أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الأمسيات الربانية ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الحاقة المكية، ومع هذه الآيات المباركات، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25-37].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق الكريم في الآيات القرآنية المباركة في عرض مظاهر الدار الآخرة، إذ الحاقة وجبت عند نفخ الصور فتهدم وتحطم كل شيء، ثم نفخة أخرى فإذا بالبشرية قائمة على صعيد واحد، فأما أهل الفسق والفجور، الشرك والكفر، الظلم والشر والفساد فيعطون كتبهم بشمائلهم كما سيأتي، وأما أهل الإيمان والتوحيد، أهل الصبر والتقوى، فقد مرّ أنهم يعطون كتبهم بأيمانهم ويقولون: هاؤم اقرءوا كتابيه، ويعلل لذلك فيقول: إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:20]، إذاً: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:21-24].
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ [الحاقة:25]، أي: ما يعطى كتابه بيمينه، وإنما يُعطاه بشماله من وراء ظهره إهانة له، ثم إن كتب هؤلاء المؤمنين كلها حسنات، وأنوار مشرقة، بينما كتب هؤلاء الفسقة المجرمين كلها ظلمة وسيئات، والعياذ بالله تعالى.
ثم أيضاً من أوتي كتابه بيمينه فهو العبد السعيد المؤمن الرباني الذي يقول: هاؤم اقرءوا كتابيه، أما هذا فيقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة:25]، أي: يا ليتني لم أعط كتابي هذا، فهل يتحقق له مناه؟ لا والله، يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة:25]، أي: الذي حوى كل سيئاته وقبائح أعماله.
وبالأمس قد عرفنا تلك المعجزة وهي أن الإنسان يعمل سبعين أو مائة أو مائتي سنة وكل أعماله وأقواله تدون يومياً من قبل الكرام الكاتبين، وإذا بها تُجمع كلها في كتاب واحد، وقد سمع بهذا المؤمنون والمؤمنات على عهد رسول الله وأحفادهم وأولادهم إلى قبل مائة سنة فقالوا: آمنا بالله، إن الله على كل شيء قدير، ولم يقولوا: كيف هذا؟ قناطير وأطناناً وبواخر من الكتب في كتاب واحد؟! حتى كشف الله لنا هذا الحجاب وأرانا بأعيننا أن مكتبة كاملة فيها عشرات الآلاف من الكتب تقدم وتسجل في ورقة واحدة كما تشاهدون ذلك، فسبحان الله!
قال تعالى: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاقة:26]، أي: هكذا الكتاب، لكن لا ندري كيف يكون الحساب؟ حسابهم ليس فيه من الصالحات، وإنما حسابه كله سيئات، كأن عق والديه أو زنى أو فجر أو أشرك أو كفر، وبالتالي فمصيره جهنم والعياذ بالله تعالى.
قال تعالى: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:28]، هذا الذي كان عنده مال يعتز به، ويفاخر به، ويضحك على الفقراء ويستهزئ بهم ويقول: هم أصحاب جهنم! وذلك كما كانوا في مكة يفعلونه، لا ينفعه ماله والله أبداً.
قال تعالى: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:28]، هذا الذي كان عنده مال يعتز به، ويفاخر به، ويضحك على الفقراء ويستهزئ بهم ويقول: هم أصحاب جهنم! وذلك كما كانوا في مكة يفعلونه، لا ينفعه ماله والله أبداً.
قال تعالى: هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:29]، أي: حججي ومنطقي، وما كنت أقوله في الدنيا، إذ إن كله قد انتهى، والسلطان هو الحجة والقدرة، فلا قدرة ولا حجة للإنسان إلا بعمله، ويوم القيامة يفقد كل ذلك.
خُذُوهُ [الحاقة:30]، أيها الزبانية المسئولون والمكلفون بهذا، فَغُلُّوهُ [الحاقة:30]، أي: اجعلوا يديه مع عنقه واربطوهما بسلسلة من حديد.
قال تعالى: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:31]، أي: احرقوه واطبخوه كما تصلى وتطبخ الشاة.
فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32]، فيها، أي: أدخلوها من دبره وأخرجوها من فيه، أو من فيه وأخرجوها من دبره، لكن لو قال قائل: لم يا رب؟ ما ذنب هذا الرجل؟
ثانياً: وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:34]، ومعنى هذا: أنه ما كان يزكى ماله حتى تزكو به نفسه، ما كان يرحم الفقراء والمساكين، وبالتالي فهذه هي حاله وهذا هو جزاؤه.
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا [الحاقة:35]، أي: في عرصات القيامة وعند دخوله جهنم والعياذ بالله تعالى، حَمِيمٌ [الحاقة:35]، أي: ليس له حميم ينفعه، لا عم ولا ابن عم ولا قريب ولا صديق يحميه أبداً، إذ إنه والله يتبرأ منه أقاربه ولا يريدون أن ينظروا إليه.
ثانياً: وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:36]، فليس هناك من يدفع عنه العذاب أو يبعد عنه حر النار أبداً، والطعام والله ما هو إلا من غسلين، فلا زبدة ولا لحم ولا تمر ولا رطب ولا فاكهة، وإنما غسلين والعياذ بالله تعالى، وغسلين هو ما يخرج من بطون وفروج أهل النار من قيوح ودماء فتتجمع ويأكلونه، ولذلك والله لو آمن أحد بهذا ما استطاع أن يعصي الله أبداً، بل لا يقوى على معصية الله تعالى، لكن ما عرفوا.
ثم قال تعالى: لا يَأْكُلُهُ [الحاقة:37]، أي: ذلك الغسلين، ذلك الطعام الذي هو أوساخ ودماء وقيوح، لا يَأْكُلُهُ [الحاقة:37]، والله، إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:37]، والخاطئون هو كل كافر خاطئ، كل فاجر خاطئ، كل فاسق خاطئ، كل من لم يعبد الله فهو خاطئ.
معشر المستمعين والمستمعات! هيا بنا نجاهد أنفسنا حتى لا نخطئ، حتى لا نفعل المعصية، ومن كتبت عليه ففعلها فليتب إلى الله تعالى، وليطرح بين يدي الله ساجداً باكياً ولا يعود إلى تلك المعصية، وذلك لتبقى زكاة نفسه وطهارتها كما هي يوم ولد حتى يبعث ونفسه زكية طيبة طاهرة، ومما يساعدنا على هذا: أن نجتمع في بيوت ربنا كل ليلة طول العام من الساعة السادسة مساءً إلى ما بعد صلاة العشاء بنسائنا وأطفالنا في بيوت ربنا، فنتلقى الكتاب والحكمة، ونزكي أنفسنا بما شرع الله لنا، فهذا والله هو السبيل.
أما الإعراض عن ذلك فلا يجلس العبد في حلقة كهذه فكيف يعرف ربه؟ كيف يؤمن؟ يؤمن وهو يزني ويكذب ويسرق ويلوط؟ إنه ما عرف معنى الإيمان، لو كنت سلطاناً أو رئيس دولة والله لفرضت هذا، فعلى أهل كل قرية أن يجتمعوا كل ليلة بين المغرب والعشاء في جامعهم بنسائهم وأطفالهم ليتعلموا الكتاب والحكمة، وكذلك أهل المدن، إذ إن لكل حي جامع يجمعهم طول العام، فهذا هو نظام حياتنا، والعجيب أن اليهود والنصارى والمشركين والكفار في تمام الساعة السادسة يذهبون إلى السينما ودور اللهو واللعب والباطل! ونحن إلى أين نذهب؟ لم لا نذهب إلى بيوت ربنا؟ أو تشكون في هذا؟ إن من عرف ربه حق المعرفة والله ما يستطيع أن يعصيه، بل ما يقدر على ذلك، ومن لم يعرفه فستشاهدون الجرائم والموبقات منه، والله تعالى أسأل أن يتوب علينا إنه تواب رحيم.
قال: [ ثانياً: المال الذي باع المفلسون فيه الأمة والملة لا يغني يوم القيامة عن صاحبه شيئاً ]، المال الذي يبعد عن طاعة الله ويحول بين المرء وبين عبادة الله تعالى؛ والله لهو سبب الشقاء والعياذ بالله تعالى، لكن لا بأس أن يكون عندي مال، لكن أذكر وأشكر الله الذي وهبني إياه، كما أنني أنفقه في ما يحب ربي، أما أن ننفقه في المعاصي أو نمنعه ونجحده وما نعطيه لأولياء الله وعباده، فهو والله سبب للشقاء.
قال: [ ثالثاً: التنديد بالكفر بالله وأهله ]، من هداية هذه الآيات: التنديد بالكفر وأهله والعياذ بالله تعالى.
قال: [ رابعاً: عظم جريمة منع الحقوق المالية من الزكاة وغيرها ]، من هداية الآيات: بيان عظم جريمة منع الزكاة والحقوق والعياذ بالله تعالى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر