أما بعد: ها نحن ما زلنا مع سورة المزمل المكية المدنية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:10-19].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل:10], لما أمر الله تعالى رسوله بالانقطاع إليه وتلاوة كتابه، والتهجد له نصف الليل وثلثي الليل أمره هنا أن يصبر, فقال له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل:10]. وهؤلاء القائلون هم المشركون الكافرون الفجرة، وعلى رأسهم عشرة طغاة، فاصبر على ما يقولون عنك من قولهم: ساحر .. كاذب .. شاعر .. دجال .. كاهن، وكل هذا لا تلتفت إليه أبداً، واصبر على دعوتك. وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10], وانقطع عنهم, وابتعد عنهم، ولا تسب ولا تشتم ولا تلعن, ولا غير ذلك, وإنما فقط ابتعد عنهم ابتعاداً كاملاً، وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10].
هكذا يقول تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16]. والرسول هنا هو موسى عليه السلام. فَأَخَذْنَاهُ [المزمل:16] نحن رب العزة والجلال والكمال أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:16], أي: شاقاً مدمراً.
وهنا يُذكر البعث, فيقول تعالى لآدم: ( يا آدم! ابعث بعث النار ). والناس كلهم في عرصات القيامة. فيأخذ من الألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم, ولا ينجو منهم إلا واحد، فنسبة الناجين في عرصات القيامة من دخول النار واحد إلى ألف. وهذا مشاهد، فنسبة المؤمنين الصالحين في البشر واحد إلى ألف.
هكذا يقول تعالى هنا: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ [المزمل:17] يا عباد الله! إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]؟ ولا يمكنكم أن تقوا أنفسكم إن لم تؤمنوا وتعملوا الصالحات.
وهذا السبيل يا عباد الله! هو الإيمان بالله ولقائه ورسوله، وطاعة الله وطاعة رسوله بفعل ما أمر الله ورسوله بفعله، وبترك ما أمر الله بتركه ورسوله. هذا هو العمل المزكي للنفس، المطهر لها، المطيب لها، ومن زكت نفسه وطابت وطهرت قبله الله في جواره, وأسكنه في الفراديس العلى، واقرءوا قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فقد أخبر تعالى بعدما حلف سبعة أيمان أن من زكى نفسه أفلح وفاز ونجا من النار, ودخل الجنة، وأن من دسى نفسه وخبثها بالشرك والذنوب والآثام خاب وخسر, والعياذ بالله تعالى.
فما على العقلاء إلى أن يسلكوا سبيل نجاتهم، ألا وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، إذ بهما تزكو النفس وتطيب وتطهر، مع البعد عن الشرك والذنوب والآثام، إذ هي التي تخبث النفس وتدسيها وتلوثها، ومن زلت قدمه وأذنب ذنباً فليتب إلى الله، وليرجع إليه باكياً مستغفراً، فإن الذنب يمحى بإذن الله، وويل للمصرين! وويل للكافرين! وويل للمكذبين! وويل للمشركين!
هذه هداية الله تعالى لعباده المؤمنين.
[ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي تدارسناها:
[ أولاً: وجوب الصبر ] ولزوم الصبر [ على الطاعة وعن المعصية ] فنصبر على الطاعة, فلا نتخلف عنها، وعن المعصية فلا نغشاها ولا نرتكبها أبداً؛ لقوله تعالى: وَاصْبِرْ [المزمل:10], أي: الزم الحق والعدل, وابتعد عن الباطل والشر، ومن لم يصبر هلك وتمزق. والصبر له موطنان, الموطن الأول: أن تصبر على طاعة الله ورسوله, فلا تعصيهما، والموطن الثاني: أن تصبر على ما يصيبك أو يلم بك، فلا تجزع ولا تسخط ولا تغضب.
[ ثانياً: الهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه ] والهجر هو: الترك والبعد. فالهجر الجميل هو: الذي لا عتاب فيه ولا لوم, ولا سب ولا شتم. فاهجرهم واتركهم فقط وتخلى عنهم، حتى يتوب الله على من يشاء. فالهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه، والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه، والصفح الجميل هو الذي لا مؤاخذة فيه.
[ ثالثاً: تقرير النبوة المحمدية ] أي: إثباتها، وهي والله حق، كيف لا وهذا مسجده، وهذا كتاب الله الذي أوحاه إليه وأنزله عليه، وهذه أمته. ففي هذا تقرير النبوة المحمدية، فقد قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ [المزمل:15] يا بني الناس! ويا بني الجن! كلكم رَسُولًا [المزمل:15]. وهذا الرسول والله إنه لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر