أما بعد: ها نحن ما زلنا مع سورة المرسلات، وهي مكية.
والسور المكية يعالجن العقيدة، وأعظم أركانها: عقيدة التوحيد, والنبوة المحمدية, والبعث الآخر. والآن مع هذه الآيات، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:29-40].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات:29], هذا يقال للمكذبين بالبعث والدار الآخرة، وللمكذبين بتوحيد الله، وللمشركين في عبادة الله، وللمنغمسين في الظلم والشر والفساد، فيقال لهم: انطَلِقُوا [المرسلات:29]. وهذه عبارة تهكم وازدراء وسخرية. فيقال لهم: انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات:29]. ألا وهو جهنم، ألا وهو النار، ألا وهو عذابها، إذ أنهم عاشوا في هذه الحياة يأكلون ويشربون، ولا يتمنون أبداً أن يموتوا مسلمين، ولا يسألون الله ذلك، بل ماتوا وهم كافرون، وما آمنوا بالله حق الإيمان, ولا بالبعث والجزاء والدار الآخرة. وهذا شأن الكفار والفجار, والعياذ بالله تعالى. ولذلك يقال لهم: انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المرسلات:29].
ثم قال تعالى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:37]! وقد تكررت هذه الجملة في هذه السورة تسع مرات. فبلغوهم يا عباد الله! وإن كانوا معكم في دياركم، وقولوا لهم: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:37]! وهو العذاب الأليم، والخلد في جهنم -والعياذ بالله- للمكذب بآيات الله، أو بوعد ووعيد الله، أو برسالة رسول الله، وأعظم من ذلك المكذب بالبعث واللقاء مع الله يوم القيامة.
ثم ختم الله الآيات بقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:40]! فيا عباد الله! كرروا هذا القول لكل مكذب ومكذبة من أبيض أو أصفر أو أحمر, عربي أو عجمي. فمن كذب بلقاء الله والدار الآخرة فوالله له الويل والعذاب الأبدي في جهنم. ولهذا آمنا بالله وبلقائه، وآمنا بالله ورسوله، وآمنا بالله وكتابه، وآمنا بوعد الله ووعيده، وآمنا بدين الله وشرعه، وآمنا به حتى نلقاه مؤمنين. وويل للمكذبين!
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: التهكم والسخرية والتبكيت ] بالمشركين [ من آلم أنواع العذاب الروحي يوم القيامة ] لهم, ومن أشد أنواع العذاب يوم القيامة؛ لأنه عذاب روحي، فهو أصعب وأشد من عذاب الجسم. فيقال لهم: انطلقوا .. استهزاء. ولا يجدون إلى أين ينطلقون.
[ ثانياً: عرصات القيامة واسعة، والمقام فيها طويل، والبلاء فيها شديد ] فهي ليست عاماً ولا ألفاً، وإنما خمسون ألف سنة.
[ ثالثاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يتم فيه ] وكل الآيات المكية تقرر هذا، فلا بد من حياة ثانية بعد هذه الأولى، ولا بد من الحساب على العمل في هذه الدنيا، ولا بد من الجزاء عليه، ولا جزاء إلا النعيم المقيم في الجنة، أو العذاب الأليم في جهنم، وليس هناك غير هذا أبداً.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ التكذيب هو رأس الكفر ] قطعاً [ وبموجبه يكون العذاب ] والذي ما يكذب ما يكفر أبداً؛ لأن التكذيب هو رأس الكفر، فمن كذب كفر، ومن كذب ببعض آية من كتاب الله كفر، ومن كذب بفريضة فرضها الله كفر، ومن كذب بوعد الله لأمة أو فرد كفر. وويل يومئذ للمكذبين! ولا يسعنا أبناء الإسلام! إلا أن نقول: آمنا بالله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر