إسلام ويب

تفسير سورة المزمل (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشريعة الإسلام، والدعوة إلى توحيد الواحد العلام، لم يكلفه بهداية الناس وقبولهم لهذا الحق، فالهداية والتوفيق بيد الله عز وجل ييسرها لمن يشاء، أما المكذبون فقد توعدهم العلي الكبير بالأنكال والجحيم، والعذاب الأليم، وطعام لا يسيغونه يقطع منهم البطون، ويشربون عليه شراباً من حميم، أبد الآبدين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً)

    الحمد لله, نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه, ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: ها نحن ما زلنا مع سورة المزمل المكية المدنية.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:10-19].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل:10], لما أمر الله تعالى رسوله بالانقطاع إليه وتلاوة كتابه، والتهجد له نصف الليل وثلثي الليل أمره هنا أن يصبر, فقال له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل:10]. وهؤلاء القائلون هم المشركون الكافرون الفجرة، وعلى رأسهم عشرة طغاة، فاصبر على ما يقولون عنك من قولهم: ساحر .. كاذب .. شاعر .. دجال .. كاهن، وكل هذا لا تلتفت إليه أبداً، واصبر على دعوتك. وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10], وانقطع عنهم, وابتعد عنهم، ولا تسب ولا تشتم ولا تلعن, ولا غير ذلك, وإنما فقط ابتعد عنهم ابتعاداً كاملاً، وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وذرني والمكذبين أولي النعمة ...)

    قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل:11]. فهؤلاء دعني أنا لهم، وأما أنت فلا تبالي بهم، ولا تسب ولا تشتم ولا تضرب، بل اتركني أنا وإياهم، كما قال: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل:11]. وهم أغنياء مكة وعظامها وساداتها الذين هلكوا كلهم في بدر. وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل:11]. وما هي إلا أشهر أو سنيات معدودة ويهلكهم الله عز وجل، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وفي السنة الثانية جاءوا, فقتل منهم رسول الله في بدر سبعين صنديداً، والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن لدينا أنكالاً وجحيماً * وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً)

    قال تعالى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا [المزمل:12], أي: إن عندنا في جهنم أنكالاً, وهي جمع نكل، وهي قيود من حديد يقيدون بها، وجحيماً يحرقهم، وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ [المزمل:13] يغص في الحلق, وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:13]. فهذا كله عندنا, وهو مهيأ لهؤلاء الطغاة الجبابرة إذا أصروا على الشرك والكفر, والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال * وكانت الجبال كثيباً مهيلاً)

    قال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ [المزمل:14], أي: يوم القيامة. وقوله: تَرْجُفُ الأَرْضُ [المزمل:14], أي: ترتعد, وَالْجِبَالُ [المزمل:14], أي: تسيل وتتفتت. وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا [المزمل:14], أي: رملاً مَهِيلًا [المزمل:14] سائلاً. هذا هو اليوم الذي يلقون فيه جزاءهم، فأمهلهم يا رسولنا! فسيأتيهم هذا اليوم, وفيه عذابهم, وهو يوم القيامة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم ...)

    قال تعالى لرسوله والمؤمنين والناس أجمعين: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا [المزمل:15]. يخبر تعالى الإنس والجن أنه أرسل إليهم رسولاً, ألا وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. شَاهِدًا عَلَيْكُمْ [المزمل:15]. فمن عمل خيراً شهد له بالخير، ومن عمل شراً شهد له بالشر. كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [المزمل:15]. ومناسبة ذكر فرعون هنا لأن فرعون كان مع موسى، وكان موسى ضعيفاً، فاحتقره فرعون وازدراه, وسخر منه وأراد تعذيبه، ولكن الله انتقم من فرعون وأغرقه ومعه مائة ألف رجل على خيولهم، وكذلك الرسول ضعيف هاهنا مع هؤلاء الطغاة الجبابرة في مكة, كما كان موسى مع فرعون. هذا وجه المشابهة. ولذلك قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16], أي: موسى عليه السلام، فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:16]. كذلك نأخذ هؤلاء أخذاً وبيلاً شديداً لا يطاق.

    هكذا يقول تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16]. والرسول هنا هو موسى عليه السلام. فَأَخَذْنَاهُ [المزمل:16] نحن رب العزة والجلال والكمال أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:16], أي: شاقاً مدمراً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً)

    قال تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]؟ فكيف تتقون عذاب يوم القيامة؟ وبم تتقونه؟ فإنه يتقى بالإيمان وصالح الأعمال, لا بالكفر والشرك, والذنوب والآثام. وهذا اليوم يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17], أي: يجعل الأطفال الصغار يشيبون من نفخة الصور فقط.

    وهنا يُذكر البعث, فيقول تعالى لآدم: ( يا آدم! ابعث بعث النار ). والناس كلهم في عرصات القيامة. فيأخذ من الألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى جهنم, ولا ينجو منهم إلا واحد، فنسبة الناجين في عرصات القيامة من دخول النار واحد إلى ألف. وهذا مشاهد، فنسبة المؤمنين الصالحين في البشر واحد إلى ألف.

    هكذا يقول تعالى هنا: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ [المزمل:17] يا عباد الله! إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]؟ ولا يمكنكم أن تقوا أنفسكم إن لم تؤمنوا وتعملوا الصالحات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (السماء منفطر به كان وعده مفعولاً)

    قال تعالى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل:18]. فالسماء تنشق، كما قال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1], الكواكب انتثرت، والجبال تبعثرت، وهكذا. فالكون كله يتحلل ويذوب. فهذا اليوم لا يمكنكم أن تتقونه إن لم تؤمنوا وتعملوا الصالحات، وإن لم تتخلوا عن الشرك والكفر, والذنوب والآثام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً)

    قال تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ [المزمل:19], أي: إن ذكره لهذه الآيات الدالة على يوم القيامة وما يجري فيه وما يتم فيه هذا فيه ذكرى وموعظة لمن يتعظ. فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:19]. فباب الله مفتوح إلى يوم القيامة، فمن أراد أن يدخل الإيمان يدخل، ومن أراد أن يسلم قلبه ووجهه لله فليسلم، ومن أراد أن يعبد الله فليعبده في كل زمان ومكان, فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:19], حتى ينجو من عذاب يوم القيامة, ويدخل الجنة ويخلد فيها, وهي دار الأبرار ودار المتقين والأخيار.

    وهذا السبيل يا عباد الله! هو الإيمان بالله ولقائه ورسوله، وطاعة الله وطاعة رسوله بفعل ما أمر الله ورسوله بفعله، وبترك ما أمر الله بتركه ورسوله. هذا هو العمل المزكي للنفس، المطهر لها، المطيب لها، ومن زكت نفسه وطابت وطهرت قبله الله في جواره, وأسكنه في الفراديس العلى، واقرءوا قول الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. فقد أخبر تعالى بعدما حلف سبعة أيمان أن من زكى نفسه أفلح وفاز ونجا من النار, ودخل الجنة، وأن من دسى نفسه وخبثها بالشرك والذنوب والآثام خاب وخسر, والعياذ بالله تعالى.

    فما على العقلاء إلى أن يسلكوا سبيل نجاتهم، ألا وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، إذ بهما تزكو النفس وتطيب وتطهر، مع البعد عن الشرك والذنوب والآثام، إذ هي التي تخبث النفس وتدسيها وتلوثها، ومن زلت قدمه وأذنب ذنباً فليتب إلى الله، وليرجع إليه باكياً مستغفراً، فإن الذنب يمحى بإذن الله، وويل للمصرين! وويل للكافرين! وويل للمكذبين! وويل للمشركين!

    هذه هداية الله تعالى لعباده المؤمنين.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:

    [ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي تدارسناها:

    [ أولاً: وجوب الصبر ] ولزوم الصبر [ على الطاعة وعن المعصية ] فنصبر على الطاعة, فلا نتخلف عنها، وعن المعصية فلا نغشاها ولا نرتكبها أبداً؛ لقوله تعالى: وَاصْبِرْ [المزمل:10], أي: الزم الحق والعدل, وابتعد عن الباطل والشر، ومن لم يصبر هلك وتمزق. والصبر له موطنان, الموطن الأول: أن تصبر على طاعة الله ورسوله, فلا تعصيهما، والموطن الثاني: أن تصبر على ما يصيبك أو يلم بك، فلا تجزع ولا تسخط ولا تغضب.

    [ ثانياً: الهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه ] والهجر هو: الترك والبعد. فالهجر الجميل هو: الذي لا عتاب فيه ولا لوم, ولا سب ولا شتم. فاهجرهم واتركهم فقط وتخلى عنهم، حتى يتوب الله على من يشاء. فالهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه، والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه، والصفح الجميل هو الذي لا مؤاخذة فيه.

    [ ثالثاً: تقرير النبوة المحمدية ] أي: إثباتها، وهي والله حق، كيف لا وهذا مسجده، وهذا كتاب الله الذي أوحاه إليه وأنزله عليه، وهذه أمته. ففي هذا تقرير النبوة المحمدية، فقد قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ [المزمل:15] يا بني الناس! ويا بني الجن! كلكم رَسُولًا [المزمل:15]. وهذا الرسول والله إنه لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765792929