أما بعد: ها نحن ما زلنا مع سورة المدثر المكية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر:38-56].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [المدثر:38-39], فكل نفس صاحبها عاقل بالغ ليس طفلاً ولا مجنوناً وأذنب أو أجرم، أو كفر أو أشرك، أو فسق أو فجر، فنفسه في يوم القيامة رهينة, بمعنى: مرهونة محبوسة في جهنم. ولا يطلقها أو يفك رهانها أحد وهي خبيثة منتنة، وما زكت ولا طابت ولا طهرت.
فقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [المدثر:38], أي: بكسبها الذي هو الشرك والكفر والفسوق والفجور والذنوب والآثام رَهِينَةٌ [المدثر:38], أي: مرهونة بكسبها في جهنم وفي سقر.
وأصحاب اليمين هم المؤمنون، وليسوا بالشماليين. وسبحان الله! فهم أصحاب اليمين.
وفي العالم اليوم حزبان: الحزب اليساري الشمالي والحزب اليميني. وأصحاب اليمين هم الذين من جهة الإيمان مؤمنون صادقون، وأصحاب الشمال -والعياذ بالله- هم الهالكون والخاسرون، والمنغمسون في أنواع الكفر والشرك والباطل.
وقوله: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ [المدثر:39], فهم ليسوا مرهونين بأعمالهم، بل هم فِي جَنَّاتٍ [المدثر:40] جمع جنة، وهي البساتين، وظل الشجرة فيه مائة سنة. وهم في هذه الجنات يَتَسَاءَلُونَ [المدثر:40], أي: يسأل بعضهم بعضاً عَنِ الْمُجْرِمِينَ [المدثر:41], وكيف حالهم وواقعهم في النار في سقر في جهنم.
وقد كان المؤمنون يؤمنون بما أخبر الله تعالى به. ثم إن أهل الجنة في الجنة يتصلون بأهل النار, ويشاهدونهم في جهنم. والآن أصبح لا يوجد في هذا صعوبة, بل يكون الإنسان في أمريكا ويتكلم مع آخر في الصين أو في غيرها, ويرى وجهه أمامه. وقد سبقنا حقاً أهل الإيمان فآمنوا بهذا، وأما الآن فالإيمان ضعيف, وليس له قيمة، ونحن الآن نؤمن بما هو الواقع.
إذاً: المؤمنون يوم القيامة فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ [المدثر:40-41], ويقولون لهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42]؟ أي: ما الذي ربطكم بهذا الحديد في جهنم؟
فالذنب الأول الذي استحق به المجرمون أن يدخلوا سقر هو: أنهم لم يكونوا من المصلين, ولذلك قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43].
ثم قالوا: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:45] بالسب والشتم, والتكفير واللعن، وهذا كذا، وهذا باطل، وهذا خرافة، وهذا ليس ديناً. وهؤلاء أيضاً موجودون والله الآن في العالم، فهم لا يجتمعون إلا على هذه الأباطيل, ويتخوضون فيها, كما قال تعالى أنهم يقولون: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:45]. فهذا يسب الرسول، وهذا يشتم أصحابه، وهذا كذا, وهذا يقول كذا وكذا.
والحقيقة التي ما ننساها هي: أن كل من لم يؤمن باليوم الآخر يجب ألا يوثق فيه, ولا يعول عليه، وهو شر الخلق، ولا يمكن أن ينشأ منه صلاح أو خير أبداً، والذي يكون مؤمناً أو ضعيف الإيمان وليس قوياً فيه فإنه يفسق ويفجر، ومن قوي إيمانه بلقاء الله ما يستطيع أن يعصي الله, ولا يخرج عن طاعته، ولا يقدر أبداً.
هكذا ذكروا ذنوبهم، وهي: أولاً: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43]. وثانياً: وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:44]. وثالثاً: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ [المدثر:45]. ورابعاً: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:46], الذي هو يوم الجزاء بعد الحساب على الأعمال في الدنيا، والله إنهم قالوا هكذا كما تسمعون. وقالوا وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:46-47]. واليقين: الموت والله، فهو العتبة للدار الآخرة، وما إن يموت المرء حتى يدخل الدار الآخرة.
اليقين هو أنه لما يموت الكافر .. اليهودي .. المجوسي .. الخبيث .. المشرك ويجيئه ملك الموت يعرف كل شيء، فيؤمن ويعرف أنه كان على باطل وضلال, ولكن لا يجزيه ذلك ولا ينفعه؛ لأن الإيمان لا يكون إلا بالغيب, وليس بالمشاهدة, ولهذا سمي الموت باليقين، فإذا جاء ملك الموت وشاهده المريض عرف، والعياذ بالله.
وهذا الطلب والله يطلبه اليوم الملاحدة والعلمانيون، فلو طُولبوا بالإيمان فإنهم يطالبون بهذا ولا يخجلون. وهذه هي ظلمة النفس، وظلمة الكفر والشرك، وظلمة الفسوق والفجور. فهم قالوا: لن نؤمن لك إلا إذا جاءنا كتاب, كما قال تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52], أي: كتاباً مفتوحاً فيه اسمه، وأن الله أمره أن يؤمن بمحمد. ومع أن القرآن بين أيديهم فإنهم يرفضونه ويعرضون عنه، ولا يسمعون ولا يستجيبون أبداً, بل هم كالحمر المستنفرة، ويطالبون بكتب.
ثم قال تعالى: بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ [المدثر:53]. فالقضية سببها أنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولو كانوا يخافون ما يجري لهم من العذاب بعد الموت وطول الحياة ما فعلوا هذا, ولا وقفوا هذا الموقف. ولكن العلة: أنهم ما يؤمنون بالآخرة. والآن بلايين البشر ما يؤمنون بالدار الآخرة أبداً، ولو آمن إنسان عاقل بالدار الآخرة لذهب إلى الشرق والغرب يسأل عن كيفية النجاة في الدار الآخرة, ولكنهم لا يؤمنون.
بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ [المدثر:53] لأنهم ما آمنوا بها، ولا عرفوا ما يجري فيها.
ثم قال تعالى: هُوَ [المدثر:56], أي: الله جل جلاله وعظم سلطانه أَهْلُ التَّقْوَى [المدثر:56]. فهو الذي بيده كل شيء، فهو الذي خلق النار وعذابها، والذي خلق الموت ورسله، هذا الذي يجب أن يطاع، ويجب أن يؤمن به، وأن يذكر ولا ينسى؛ وذلك لأن الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة. فليس هناك من يغفر الذنب سوى الله أبداً, وليس هناك من يُتقى غير الله. فكل المخلوقات مربوبة مملوكة لا قيمة لها، وإنما الذي يتقى هو الله عز وجل؛ لأن بيده كل شيء, وهو على كل شيء قدير.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: فكاك كل نفس مرهونة بكسبها, وهو الإيمان والتقوى ] فإن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر. فكل نفس مرهونة بما كسبت, فإن كان كسبها ذنوباً فهي محبوسة في جهنم، اللهم إلا أهل الإيمان وصالح الأعمال.
[ ثانياً: بيان أكبر الجرائم ] والذنوب والمعاصي ] وهي: ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والخوض في ] الكلام [ الباطل ] والخرافات والشرك [ وعدم التصديق بالحساب والجزاء ].
[ ثالثاً: لا شفاعة يوم القيامة لمن مات وهو يشرك بالله شيئاً ] والله العظيم. فلا يشفع له ملك ولا نبي ولا عالم ولا ولي أبداً، ولا تكون الشفاعة إلا لأهل التوحيد وأهل الإيمان، وأما من أشركوا بربهم وعبدوا غيره معه فهؤلاء حسبنا فيهم قول الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
ومن هنا نصيح دائماً: يا معشر المستمعين! علموا إخوانكم وأبناءكم أن دعاء الموتى والاستغاثة بهم والذبح لهم والنذر لهم والله شرك، وأقسم بالله إنه لشرك، وأهله في جهنم خالدون. وقد انتشرت الدعوة الإصلاحية, وطهر كثير من المسلمين.
[ رابعاً: مرد الانحراف في الإنسان إلى ضعف إيمانه بالبعث والجزاء ] فمرد فسق الإنسان وفجوره وظلمه وكفره واعتدائه إلى ضعف إيمانه بيوم القيامة. وقد قلت لكم: إذا كان الشخص لا يؤمن بيوم القيامة ولا ما يتم فيه من جزاء فهذا لا يوثق فيه, ولا يعول عليه، وهو شر الخلق، بل حتى الذي يؤمن بيوم القيامة ولكنه ضعيف الإيمان فإنه ما يستقيم أبداً، ولا يفعل الواجبات ولا يترك المحرمات؛ لضعفه.
[ خامساً ] وأخيراً: [ الله جل جلاله هو ذو الأهلية الحقة لأمرين عظيمين: التقوى ] فهو أهل التقوى [ فلا يتقى على الحقيقة إلا هو، والمغفرة ] فهو أهل المغفرة [ فلا يغفر الذنوب إلا هو ] بطاعته وطاعة رسوله، وبترك الشرك والمعاصي, والذنوب والآثام، ولا يغفر الذنوب ولا يقوى على محوها إلا هو، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة [ اللهم اغفر ذنوبنا؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ] اللهم اغفر لنا وارحمنا.
وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر