وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن الآن مع سورة الواقعة المكية، ومع هذه الآيات منها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:57-74].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! اعلموا -يفتح الله علينا وعليكم- أن عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة؛ هذه العقيدة فاقدها كالحجر, ولا أقول: كالشجر، ميت لا خير فيه، لا يعول عليه في شيء ولا يوثق به في شيء، الذي ما يؤمن بأنه سيبعث حياً ويجزى على كسبه وعمله, صاحب هذه العقيدة الميتة لا خير فيه، وكان العرب أكثرهم لا يؤمنون بالبعث الآخر والدار الآخرة، وهذه الآيات بعد ذلكم العرض السابق لأهل الجنة وأهل النار، فالآن هنا سبعة أدلة قطعية وبراهين تقرر أنه لا بد من الحياة الثانية، ولا بد من الحساب فيها والجزاء إما بالجنة دار النعيم وإما بالنار دار العذاب الأليم, واسمعوا هذه الأدلة التي بينها تعالى في كتابه.
أولاً: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الواقعة:57], هم يعترفون بأن الله هو الخالق لهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87], هكذا وهم مشركون، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25], فما دمتم تقولون هذا فلم لا تصدقون بالبعث والجزاء؟
والعلة علمتموها غير مرة, وهي أن المنكر للبعث والجزاء يريد أن يعيش على الفسق والفجور والشر والظلم والفساد، ما يستطيع أن يحاسب نفسه أو يعمل خيراً أو يترك شراً؛ لأنه لا يؤمن بالدار الآخرة.
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة:58-59], الله هو الخالق، إذاً: هو قادر على أن يخلقنا مرة ثانية من أجل أن يحاسبنا على كسبنا اليوم ويجزينا عليه؛ إذ هذه علة الحياة.
فعلة هذه الحياة العمل, وعلة الثانية الجزاء على العمل، ما خلقنا إلا لذكر الله وشكره، والدار الثانية ما وجدت ولم توجد إلا من أجل الجزاء على العمل فيها.
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ [الواقعة:60-61] لو قدر أن كل مولود يولد يكون خنزيراً فمن يرده؟ لو كان من الغد أيما امرأة في رحمها جنين فهو قرد أو خنزير، فمن يقول: لا؟ من يقدر على أن يرد ذلك؟
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ [الواقعة:60-61] ولا تعرفون، هذه قدرة الله، فهل هو عاجز عن أن يبعث الناس أحياء بعد موتهم؟
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:62], النشأة الأولى عرفناها, عرفنا كيف أنشأنا الله، وعشنا هذه الحياة, فكيف ننكر الثانية؟ فنحن نحيا ونموت أو لا؟ إذاً: لم ننكر أن نحيا مرة ثانية؟ والله خالقنا أراد ذلك؛ ليجزينا على عملنا في هذه الحياة.
يقول تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64], الله الخالق، وهل نحن نخلق شيئاً؟ إذاً: كما تموتون تنبتون كما ينبت البذر الذي ترمونه في الأرض فينبته الله عز وجل زرعاً.
ثم قال تعالى: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [الواقعة:65] هذا دليل آخر، لو شاء الله فكلما كبر الزرع جعله يابساً حطاماً، فماذا تصنعون؟ هل عندكم قدرة على غير ذلك؟ والله! ما تستطيعون، هذه قدرة الله، فكيف تنكرون لقاءه يوم القيامة؟
يقول تعالى: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة:65] متعجبين، ثم تقولون: نحن مغرمون، هذا عذاب عذبنا الله به وحرمنا زرعنا، فعلنا كذا وكذا! طول النهار تتكلمون، كما هي عادتنا.
فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة:65-67], من حرمكم؟ الله، إذاً: آمنوا به وبلقائه، واعبدوه ووحدوه ولا تعبدوا الأصنام والأوثان معه.
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [الواقعة:70] مالحاً ما تستطيعون شربه, فلم ما تشكرون هذه النعمة؟ هذا الماء الذي تشربون هل أنتم خلقتموه؟ هل أنتم أنزلتموه من السماء؟ هل أنتم خلقتموه فيها؟ هل أنتم جعلتموه عذباً وحلواً؟ لو شاء الله تعالى لجعله مراً.
هكذا يقول تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]، لم لا تشكرون الله على نعمته؟
فقولوا: الحمد لله.. الحمد لله.
يقول تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ [الواقعة:71-72]؟ الله هو المنشئ لها الخالق لها.
ثم قال تعالى: نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً [الواقعة:73], النار تذكرة، فهل أنت تؤمن بالعالم الآتي من الجنة والنار؟ هل تعرف عن النار شيئاً؟ تشاهدها كل يوم، كلما تشاهد النار تعرف أن النار هي المعدة لإلقاء البشرية فيها إلا المؤمنين الصالحين، ولو لم تكن هناك نار فسيقولون: ما هي النار هذه التي تهددنا يا محمد وتخوفنا بها؟
فها أنتم تشاهدونها فتذكركم, أوقد النار وشاهدها, أدخل أصبعك فيها فقط، أو ضعها في وجهك، فمن خلق هذه النار؟ آباؤنا أو أمهاتنا؟ من أوجدها في هذا الخشب والشجر؟
أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:72-73], من جهة تذكر بالدار الآخرة والبعث والجزاء فيها، وهي متاع للمسافرين ينتفعون بها في سفرهم.
وهنا لما نزلت هذه الآية: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( اجعلوها في ركوعكم ), فكل من ركع ينبغي أن يقول: سبحان ربي العظيم.. سبحان ربي العظيم.. سبحان ربي العظيم ثلاث مرات أقل شيء، ولما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] المكية أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوها في سجودكم ), فما يسجد مؤمن ولا مؤمنة إلا ويقول: سبحان ربي الأعلى.. سبحان ربي الأعلى.. سبحان ربي الأعلى, وإن زاد: وبحمده فخير أيضاً, فيقول: سبحان ربي الأعلى وبحمده، سبحان ربي العظيم وبحمده, أقلها ثلاث مرات، في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى.
معشر المستمعين! هذه سبعة أدلة وبراهين قطعية على أننا بعد موتنا سنبعث أحياء من أجل الحساب والجزاء, ونحاسب ونجزى إما بالنعيم المقيم وإما بالعذاب الأليم بحسب الكسب والعمل، فإن آمنا واستقمنا على منهج الحق، وعبدنا الله تعالى بما شرع فأحللنا ما أحل وحرمنا ما حرم حتى توفانا على ذلك ونفوسنا زكية طاهرة طيبة؛ فوالله ما إن تخرج روحك من صدرك حتى يعرج بها إلى الملكوت الأعلى، وإن كانت النفس خبيثة منتنة لأنها نفس المشرك والفاسق والفاجر؛ فإنها عفنة منتنة, فما إن تخرج حتى تصير إلى أسفل الأرض والعياذ بالله تعالى.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: تقرير عقيدة البعث والجزاء، فمن لم يؤمن بها هو شر الخلق، والله! للقردة والخنازير أفضل منه، فإياك أن تثق أو تسمع أو تطيع من لا يؤمن بالدار الآخرة؛ فإنه شر الخلق، ما يفعل طاعة أبداً؛ لأن قلبه ميت.
[ ثانياً: إقامة الأدلة والبراهين العديدة على صحة البعث وإمكانه عقلاً ].
من هداية الآيات: إقامة الأدلة والبراهين القطعية على صحة البعث والجزاء، وقد علمنا أنها سبعة أدلة منطقية عقلية ما يردها ذو عقل، كلها تدل على أنه لا بد من الحياة الثانية بعد نهاية هذه للجزاء على العمل في هذه الحياة، إن كان خيراً فالجنة، وإن كان شراً فالنار.
[ ثالثاً: بيان منن الله تعالى على عباده في طعامهم وشرابهم ].
من هداية الآيات: أنه بين تعالى لنا إفضاله وإنعامه علينا في الطعام والشراب، فالزرع كيف ينبت؟ من ينبته؟ الله، والماء من ينزله من السماء، من يجعله حلواً غير مر؟ أليس الله؟ من أجل ماذا؟ من أجل أن نشكر الله، فلهذا من أكل فليقل: الحمد لله، من شرب فليقل: الحمد لله، لا تفارق هذه الكلمة لسانك أبداً.
[ رابعاً: وجوب شكر الله تعالى على إفضاله وإنعامه ].
في الآيات: وجوب شكر الله تعالى على أية نعمة، أنعم عليك بنعمة البصر فأصبحت تبصر، وهناك عميان ما يبصرون, فاحمد الله واشكره، وأعطاك سمعك تسمع به ولسانك تنطق به، ويدك تأخذ بها، ورجلك تمشي بها، وقلبك تفكر به, فيجب أن تشكر الله على نعمه، فالذي يعطيك إبرة فقط تشكره، ويركبك وراء ظهره في الدابة فتشكره، فكيف تنسى هذه النعم ولا تشكر الله؟ يجب أن نشكر الله ليلاً ونهاراً، ورأس الشكر: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله، ثم طاعة الله وطاعة رسوله بفعل ما أمرا به وترك ما نهيا عنه، بهذا يكون الحمد والشكر.
[ خامساً: في النار التي نوقدها عبرة وعظة للمتقين ].
من هداية الآيات: أن النار التي نشاهدها ونطبخ عليها ونوقدها لطعامنا؛ هذه النار تذكرنا بنار يوم القيامة، تذكرة تذكرنا بنار يوم القيامة، فكيف ننسى نار يوم القيامة ونحن نشاهد النار صباح مساء في كل بيت وفي كل مكان.
[ سادساً: وجوب تسبيح الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله من العبث والشريك ].
آخر هداية: وجوب تسبيح الله وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به من العجز والضعف، من الشرك والشركاء، فسبح يا رسولنا باسم ربك العظيم، أمره الله أن يقدس ربه وينزهه عن كل شريك، فسبحان ربنا رب العالمين.
وقد علمتم أنه لما نزلت هذه الآية قال للمؤمنين: قولوا: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات في الركوع، ولما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] قال: ( اجعلوها في سجودكم ), سبحان ربي الأعلى.. سبحان ربي الأعلى.
والغافلون ينسونه ويتركونها، فلا تركع ركعة إلا وتقول: سبحان ربي العظيم وبحمده على الأقل ثلاث مرات، أو خمساً، أو سبعاً، أو ما شاء الله، وتقول وأنت على الأرض ساجد: سبحان ربي الأعلى.. سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثاً، أو خمساً، أو سبع مرات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر