هدايته.
[ سادساً: هلاك قوم نوح ] وهم البشر كلهم في ذلك اليوم [ كان بخطاياهم، فالخطايا إذاً موجبة للهلاك ] فقد أهلكهم الله بدعوة نوح عليه السلام؛ بخطاياهم, أي: بسبب ذنوبهم وخطاياهم بشركهم وكفرهم، والعياذ بالله.
[ سابعاً: تقرير عذاب القبر ] وأنه حق والله العظيم [ فقوم نوح ما إن اغرقوا حتى ادخلوا ناراً ] كما أن نعيمه والله حق، فما إن تؤخذ الروح حتى يعرج بها؛ لتكتب في عليين أو ينزل بها إلى أسفل السافلين، ولما يوضع الإنسان في قبره تأتي الروح من جديد، ويسأل ويحاسب, ويعذب أو يعطى ويكرم, والدليل هذه الآية في قوم نوح عليه السلام, فقد قال تعالى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25] على الفور. فهم أغرقوا بالماء, ثم دخلوا النار. والذي دخل النار أرواحهم. ففي هذا دليل على أن عذاب القبر حق والله، وقد أخبر بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم مئات المرات.
[ ثامناً: مشروعية ] أي: جواز [ الدعاء ] بالهلاك والدمار والخسران [ على الظلمة والكافرين, والمجرمين ] والمشركين بالمجموع, وليس أن تدعو على فرد, إلا إذا أيست من هدايته، وأما اللفظ العام الذي هو: اللهم أهلك الظالمين .. اللهم دمرهم .. اللهم أغرقهم، فهذا يجوز، اقتداء بنوح عليه السلام.
[ تاسعاً: مشروعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ] فقد قال نوح: رب! اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات. فهذا مشروع، ولهذا ندعو دائماً ربنا ونسأله لنا ولكل مؤمن ومؤمنة، وقد ذكرت لكم حديث: ( من صلى فريضة أو نافلة وجلس في مصلاه يذكر الله ويعبده فالملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه, حتى يحدث فينتقض وضوءه أو يقوم من مكانه ).
ففي هذه الآيات: مشروعية الدعاء على الظالمين بصورة عامة، ومشروعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بصورة عامة، فيقول: رب! اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات، أو ربنا اغفر لنا وارحمنا, وعافنا واعف عنا. فهذا مشروع لهذه الآية.
[ عاشراً ] وأخيراً: [ يستحب البدء في الدعاء بنفس الداعي، ثم يعطف من ] يريد أن [ يدعو لهم ] وقد أخذنا هذا من قوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28], أي: أمي وأبي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]. فعلى كل داعٍ أن يقول: يا رب! اغفر لي وارحمني, واغفر وارحم كل مؤمن ومؤمنة. فيدعو أولاً لنفسه، ثم يدعو لغيره. فهذا مشروع في الدعاء. والله تعالى نسأل أن ينفعنا وإياكم بما نقول ونسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر