أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت:9-12].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا [فصلت:9]، أي: يا رسولنا! قل لهؤلاء المشركين الكافرين المصرين على الباطل المعاندين موبخاً لهم: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9]. فالأرض بكل ما فيها من البحار والجبال والأشجار، والكائنات كلها يخلقها في يومين. ومن فعل هذا لا يُشرك به غيره، ولا يُعبد معه سواه، ولا يُعقل هذا. فراجعوا عقولكم. فقد خلق الأرض في يومين، وأنتم تجعلون له أضداداً وأنداداً! وتعبدونهم كما يعبد الله! وتدعونهم وتستغيثون بهم! وتنحنون أمامهم وتسجدون لهم! وتدعونهم وتسألونهم! وتسووهم بالله عز وجل الذي خلق الكون كله! فأين يُذهب بعقولكم.
ثم قال تعالى: ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [فصلت:9]. فالإنس والجن والملائكة والحيوان والكائنات كلها هو ربها، أي: خالقها ومالكها ومدبر أمرها، وليس هناك أحد معه أبداً. ثم لا يُعبد، بل ويُعبد معه الشيطان وما يزينه من عبادة الباطل! وسبحان الله العظيم!
وقوله: قُلْ أَئِنَّكُمْ [فصلت:9]، أي: يا قوم! وأيها الكافرون المشركون! ما لكم تكفرون بالذي خلق السماوات والأرض في يومين وتجحدونه؟ فأنتم تكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا [فصلت:9]. جمع ند، أي: أضداداً تعبدونهم من الأصنام وما إلى ذلك. وذلك الذي صرفكم الشيطان عنه هو الذي خلق الأرض في يومين، أي: الأحد والإثنين. وذاك هو رب العالمين، أي: مالك الكون كله. فلفظ العالمين يدخل فيه الملائكة والإنس، والجن والحيوانات، وكل الكائنات. فربها وخالقها والمتصرف فيها هو الله عز وجل، فلا تكفروا به، وتجحدوا عبادته، أو تضادوه بعبادة غيره.
ثم قال تعالى: وَبَارَكَ فِيهَا [فصلت:10]، أي: في الأرض. فانظر إلى المياه .. إلى الأطعمة .. إلى الأشربة .. إلى كل هذه الموجودات، فالذي بارك فيها هو الله، وقد استمرت؛ لأن البشرية تأكل وتشرب وتعبد الله. وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ [فصلت:10]. ألا وهي الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء. فقد خلق الله الأرض في يومين، وقدر أقواتها في يومين، فأصبحت أربعة، وهي أيام الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء.
وقوله: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت:10]، أي: أقوات الكائنات من الإنسان والحيوان والجان، وكل المخلوقات. فهي تقتات وتعيش بهذا القوت، وحتى البعوض كذلك. والذي قدر أقواتها في أربعة أيام مع خلقها هو الله، وليس عيسى بن مريم ولا العزير، ولا عبد القادر الجيلاني ولا الحسن ولا الحسين . إذاً: فلا يعبد عيسى مع الله، ولا يعبد العزير مع الله، ولا يعبد عبد القادر مع الله، ولا يعبد الحسن أو الحسين مع الله، ولا غير هؤلاء من الذين تراهم يعبدونهم.
وهم يعبدونهم بحبهم أكثر من أنفسهم، وكذلك بالسجود والركوع لهم، وبدعائهم وبالاستغاثة بهم، وبالاستعاذة بهم وبالتسمية بهم؛ إجلالاً وإكباراً لهم. فجعلوهم آلهة مع الله. هذا الذي أنكره الله عليهم.
وقوله: سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، أي: الأقوات تلك كل من هو أهل لها يعطاها، ولا يحرم منها أحد.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ [فصلت:11]، معنى استوى : قصد وأراد أن ينفذ ما أراده فيها. فَقَالَ لَهَا [فصلت:11]، أي: للسماء وَلِلأَرْضِ [فصلت:11] معها اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [فصلت:11]. فأجابتا قائلتين: أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، أي: جئنا طائعين. وسبحان الله العظيم! فوالله لو ينفتح لنا الباب وتنشرح الصدور ونتصور هذا التصور العظيم فوالله لنخر ساجدين؛ لعظمة الرب وجلاله وكماله، ولعرفنا أننا عندما نعصيه ونخرج عن طاعته أن هذا هو الموت لا الحياة.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [فصلت:11]، أي: قصدها، وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].
وهذه الأيام ما كانت موجودة يومئذ؛ لأنه ما كان هناك شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار. وإنما هذا باعتبار التقدير بأيامنا هذه، فهي مقدرة بالساعات. فقد قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ [فصلت:11] معها اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [فصلت:11]، فأجابتا: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ [فصلت:11-12]، أي: حكم بهن وأوجدهن سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12]. وهما الخميس والجمعة.
ثم في آخر يوم الجمعة خلق آدم، وروي: أنه في ذلك اليوم أنزله إلى الأرض، ويوم القيامة يكون يوم الجمعة. وسمي يوم الجمعة لاجتماع هذه الأشياء كلها فيه، فهذا الخلق كله اجتمع يوم الجمعة، فلذلك سمي يوم الجمعة.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ [فصلت:11]، أي: قال لهما: يا أرض! ويا سماء! اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [فصلت:11]، فأجابتا و قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]. فكانت السماوات السبع والأرضين السبع، وكل ما فيهما.
ثم قال تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:12] من المخلوقات من الملائكة، وما شاء الله، وأمر كل سماء بما فيها، وَأَوْحَى [فصلت:12] بمعنى: أمر فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:12].
ولا يوجد مُكَوَّن بدون من كونه، بل مستحيل أن يوجد كأس فقط بدون صانعه .. بل إبرة .. بل ورقة، فالذي كون هذا الكون وأوجد هذا الليل والنهار هو الله. وقد عرفناه، والحمد لله.
فاللهم أحينا على لا إله إلا الله، وتوفنا على لا إله إلا الله، وارض عنا كما رضيت عن أوليائك، وأدخلنا معهم في طاعتك اليوم، وفي جنتك غداً يا رب العالمين!
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: الكفر بالله لا ذنب فوقه، فما بعد الكفر ذنب، وهو عجيب، وأعجب منه اتخاذ أصنام وأحجار وأوثان تعبد مع الله، الحي القيوم، مالك الملك، ذي الجلال والإكرام ] فلا ذنب أعظم من الكفر أبداً، فالكفر أعظم الذنوب. وهؤلاء قد كفروا الله وجحدوه، وجحدوا آياته وقدرته، وعلمه وإلهيته، وعبدوا الأصنام معه. وليس هناك بشاعة أكثر من هذه البشاعة، ولهذا جاء هذا التوبيخ بقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ [فصلت:9]؟ وهذا من باب التقريع والتوبيخ، أي: أين يذهب بعقولكم؟ وهذا موجه إلى عبدة الأصنام، وعبدة الشهوات والأهواء والدنيا.
[ ثانياً: بيان الأيام التي خلق الله فيها العوالم العلوية والسفلية، وهي ستة أيام، أي: على قدر ستة أيام من أيام الدنيا هذه، مبدوءة بالأحد، منتهية بالجمعة ] وأربعة أيام منها للأرض وما فيها، ويومان للسماء وما فيها [ وقدرة الله صالحة لخلق السموات والأرض وبكل ما فيهما بكلمة التكوين (كن)، ولكن لحكم عالية أرادها الله تعالى، منها: تعليم عباده الأناة والتدرج في إيجاد الأشياء شيئاً فشيئاً ] ولذلك تدرج في خلق الكون في ستة أيام، وهو قادر على أن يخلقه بكلمة كن، فيكون.
وقد قال ابن عباس : قال الله تعالى للسماء: أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك، وأجري سحابك ورياحك، وقال للأرض: شقي أنهارك، وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين، قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].
[ ثالثاً: لا تعارض بين قوله تعالى في هذه الآية: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [فصلت:11] المشعر بأن خلق السموات كان بعد خلق الأرض، وبين قوله: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [النازعات:30] من سورة النازعات، المفهم أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء؛ إذ فسر تعالى دحو الأرض بإخراج مائها ومرعاها، وهو ما ترعاه المخلوقات التي سيخلقها عليها ] وأما خلقها فقد خلقها في الأيام الأربعة، ولكن قوله: دَحَاهَا [النازعات:30]، أي: بعدما خلقها أخرج ماءها ومرعاها، وجبالها وأرساها.
قال: [ ثم قوله: خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:9] على صورة يعلمها هو ] جل وعلا [ ولا نعلمها نحن [ وتقدير الأقوات في قوله: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [فصلت:10] لا يستلزم أن يكون فعلاً أظهر ما قدره إلى حيز الوجود، وحينئذ لا تعارض بين ما يدل من الآيات على خلق الأرض أولاً، ثم خلق السموات، وهو الذي صرحت به الأحاديث؛ إذ خلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين، وبعد أن خلق السموات دحا الأرض، فأخرج منها ما قدره فيها من أقوات وأرزاق الحيوانات، حسب سنته في ذلك.
رابعاً ] وأخيراً: [ بيان فائدتين عظيمتين للنجوم:
الأولى: أنها زينة السماء، بها تضاء وتشرق، وتذهب الوحشة منها.
والثانية: أن ترمى الشياطين بالشهب من النجوم ذات التأجج الناري ].
والثالثة: الاهتداء بها في معرفة البلاد والقبلة، كما قال تعالى: النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97]. فقولوا: الحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله أننا مسلمون، وبلايين الخلق كافرون مشركون، عمي صم، لا يعقلون ولا يفهمون، ولا يذكرون الله ولا يعرفون. فالحمد لله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر