أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت:6-8].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6]، الآمر بهذا الله منزل الكتاب، فالله هو الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل مكة وللمشركين: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [فصلت:6]. ولم أقل لكم: إنني ملك من الملائكة، ولا أنا جان من الجن، وإنما أنا بشر مثلكم، أوحى الله إلي وكلفني، فأنا أدعوكم وأبلغكم، وأنتم تنكرون هذا، وتتكبرون علي، وتنصرفون عني. وأنا ما طالبتكم بشيء أبداً، لا بمال ولا بدنيا، ولا بغير ذلك، ولا ادعيت أنني كذا وكذا، بل أنا بشر مثلكم، أبلغكم عن ربكم ما أراده منكم فقط.
والوحي أو الإيحاء: الطريق الخفي، بحيث لا تشاهد أنت ذلك، بل يقع في نفس الموحى إليه. فهو إعلام سريع بطريق خفي. والله يوحي إلى من يشاء من عباده، فيصطفي ويختار رجالاً مؤمنين، ويوحي إليهم؛ ليبلغوا أمره ودعوته لعباده؛ من أجل أن يسعدوا ويكملوا، ويعزوا ويرتفعوا.
وقوله: أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [فصلت:6]، أي: معبودكم الحق الذي لا معبود سواه واحد لا ثاني له. وقالت النصارى: الآلهة ثلاثة. وهذا باطل، وإنما هو إله واحد فقط، وليس معه لا عيسى ولا مريم ولا جبريل.
الاستقامة بمعنى أنه لما يكون الرجل ماشٍ في طريق ليصل إلى هدفه المعين فإن سلك الطريق ومشى وصل، وإذا كان يميل يميناً ويميل شمالاً ويذهب يميناً وشمالاً ما يصل ولا يقدر.
والطريق أبناء الإسلام! وإخوة الإسلام! هو الإسلام القائم أولاً على العقيدة، والإيمان بالله ولقائه، والإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالله وقضائه وقدره، والإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله؛ لأن الإيمان كما علمتم هو والله بمنزلة الروح، وإن كان بعض الإخوان ما يرضون باليمين، وكان الرسول يحلف، ووالله إن الإيمان بمثابة الروح، وصاحبه حي، يسمع ويبصر، وينطق ويأخذ ويعطي، وفاقده ميت. وهذه الحقيقة. فالإيمان بمنزلة الروح، فمن آمن حيي، فمره يفعل، وانهه يترك، ولكنه قبل أن يؤمن إذا قلت له: صل فإنه لا يصلي، وإذا قلت له: لا تشرب الخمر ما يشربها؛ لأنها ميت ما يسمع نداءك، ولا يفهم قولك.
وهذه الآية مثل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]. فهم أولاً آمنوا، ولما آمنوا بالله ولقائه استقاموا على الإسلام، ومشوا في طريقه إلى الجنة بإذن الله تعالى.
وهذه الطريق هي أوامر نواه، وهذه المأمورات التي أمر الله بها عن يمينك، والمنهيات التي نهى الله عن شمالك، فامش فقم بالواجب، وانهض بالمأمور، وتخلى وابتعد وتجنب المنهي عنه والمنكر، فإنك تصل والله إلى دار السلام.
وقوله: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ [فصلت:6]، أي: امشوا مستقيمين إلى ربكم، ولا تلتفتون يميناً ولا شمالاً، ولا اللات ولا العزى، ولا عيسى ولا مريم ، ولا العزير ولا فلان، ولا عبد القادر ولا إدريس ، ولا مولاي كذا وكذا، بل ما هو إلا الله، بل استقيموا بوجوهكم إليه، ولا تلتفتوا إلى غيره، ولا تنظروا سواه. هذا أولاً.
وباب الاستغفار مفتوح عباد الله! فربنا يدعونا ويطلب منا أن نستغفره ونتوب إليه، فإذا زلت القدم وسقط العبد فقال باطلاً أو فعل محرماً أو ترك واجباً فعليه أن يرجع على الفور، ويقول: استغفر الله. ولا تفارقه هذه الكلمة حتى ينمحي ذلك الأثر ويزول، ولا يبقي في نفسه ظلمة ولا عفن ولا نتن. ولذلك اطلبوا المغفرة منه، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
والشرك -يرحمكم الله- هو: أن تسوي بالله مخلوقاً من مخلوقاته، وتشركه في ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته، وفي عباداته، ذلكم هو الشرك، كما تشرك فلاناً في بستانك، أو تشركه في دكانك، فيصبح له حظ معك. فالعبادات التي تعبد الله بها البشرية كلها لله، ولا يصلح أن تعطى لغيره أبداً، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا ولي من الصالحين.
ونلفت النظر إلى ما هو بيننا، وهو: أن العوام ما زالوا يدعون النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم: يا رسول الله! ويدعون فاطمة ، ويدعون حسين ، ويدعون عبد القادر ، ويدعون البدوي ، ويدعون كذا كذا؛ لأنهم ما عرفوا والله. فادع الذي يسمع دعاك ويقدر على إجابتك، وأما الذي تدعوه وهو ميت فإنه ما يسمع، ولا يعطيك، بل أنت فقط بهذا تغيظ الله عز وجل، وتتحداه بأن تدعو غيره، ودعاء غير الله شرك أعظم، ومن أقبح أنواع الشرك؛ لأن الذي أقبل على ميت يدعوه معناه أنه نسي الله عز وجل، وسلب الله ربوبيته وألوهيته، ووضعها على هذا الميت، فهو يدعوه أو يحلف به.
فاعلموا يرحمكم الله أن الشرك ذنب عظيم، وسبب عظمه: أنك سويت مخلوقاً بالخالق، وجعلته مثله، وفوق ذلك فأنت لما تدعو الآن وتقول: يا رسول الله! المدد أو الغيث، والله إن هذا الرسول لا يسمعكم، وهو في الجنة، وإن فرضنا أنه سمع فلن يمد يده إليكم، ولن يعطيكم، فليس لكم حق في أن تدعوه.
والرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا إلا بالسلام عليه، فسلموا عليه حيثما كنتم، فإنه يبلغه سلامكم، فإذا وقفت على قبره الشريف وقلت: السلام عليك رسول الله! فعلى الفور يرد عليك السلام فقط، وأما أن تقول: زوجتي أو ولدي مريض فادع الله لي أو افعل بي كذا وكذا، فهذا كله باطل ومنكر، وحرام وشرك.
فيا عبد الله! أقم وجهك لله، ولا تلتفت إلى أحد، ولا ترى إلا الله.
وقوله: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6]، هو عذاب جهنم لهم؛ لأنهم جهلوا الله، وأعرضوا عنه، وسووا المخلوقات به، وأصبح الله ليس بولي لهم، ولا هم أولياء له، وإنما هو عدوهم، وهم أعداء له، ولذلك فلن يسعدوا ويكملوا.
ثانياً: كان المشركون في مكة يسقون الحجاج، ويطعمون الفقراء والمساكين، ويؤوون الضالين، ثم لما جاء الإسلام أصبحوا لا يعطفون على مسلم أبداً، لا بلال ولا عمار ولا أحد، ومنعوهم من تلك الزكاة التي كانوا يعطونها، فلهذا قول تعالى: الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:7]. فهم أولاً: لا يعطونها لأنفسهم؛ لتزكو نفوسهم وتطيب وتطهر.
وثانياً: منعوا المؤمنين الذين هم فقراء بين أيديهم، فقد منعوهم مما كانوا يعطونهم في الجاهلية وأيام الكفر.
وقوله: وَهُمْ بِالآخِرَةِ [فصلت:7] أي: بالدار الآخرة وبالحياة الآخرة الثانية هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:7]، أي: جاحدون منكرون بالبعث، وأنه لا حياة بعد الموت.
وهذا هو واقع العالم اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم، فالمؤمنون بالدار الآخرة ولا (1%)، وسواء كانوا نصارى أو يهوداً أو غيرهم، وإن ادعى النصارى أنهم يؤمنون بالآخرة ولكنهم ما يعملون لها، ولا عرفوا الطريق إليها، ولا رضوا بذلك، فكفرهم كإيمانهم.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [فصلت:8]، أي: بالله ولقائه، وكتبه ورسله، وقضائه وقدره، ولقائه في الدار الآخرة وبكل ما أمر العباد أن يؤمنوا به ويصدقوا، ثم بعد ذلك عملوا الصالحات. والصالحات ضد الفاسدات، فالفاسد ضد الصالح. وهذه الأعمال التي تقوم بها البشرية كلها بعضها صالح وبعضها فاسد والله العظيم. والصالح هو: ما أمر الله به وشرعه، وأنزل به وحيه وبعث به رسوله، وما عدا ذلك فكله عمل فاسد. فأعمال البشرية صنفان: أعمال صالحة، وأعمال فاسدة. والأعمال الصالحة هي تلك التي فرضها الله، وانتدب إليها، وأنزل وحيه بها، وبعث رسوله بها، من شهادة أن لا إله إلا الله، إلى إقام الصلاة .. إلى كل العبادات، مع اجتناب كل المحرمات. فالذين يقومون بها هؤلاء هم أهل العمل الصالح.
والذين يكفرون بالله ولقائه، ويفجرون ويفسقون، ويكذبون ويخدعون، ويغشون ويتكبرون أولئك أعمالهم كلها أعمال فاسدة، وليسوا أهل الأعمال الصالحة.
وفي قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [فصلت:8] بدأ بالإيمان؛ لأن الذي ما آمن ميت، ولن يعمل أبداً. وأنت إذا قلت ليهودي: صم فلن يصوم، وإذا قلت لنصراني: أخرج زكاة ما يزكي؛ لأنه ميت.
إذاً: الإيمان هو بمنزلة الروح، وإذا دخلت روح في الجسم حيي، فالعين تبصر، واللسان ينطق، واليد تأخذ وتعطي؛ لحياته، ولذلك قال في الآية: آمنوا أولاً، ثم عملوا الصالحات.
وهكذا إذا جاء يهودي أو نصراني أو بلشفي يقول: أريد أن أدخل في الإسلام فنقول له: أولاً قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا دخل في الإيمان وشهد شهادة الحق قلنا له: صل، فيقوم يصلي، وإذا قلنا له: انزع البرنيطة من على رأسك والله ينزعها على الفور؛ لأنه آمن. وقبل أن يؤمن فهو ميت، لا يؤمر بشيء أبداً، ولا ينهى عن شيء.
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت:8]، أي: غير مقطوع أبداً. فأجر الجنة لا ينقطع، وثمارها لا ينقطع عاماً بعد عام، ولا فصلاً بعد فصل والله، فلا ينقطع أجرها أبداً، بل نعيم الجنة دائم كعذاب النار دائم. وهذا العالم عالم الزوال والفناء، وليس هو عالم الخلود، وأما ذلك العالم فهو عالم الخلود، وليس بعده شيء، بل يبقى هكذا دائماً. فقولوا: آمنا بالله .. سبحان الله العظيم! .. سبحان الله وبحمده! .. سبحان الخلاق العليم! .. لا إله إلا الله!
وهذا العالم في السماء في الجنة، وهو ما يفنى ولا يزول. وكذلك هناك عالم تحت الأرض السفلية، لا يفنى ولا يزول أبداً، وليس فيهما ليل ولا نهار أبداً، ولا عام ولا شهر، بل حياة أبدية. فسبحان الله العظيم!
وهذا الذي فعل هذا يجب أن يُعبد وأن يُحب، وأن يتقرب إليه ويتزلف إليه، وويل للمشركين وللكافرين.
اللهم اجعلنا من صالحي عبادك يا رب العالمين!
[ من هداية ] هذه [ الآيات ] التي تدارسناها عباد الله!:
أولاً: تقرير النبوة ] المحمدية [ والتوحيد ] فهي تقرر أن محمد بن عبد الله والله لنبي الله ورسوله، فقد قال فيها: يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6]. وها هو الوحي بين أيدينا، والذي أوحاه ليس معدوماً بل موجود، وهو الله. فهي تقرر لا إله إلا الله، محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ ثانياً: وجوب الاستقامة على شرع الله ] وكيفية الاستقامة على شرع الله: أن نبر الوالدين ونعبد الله رب العالمين، ولا نسرق ولا نفجر، لا نرابي ولا نقول الباطل، ولا نكذب ولا نخدع، ولا نترك واجباً ولا نفعل محرماً. هذه هي الاستقامة، فليس هناك اعوجاج، فاستقيموا إلى ربكم، ولا تنظروا إلا إليه، ولتكن قلوبكم معلقة بربكم فقط، فهو الذي يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ولا يفعل هذا غيره، لا صنم ولا حجر، ولا نبي ولا ملك.
[ ثالثاً: وجوب الاستغفار ] الحتمي [ من كل ذنب، صغيراً كان أو كبيراً ] فإذا نظرت نظرة إلى امرأة في الطريق فقل: أستغفر الله وأتوب إليه، وإذا قلت كلمة نابية .. سخرت من عبد أو استهزأت به فقل: أستغفر الله، وإذا مشيت خطوة إلى معصية فقل: أستغفر الله. فلا بد من الاستغفار؛ ليزول ذلك الظلام والعفن والنتن، وتبقى النفس طيبة مشرقة؛ ليرضى الله عنها، وإذا توفاها ينقلها إليه. فالاستغفار من فضل الله علينا، فهو كالماء والصابون في غسل أبداننا وثيابنا، ولو ما وجد ماء وصابون ما تغسل أبداً، بل تزيد تتلطخ.
والاستغفار أعظم من الماء والصابون للأبدان، فإذا استغفرت الله وقلت: أستغفر الله في صدق وجد وأنت عازم على أن تترك المعصية والله ليغفر لك ذنبك ويمحى.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ وجوب الزكاة في الأموال، ووجوب تزكية النفوس بالإيمان وصالح الأعمال ] والنفوس تزكى بمعنى: تطيب وتطهر، كالثياب تغسل وتنظف. والأنفس البشرية تتدسى وتخبث، ويظهر ذلك في سلوك صاحب النفس، فصاحب النفس الخبيثة المنتنة ترونه بينكم كذاباً سارقاً، مجرماً عاقاً؛ لأن نفسه مظلمة عفنة منتنة. وصاحب النفس الزكية الطيبة الطاهرة لا تسمعون منه إلا الخير، ولا ترون إلا الخير؛ لزكاة نفسه وطهارتها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر