أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ * أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:44-52].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ [القلم:44], أي: دعني واتركني أنا مع هؤلاء الذين يكذبون بالقرآن أتولاهم، فاسترح يا رسولنا! ولا تكرب ولا تحزن، ودعني معهم. فهم بعد ما بين لهم الطريق أبوا إلا أن يضلوا، وبعد ما بين لهم الشريعة رفضوا أن يقولوا ويعملوا، وبعد أن بين لهم توحيد الله أبوا إلا الشرك، فإذاً: دعني معهم, ولذلك قال: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ [القلم:44] أي: بالقرآن الكريم، والقرآن حديث الله وكلامه.
ثم قال تعالى له: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم:44] درجة بعد درجة؛ حتى يقعوا في جهنم. فنحن سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [القلم:44] درجة بعد درجة؛ حتى يقعوا في جهنم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم:44].
وهنا لطيفة, وهي: أن على الدعاة الذين يدعون إلى الله أن لا يأخذوا أجوراً على دعوتهم؛ لأن الرسول أمره الله بأن يبلغ, وما أذن له أن يأخذ من المبلغين أجراً, فقال له تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [القلم:46]. والجواب: لا.
وقوله: عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ [القلم:47], يعني: اللوح المحفوظ الغائب عنهم. وهو ليس عندهم, وما استطاعوا أن يعرفوا ما فيه, ولا أن يتكلمون بما في الغيب. فهذا والله ليس عندهم.
ثم قال تعالى: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]. وهو يونس بن متى في مدينة نينوى، فهو عليه السلام بعثه الله نبياً ورسولاً، فعجز وضعف، وما أطاق وما صبر، بل هرب وتركهم وهم فيما هم فيه. ولما هرب وصل إلى البحر التقمه الحوت، فقد ركب السفينة, ثم قال صاحب السفينة: يا جماعة! السفينة مثقلة، اقترعوا على واحد وارموه في البحر؛ حتى تمشي السفينة ولا تهلكوا كلكم، فاقترعوا, فوقعت القرعة على يونس، فرموه, وقبل أن يصل الماء فتح الحوت فاه -وكان كالجبل لا كالجمل فقط- فابتلعه، وبقي في بطنه، وثَمَّ تاب وأصبح يقول: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. وكما قال تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144]. وهذه فائدة التسبيح وثمرته والعودة إلى الله والرجوع إليه بذكره ودعائه والاطراح بين يديه. فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [الصافات:143] للبث في بطن الحوت إلى يوم القيامة, ولما خرج.
فلما تعب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المبطلين المشركين الكافرين قال تعالى له: اصبر, وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، أي: يونس بن متى. إِذْ نَادَى [القلم:48] ربه وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48] في غم وهم وكرب, فقد نادى ربه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
إذاً: يا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم! لا تكن كصاحب الحوت يونس بن متى، إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48] في غم وهم وكرب، وفي بطن الحوت. و لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ [القلم:49]. والعراء: الصحراء، وليس فيها شجر ولا جبل ولا شيء. هذه العراء. وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم:49], أي: والحال أنه مذموم، ولكنه لما كان من المسبحين نبذ بالعراء وهو محمود غير مذموم، بل مشكور.
فيا من يدخلون السجون بالباطل! ويا من يؤذون بالباطل! سبحوا هذا التسبيح؛ ينجيكم الله عز وجل ويخرجكم، وقولوا: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. ويا من أذنب ذنباً وتاب! أكثر من هذا الدعاء؛ فيتوب الله عليك. فائتس بيونس بن متى، والرسول يقول له ربه: ائتس بيونس، وكن كيونس بن متى، فاصبر كما صبر، فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم:50].
فقوله: وَمَا هُوَ [القلم:52], أي: محمد صلى الله عليه وسلم إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:52], أي: للإنس والجن, به يذكرون الله، ويعرفون الله، ويعبدون الله، ويستقيمون على دين الله؛ فيكملون ويسعدون في الحياتين الدنيا والأخرى. فرسول الله ذكر للإنس والجن وللعالمين. فاصبر يا رسول! ولا تحزن. وقد صبر صبراً جميلاً, حتى فتح الله عليه ونصره، وامتلأت هذه الديار بالإيمان من أقصى الجزيرة إلى أقصاها.
وصلِ اللهم عليه وسلم تسليماً كثيراً.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: رد الأمور إلى الله إذا استعصى حلها, فالله كفيل بذلك ] فإذا استعصى الأمر عليك يا عبد الله! فرد الأمر إلى الله واصبر، فقد استعصى على رسول الله هداية قريش والمشركين فأمره الله تعالى بالصبر والثبات, حتى نصره. فأيما مؤمن يصاب بمحنة أو بشدة فليصبر وليفوض أمره إلى الله, والله يفرج ما به، ولا يسخط ولا يجزع ولا يقول الباطل.
[ ثانياً: لا يصح أخذ أجرة على تبليغ الدعوة ] فعندما يسألك أحد سؤالاً لا يقول له: هات ريالاً أجيبك، ولا إذا قال له: علمني كيف نتوضأ يقول له: هات عشرة ريالات أعلمك، ولا يقول: يا أهل القرية! اجمعوا لي من كل واحد عشرة ريالات؛ حتى أذكركم وأعلمكم. فهذا لا يجوز. وإن كانت هناك أوقاف موقفة على الدعاة أو على كذا فهذا ما فيه بأس، ولكن مطالبة السامعين بالأجر هذا لا يجوز أبداً، ولا يحل أن تطلب أجرة على دعوتك التي تبلغها لله.
[ ثالثاً: وجوب الصبر على الدعوة ] إلى الحق [ مهما كانت الصعاب, فلا تترك لأذىً يصيب الداعي ] فمهما كانت حالك وظروفك اصبر كما صبر النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا تفرط ولا تتركها، ولا تقول: ما استجابوا لي، وما سمعوا مني، وما قبلوا دعوتي، ولا نهرب وتصبح كيونس بن متى، بل اصبر كما صبر الرسول وأولوا العزم، وحتى لو لم يستجب لك ولا واحد فلا تترك دعوتك أنت. وسوف تنتصر لا محالة.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ بيان حال المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم ] في مكة [ وما كانوا يضمرونه له من البغض والحسد، وما يرمونه به من الاتهامات الباطلة؛ كالجنون والسحر والكذب ] وبغضهم رسول الله وحسده، وقد كانوا ينظرون إليه نظرة -والعياذ بالله- يكادون يسقطونه بها، أي: نظرة حسد وبغض.
وهنا لطيفة: فإذا شعرت بحسد فاقرأ هذه الآية: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:51-52]. مرتين .. ثلاثاً, ويدفعه الله عنك إن شاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر