أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [القلم:17-33].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ [القلم:17], الذين بلاهم الله هم كفار قريش في مكة, فقد بلاهم واختبرهم وامتحنهم أولاً: بالمال والولد, والعزة والكرامة، وثانياً: بالقحط والجدب والقتل في بدر.
فقوله: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ [القلم:17], أي: بلونا أهل مكة المشركين الكافرين واختبرناهم, بأن أعطيناهم الأموال والأولاد, والصحة والعافية, فما شكروا، بل كفروا، فبلوناهم مرة أخرى واختبرناهم بأن سلبناهم المال, وسلطنا عليهم القحط سبع سنين حتى أكلوا الجلود، ثم جاءوا إلى بدر فكسرت أنوفهم وقتلوا. هذا هو الامتحان والاختبار.
أما أصحاب الجنة -وهو بستان كان قريباً من صنعاء باليمن- فقد كانت قصتهم بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وإليكم القصة مفصلة من تفصيل الله لها:
قال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [القلم:17]. والجنة: البستان الذي فيه النخيل والأشجار، فإذا دخلته غطاك وسترك وجنك.
وكان أصحاب الجنة هؤلاء شباناً رجالاً, والدهم توفي، وكان له هذا البستان أو هذه الجنة، وكان يوزع على الفقراء والمساكين مدة حياته مما جنى من البستان. حيث كان إذا جد النخل أو قطع التمر أو كذا يأتي الفقراء والمساكين فيعطيهم. فلما توفاه الله قال أولاده الشبان: لن نعطي مالنا لهؤلاء الفقراء والمساكين، وقالوا كما حكى الله عنهم: إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم:17]. فحلفوا ولم يستثنوا -والعياذ بالله- فلم يقولوا: إلا أن يشاء الله، ومن ثَمَّ أخذوا.
فهم حلفوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم:17], أي: ليقطعونها في الصباح قبل ما يقوم الفقراء والمساكين.
وقوله: لَيَصْرِمُنَّهَا [القلم:17], الصرم: الجد والقطع. مُصْبِحِينَ [القلم:17], أي: في الصباح قبل ما يقوم من نومهم الفقراء والمساكين، ولو استثنوا وقالوا: إن شاء الله؛ لتحقق لهم مرادهم, ولكنهم ما استثنوا. وإنما أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ [القلم:17]. وكأنهم يقولون: والله لنصرمنها مصبحين. الذي يحلف ويقول: والله لأفعلن، أو والله لا أفعل فهذا رفع نفسه إلى مستوى الرب تعالى، وأنه أصبح قادراً على أن يفعل ويترك وحده، فلهذا إذا حنث فإنه يصاب بظلمة في نفسه, وخبث في قلبه, ولا يزول هذا إلا بالكفارة التي بينها الله تعالى.
واعرفوا هذه الحقيقة, وهي: أن الذي يحلف ويقول: والله لأفعلن كذا، أو والله لا أفعل كذا، فهذا قد نسب القدرة إلى نفسه، ونسي أنه عاجز، وأنه ضعيف، وأن الفاعل هو الله، فنسي كل هذا، فلهذا يجب أن يقول: إلا أن يشاء الله فلا نستطيع، أو إلا أن يشاء الله في قدرتي واستطاعتي، وأما إذا لم يشأ الله فما أقوى ولا أقدر، فلهذا يجب الاستثناء، كما قال تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24], أي: إلا أن تقول: إن شاء الله. ولهذا إذا حلف الحالف ولم يستثن وجبت عليه كفارة تمحو هذا الإثم وتزيله، ولو يعطي ملياراً فلا ينفعه، وإنما ينفعه ما بين تعالى من هذه الأدوات المزكية للنفس، وهي: إطعام عشرة مساكين, أو كسوتهم قميصاً وعمامة للرجل, أو رداء وإزار، أو عتق رقبة، فإن عجز عن هذا كله صام ثلاثة أيام. هذه هي الكفارة التي تكفر هذا الذنب وتزيله. وهذا الذنب هو أنه قال: والله لأفعلن، وهو غير قادر على أن تفعل إذا لم يشأ الله, ولا يستطيع أن يفعل، فقد يموت قبل أن يفعل. فلهذا لما ما استثنوا وحلفوا أدبهم الله عز وجل.
وقد عرفتم أن علة الحرمان أنهم ما استثنوا، وأنهم ليس من حقهم أن يمنعوا الفقراء والمساكين, وقد كان أبوهم يطعمهم ويعطيهم. فقالوا هنا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [القلم:27].
ومعنى قول إن شاء الله: أنه ما يقدر أن يفعل شيئاً إلا إذا أراد الله وأعانه عليه. فقولك: والله لأفعلن إن شاء الله هو تسبيح لله, وتنزيه وتقديس له, فقد عرفت عجزك, وأنك عاجز إلا إذا أقدرك الله عز وجل.
فهنا قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [القلم:28]؟ أي: هلا تسبحون الله! أي تقولون: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله.
وهكذا يبتلي الله عباده بالسراء والضراء، وهم إن أصابهم وابتلاهم بالسراء شكروا فازوا ونجوا، وإن كفروا وجحدوا هلكوا، وإن أصابهم بالضراء فصبروا وعبدوا الله أثابهم ونجاهم. اللهم ارزقنا الذكر والشكر والصبر يا رب العالمين!
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: الابتلاء يكون بالسراء والضراء، أي: بالخير والشر، وأسعد الناس الشاكرون عند السراء، الصابرون على طاعة الله ورسوله عند الضراء ] هذه هداية الآيات الأولى، فالله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء، فإن ابتلى عبده بالسراء شكر وحمد الله, وأثنى عليه, وأنفق في سبيله زاده وحفظ ما أعطاه، وإن أصابه بضراء فحمد الله وصبر كذلك شفاه ونجاه، وإن هو -والعياذ بالله- ما شكر ولا ما صبر فهو من الهالكين.
[ ثانياً: مشروعية التذكير بأحوال المبتلين والمعافين؛ ليتخذ من ذلك طريقاً إلى الشكر والصبر ] فقد يبين ما أصاب الناس في بلد من البلدان؛ ليكون ذلك ذكرى للذاكرين.
وبالأمس سمعتم بالزلزال الذي أصاب الهند وقتل عشرات الآلاف، وقد فعل الله هذا للعظة والذكرى، ومع ذلك ما اتعظ الناس, ولا خافوا من ربهم أن ينزل بهم هذا البلاء, ولم يتوبوا إليه, ولا قالوا: ربنا! عفوك وكرامتك. ومن ذكر ذلك وشكر الله على نعمته نجا، ومن أعرض وغفل فسوف يهلك مع الهالكين.
[ ثالثاً: صلاح الآباء ينفع أبناء المؤمنين، فقد انتفع أصحاب الجنة بصلاح أبيهم الذي كان يتصدق على المساكين من غلة بستانه، وعلامة انتفاعهم توبتهم ] فإذا كان أبوك يا بني! صالحاً فأبشر, فستكون صالحاً، وإن قلت: ها هو ولد فلان ليس صالحاً؛ فهذا لأن أباه ما هو صالح، ولو كان الأب صالحاً فلن يفسد الولد. ونحن لم نر صالحاً ولده ما يصلي, ولا رأينا صالحاً ولده يدخن ويعبث, فهذا لا يوجد أبداً. فصلاح الآباء تعود بركاته على الأبناء. وقد سمعتم القصة بكاملها, فذاك العبد الصالح الذي كان يتصدق على الفقراء والمساكين لما ابتلي أولاده بما ابتلوا به ورد الله عليهم تابوا، فنفعهم صلاح أبيهم.
[ رابعاً ] وأخيراً: من هداية هذه الآيات معشر المستمعين والمستمعات! [ مشروعية الاستثناء في اليمين، وأنه تسبيح لله تعالى ] فإذا حلفت فاستثن، وإذا قلت: والله يا ولدي! لأعطينك فقل: إن شاء الله, أو قال: والله يا أخي! ما أمشي معك فليقل: إلا أن يشاء الله [ وأن تركه يوقع في الإثم، ولذا إذا حنث الحالف الذي لم يستثن تلوثت نفسه بإثم كبير, لا يُمحى إلا بالكفارة الشرعية التي حددها الشارع, وهي: إطعام أو كسوة عشرة مساكين، أو عتق رقبة، فإن لم يقدر على واحدة من هذه الأنواع صام ثلاثة أيام؛ ليمحي ذلك الذنب من نفسه ] فإذا لم تستثن فقد أثمت؛ لأنك جعلت بيدك القدرة، ونسيت الله، ورفعت مستواك إلى مستوى الله الذي بيده كل شيء. فافهموا هذا. فلما تقول: والله لأفعلن فأنت لا تفعل بقدرتك, وقد نسيت الله هنا, وقد أثمت بهذا. ولا يزول هذا الإثم إلا بكفارة حددها الله عز وجل كما قلت لكم، والله يقول لرسوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
وهذا اليمين والحلف مشروع، ولكن لا بد من الاستثناء. ومن لم يستثن وحنث فعليه كفارة، وهي: أولاً: إطعام عشرة مساكين، وكل مسكين يعطيه كيلو دقيق وإلا رز وإلا تمر. واليوم ذهبنا إلى الدكان فوجدنا الكيلو فيه ثلاث حفنات أو أربع. فإن عجز عن الطعام وعنده الكسوة فيكسو عشرة أنفار, لكل واحد ثوب طويل وعمامة على رأسه أو غترة، فإن عجز عن هذا أعتق رقبة، فإن ما استطاع أو ما وجدها فيصوم ثلاثة أيام, وبذلك يمحو هذا الإثم الذي ارتكبه بسبب أنه حلف ونسي الله, ونسي قدرة الله, وأنه لا يكون شيء إلا بإذن الله, ولم يقل: إن شاء الله. فهذا الإثم لا يزول إلا بهذه الكفارة.
والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.
قال الشيخ في النهر: [ في الآية أدب سامٍ, وهو أن من كان له من الزرع أو التمر ما يجذ ينبغي ألا يجذه ليلاً؛ حتى لا يحرم الفقراء من الأكل منه، وأن عليه أن يمنح من يحضر الجذاذ والقطع شيئاً يسيراً من زرعه أو ثمره، وآية سورة النساء ظاهرة في هذا، وهي قوله تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى [النساء:8] ] وعلى كل حال أنتم ما عندكم بساتين ولا حدائق، والذي عنده بستان وجنان فيها تمر وغير ذلك يجذه في النهار، وإذا جاء الفقراء والمساكين ما يحرمهم، بل يعطيهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر