أما بعد: الآن مع سورة القلم. قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1].
ولفظ نون يطلق أيضاً على الدواة، فأقسم الله بالدواة والقلم.
فحلف الله تعالى بالنون والقلم, وحلف بما يسطرون، أي: وبما يكتبون. والذين يكتبون هم الملائكة، فهم يأخذون من اللوح المحفوظ ويكتبون، والكرام الكاتبين يكتبون أعمال العباد يومياً.
ودعوته صلى الله عليه وسلم هي لأن يعبد الله بما شرع من العبادات. وهذه العبادات والله تزكي النفوس, وتطهر الأرواح, وتؤهل صاحبها لأن ينزل في الملكوت الأعلى يوم ما يموت. فهذه العبادات لصالح العباد, وأما الله فهو غني عن عبادتنا غنىً مطلقاً كاملاً، وهو ليس في حاجة إليها، بل هذه العبادة من أجلنا نحن؛ لنزكو ونطيب, ونطهر ونكمل في آدابنا وأخلاقنا؛ حتى نسعد في الدنيا والآخرة.
وقوله: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:2], هذه النعمة هي الآداب والأخلاق، والإسلام والدين الإسلامي. هذه هي النعمة.
فالله يقسم له هنا هكذا, فيقول: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ [القلم:3] يا رسولنا! وهذا الأجر أتاه من دعوته وصبره وثباته، فقد كان يكاد له ويمكر به، ويسب ويشتم، ويقال له: مجنون وساحر, وهو ثابت. وقد تآمروا على قتله وحكموا بقتله, إلا أن الله نجاه.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما ناداه أحد من أهل بيته أو من خارجها إلا ويقول: لبيك، فلا يناديه أحد: يا رسول الله! .. يا نبي الله! .. يا محمد! إلا قال: لبيك. وهذا هو انبساط الوجه.
وكذلك الخلق العظيم هو بذل المعروف، وكف الأذى. ووالله ما آذى محمد أحداً أبداً، لا بلسانه ولا بيده ولا بماله. وقد قال له تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فهيا بنا نتخلق بأخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم. فنبسط وجوهنا، ولا نعبس ولا نقطبها, ولا نؤذ أحداً، وتكون ألسنتنا طيبة طاهرة، فلا نسب ولا نشتم, ولا نمنع معروفاً نستطيع دفعه وبذله، ونكف أيدينا ووجوهنا وألسنتنا عن الخلق وعن العباد كافرهم ومؤمنهم، ولا نؤذ أحداً؛ حتى نصبح من أهل الخلق العظيم.
فأولاً: نتقي الله, وذلك بألا نظلمه بأن نعبد غيره, أو نعبد معه غيره، ثم نطيعه فيما يأمرنا بفعله, وفيما ينهانا عن فعله. بهذا يتقى الله عز وجل، لا بالسلاح ولا بالرجال, ولا بالحصون والأسوار، فلا يتقى الله إلا بالإيمان به وطاعته. فـ( اتق الله حيثما كنت ) في الشرق .. في الغرب .. في المدينة .. في مكة .. في لبنان .. في الطائف .. في باريس .. في أمريكا .. في أي مكان. فـ( اتق الله حيثما كنت ).
وثانياً: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ). فإذا زلت القدم ووقعت فقلت إثماً أو فعلت إثماً فعلى الفور تب إلى الله, وأت بحسنات التوبة؛ حتى يمحى ذلك الإثم ويزول، وما يبقى له أثر.
ثالثاً: ( وخالق الناس ) أبيضهم وأسودهم .. كافرهم ومؤمنهم، فخالقهم ( بخلق حسن ). وهو أنك لا تؤذيهم ولا تظلمهم ولا تعتدي عليهم.
فقوله: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ [القلم:5-6]. فيوم القيامة يشاهدون من هو الذي كان مجنوناً, هل هم أو الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا. وهكذا نصر الله رسوله ودينه، وتبين أنه ليس فيه الجنون أبداً, ولا به جن، بل هم المجنونون المفتونون بالشياطين.
وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [القلم:7], أي: أنت أو المشركون، وهم المشركون. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم:7] من هم, أي: هل هم المشركون أم أنتم, وهو أنت والمؤمنون يا رسولنا!
وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [القلم:7], وهم الذين عبدوا الأصنام والأحجار, وكفروا بالله ولقائه, ولم يعبدوه أبداً، ولا أقاموا دينه ولا شرعه. فهؤلاء هم الذين ضلوا. والمهتدون هم الذين آمنوا بالله ولقائه، وآمنوا بالله ورسوله، وعبدوا الله بما شرع لهم من العبادات القلبية والقولية والعملية. فهؤلاء مهتدون في طريقهم إلى السعادة والله في الدنيا وفي الآخرة. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين!
[ من هداية الآيات:
أولاً: تقرير مسألة أن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه ] أي: يحلف بما أراد، وأما نحن والله فلا يحل لنا أن نحلف إلا بالله، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت، ومن قال: ورأسك .. وحقك .. وأمي .. وأبي .. وكذا فقد أشرك والله في عبادة الله هذا المخلوق، ورفعه إلى مستوى الله لما حلف به، فلما تحلف بالشخص فمعنى هذا: أنك رفعته إلى مستوى الربوبية، وهو عبد من العبيد. فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف إلا بالله، فلا تحلف بالقرآن ولا بغيره, فضلاً عن حقك ورأسك, وكما يفعل الجهال.
[ ثانياً: بيان فضل القلم الذي يكتب به الهدى والخير ] فما دام قد حلف الله بالقلم فقد أصبح للقلم فضل, وقد كتب القرآن به، ولولا القلم لما وصل إلينا القرآن ولا كتب الهداية وكتب الدعوة. ففي هذا بيان فضل القلم، فقد حلف الله به.
[ ثالثاً: تقرير عقيدة القضاء والقدر, إذ كان ذلك بالقلم الذي هو أول ما خلق الله ] وقد أعلمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال: ( إن أول ما خلق الله القلم, فقال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة ). فهذه فضيلة القلم. فحركة يدي هذه والله مكتوبة، وصوتي هذا والله مكتوب، ووجودكم هذا والله مكتوب، وسمعكم وأبصاركم مكتوبة، ولا توجد ذرة إلا وهي موجودة في كتاب المقادير.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في أدبه وأخلاقه, وجعله قدوة في ذلك ] فوالله إن محمداً أكمل الخلق خلقاً، ولن يساويه أحد ولن يعادله أحد فيه، بل هو أكمل الخلق، وحسبنا ما قالت أم المؤمنين, فقد قالت: ( كان خلقه القرآن ). ومن كان خلقه القرآن فلن يساويه أحد في العقيدة والآداب, والعبادات والأخلاق والشرائع, وهكذا. فيا عباد الله! كونوا من أهل القرآن، واقرءوه واعملوا بما فيه، وأحلوا ما أحل, وحرموا ما حرم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر