إسلام ويب

تفسير سورة غافر (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أسلوب الترغيب والترهيب أسلوب قرآني حكيم، فبعد أن ذكر الله حال الملائكة مع المؤمنين، من الاستغفار لهم وسؤال الله لهم الجنة، جاء هنا يذكر حال الملائكة مع أهل الكفر والجحود، حيث إن زبانية العذاب حين يقاد إليهم الكفار يوم القيامة يخاطبونهم بأن مقت الله لهم وملائكته أشد من مقت بعضهم لبعض، فالله كان يمقتهم في الدنيا، وهو يمقتهم في الآخرة، فما حال إنسان يتقلب في مقت الله وسخطه وغضبه، أنى له الفلاح والنجاة، ومن يستجيب له النداء والرجاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:10-17].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! في الآيات السابقة والتي تدارسناها بالأمس فيها بيان ما أعد الله وهيأه لأوليائه، وهم صالحو عباده الذين آمنوا به وبرسوله وبلقائه، وعبدوا الله بما شرع لهم من عبادات، وتركوا الشرك، وابتعدوا عن الكفر والفسق والفجور، فقد ذكر ما أعد لهم من ذلك النعيم المقيم.

    وهنا ذكر ما أعد للكافرين من العذاب الأليم، وهذا هو أسلوب القرآن في الترغيب والترهيب، وهذه سنة بشرية، فالإنسان ما يستجيب لك أبداً إلا إذا رغبته أو رهبته، فهو لا يستجيب إلا بالترغيب أو الترهيب، وكل عاقل إذا رغبته استجاب لك ومشى وراءك، وأعطاك ما طلبت منه، أو إذا رهبته وخوفته وأريته الخوف فكذلك يستجيب لك.

    والقرآن الكريم على هذا المنهج، وهو الترغيب فيما عند الله من النعيم المقيم، والترهيب فيما لدى الله من العذاب الأليم. وهذا هو كتاب الله من أوله إلى آخره.

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر:10] وجحدوا، وما آمنوا بالله رباً وإلهاً، لا رب غيره، ولا إله سواه، وجحدوا نبوة رسول الله، ولم يصدقوا أن محمداً رسول الله، وأنكروا البعث الآخر والدار الآخرة، فهؤلاء الذين كفروا يُنَادَوْنَ [غافر:10]: يا معشر الكفار! .. يا أيها المشركون! .. يا فساق! .. يا فجار! والذي يناديهم الزبانية وهم في جهنم، وهم الملائكة المخصصون بتعذيب الفساق والفجار والكافرين. فهم يُنَادَوْنَ [غافر:10] ويقولون لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر:10]. لأنهم في جهنم يمقت بعضهم بعضاً، وينادي بعضهم بعضاً: أنت السبب .. أنت الذي دعوتنا .. أنت الذي زينت لنا الفجور .. أنت الذي رغبتنا في الباطل، والآخر يقول كذا، ويمقتون بعضهم بعضاً. والمقت أشد البغض. فيقولون لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر:10] اليوم؛ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10]. فمقت الله لكم في الدنيا أيام كان رسلنا يدعونكم إلى الإيمان بالله ولقائه والعمل الصالح، وإذا بكم تكفرون ولا تستجيبون أبداً، وتعاندون، وكذلك مقت الله لكم في ذلك اليوم أعظم من مقتكم الآن في هذا اليوم، كما قال: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ وذلك إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ [غافر:10]. وهذا تنديد بالكفر، ووعيد شديد للكافرين، والعياذ بالله. فهيا بنا نقول: آمنا بالله .. آمنا بلقاء الله .. آمنا بتوحيد الله .. آمنا برسول الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا ...)

    قال تعالى حاكياً عن هؤلاء الكفار أنهم: قَالُوا رَبَّنَا [غافر:11]، أي: يا ربنا! أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر:11]. وهذا لا ينفعهم؛ لأنهم كانوا أمواتاً فأحياهم الله، ثم أماتهم. فهاتان موتتان، وكذلك أحياهم اثنتين، فقد أحياهم لما خرجوا من بطون أمهاتهم وعاشوا أحياء، ثم أماتهم، ثم أحياهم في البعث. فاعترفوا بقدرة الله وبعظمة الله وبفضل الله، فالذي أحيانا وأماتنا هو الله، فهو الذي أحيانا مرتين، وأماتنا مرتين، فآمنا به.

    ولكن هذا الإيمان لا ينفعهم الآن، ولا ينفعهم وهم في جهنم.

    ثم قالوا: فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا [غافر:11]، وهي الكفر والشرك، والفسق والفجور، فقد اعترفنا بذنوبنا. فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11]؟ أي: فهل من طريق إلى أن نعود إلى الحياة الدنيا؛ لنعبد ربنا ونوحده ولا نشرك به، ونطيعه ولا نفسق عن أمره، فهم يريدون هذا، وقد توسلوا إلى الله بقولهم: رَبَّنَا [غافر:11]، أي: يا ربنا! أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11]؟ أي: فهل من طريق لنعود إلى الدنيا؛ لنعبد الله وحده ولا نشرك به، ولا نعصيه ولا نفسق عن أمره؟ هذه هي طلباتهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم ...)

    أجاب الله تعالى على طلبات الكفار بالخروج من النار والعودة إلى الدنيا بقوله: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر:12]. فهذا العذاب وهذا الخزي وهذا البلاء وهذا الشقاء وهذا المقت الكبير سببه أنكم كنتم في الدنيا إذا دعي الله وحده كفرتم، ولا تريدون أن نقول: يا رب! فقط، بل يا رب! ويا فلان! معه، أو يا ألله! ويا اللات! أو العزى! وكانوا في التلبية يقولون: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وما يريدون أن يوحدوا الله حتى في التلبية. فكانوا يحجون ويعتمرون ويلبون ويقولون: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فكانوا لا يوحدون الله حتى في التلبية.

    وها هو ذا تعالى يعيبهم ويوقفهم على زلاتهم وسقطاتهم، فيقول: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غافر:12]. فقد أبوا أن يعترفوا بأنه لا إله إلا الله، وأما إذا اعترف المعترف بالله فقد استجاب وقبل، وهم حتى في التلبية كما قلت لكم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.

    فقوله: ذَلِكُمْ [غافر:12]، أي: الذي حل بكم ونزل بساحتكم من الخزي والعذاب والمقت بسبب أنكم إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غافر:12]. ولا تريدون أن تقولوا: لا إله إلا الله أبداً، بل لا بد مع الله غيره.

    ومن اللطائف التي ما ننساها: يا ويل الذين يقولون: يا رب! .. يا رسول الله! أو يا ألله! يا نبي الله! أو يا رب! يا سيدي فلان! فهؤلاء -والله- أشركوا في دعاء الله، فيجب أن نعلمهم، وأن نوقفهم عند حدهم، فنقول لمن يقول هذا: أنت مؤمن وتقيم الصلاة وتصوم وتحج وترابط وتجاهد ثم تشرك وأنت لا تشعر، فوحد ربك. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم بيمني يطوف بالبيت وهو يعمل هكذا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وحد، وحد ) بأعلى صوته، أي: اكتف بلا إله إلا الله، وأما يا رب! ويا سيدي فلان! أو يا رسول الله! .. يا فاطمة ! .. يا حسين ! .. يا كذا! فهذا والله لشرك والعياذ بالله. وقد وقع فيه جهال هذه الأمة، والسبب معروف، وهو: أنهم أبعدوهم عن القرآن، وأبعدوهم عن السنة، فضلوا وجهلوا، فأصبحوا يخلطون هذا، ويدعون أنهم مؤمنون من أهل لا إله إلا الله.

    واسمعوا الله تعالى يعيب ويوبخ أهل النار بقوله: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غافر:12]، أي: إنكم ما تريدون الله وحده، بل تريدوا أن تذكروا معه غيره، مثل أن تقولوا: يا رب! .. يا سيدي عبد القادر ! أو يا رب! يا رسول الله! وكل هذا شائع وذائع بين المسلمين من قرون، وسبب ذلك: أنهم أبعدوهم عن دراسة القرآن الكريم، وقالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، فإن فسرت وأصبت أنت مخطئ، وخطؤه كفر. فما بقي من يقول: قال الله أبداً من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، ولا بقي من يقول: قال الله، وإذا قال أحد: قال الله قال له من يسمعه: اسكت، فلم تعد تسمع إلا قال سيدي فلان، وقال الشيخ الفلاني. ومن ثم انتظمنا الجهل وعمنا، وأصبحنا ما ندعو الله وحده، بل ندعو معه غيره. لو قرأنا هذه الآية وفسرت لنا فوالله ما نذكر غير الله أبداً، فاسمعوا الله تعالى يقول للكفار في النار: ذَلِكُمْ [غافر:12] الذي حل بكم من البلاء والعذاب بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر:12].

    ثم قال تعالى: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12]. فالحكم الآن لله، وقد حكم بخلودكم في جهنم، فلا تعودون إلى الدنيا، ولا تخرجون منها أبداً، ولا تعبدون الله، فالله في غنى عنكم. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12]. وقد حكم بإدخالكم النار وخلودكم فيها، فلا تعتذرون وأنتم فيها، ولا تقولون شيئاً، ولا يقبل منكم شيء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً ...)

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ [غافر:13]. فهو يعرفهم بالله، ولو عرفوه ما كفروا ولا جهلوا. فهو يعرف الأحياء منا على هذه الأرض، فهو يقول: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ [غافر:13]. وهي في الشمس والقمر، وفي الليل والنهار، وفي كل هذه الكائنات، وكذلك آياته التي ينزلها على أنبيائه ورسله، ويدعو بها عباده إلى الإيمان به وعبادته وحده، فهو يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر:13]. وهي الأمطار التي بها تحيا الأرض، وبها تأكلون وتشربون. فالله هو الذي يفعل بكم هذا في الدنيا، فهو يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غافر:13]، أي: ولكن ما يتذكر إلا من ينيب، وأنتم ما أنبتم إلينا، ولا رجعتم إلى عبادتنا وتوحيدنا، وما فهمتم ولا علمتم، ولا عبدتم الله عز وجل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)

    قال تعالى لعباده الآن: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14]. وهذه الآية عامة لأهل الأرض كلهم، وتتناولنا نحن أولاً. فهو تعالى يقول: فَادْعُوا اللَّهَ [غافر:14] يا عباد الله! مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] ذلك. فلا تبالون بكفرهم وعنادهم أبداً.

    والدعاء هو العبادة، بل الدعاء مخ العبادة، فمن لم يدع الله ما آمن به، ومن لم يدع الله ما عرف جلاله ولا كماله.

    وهنا مع الأسف لطيفة علمية، وهي: أن من آثار التصوف الذي هبطت به الأمة أن يقول أحدهم: حالي تغني عن سؤالي، فأنا لن أسأل ربي، فهو يعلمني، فإذا كنت جائعاً .. عارياً .. فقيراً .. محتاجاً .. مريضاً فلا أقول: يا رب! فهو يعرفني، وحالي تغني عن سؤالي. وأقول: والله إنهم أرادوا بهذا أن يكمموا أفواه الأمة؛ حتى لا تدعو الله عز وجل.

    وقولهم: حالي تغني عن سؤالي مدونة مكتوبة في الكتب، ويرددها المتصوفة.

    وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام لما وضع في المنجنيق ليرمى به في عذاب الجحيم التي أوقدوها في الطريق عرض له جبريل، فقال له: هل لك يا إبراهيم! من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. وقوله: حسبي الله أي: يكفيني الله. وهم قالوا: حالي تغني عن سؤالي. وهذا إبراهيم لما وضع في المنجنيق ورمي به ليصل إلى أتون الجحيم التي أججوها أربعين يوماً من أجل إعدامه عرض له جبريل، فقال: إبراهيم! هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. وقال هذه الكلمة أصحاب رسول الله لما تحزب عليهم الأحزاب، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وكفاهم الله تحزب الأحزاب.

    والشاهد عندنا: قوله تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14]. فلا يفارق الدعاء ألسنتنا وقلوبنا، وهو العبادة، فقد قال الرسول الكريم: ( الدعاء هو العبادة ). فلا تفتر من أن تدعو الله عز وجل.

    وقد بينا أولاً: أنك لما ترفع يديك هكذا إلى ربك فهذه الصورة تمثل أنك ما عرفت غير الله، فيعطيك حاجتك، وإلا لقلت هكذا بيدك أو هكذا.

    وثانياً: إذا رفعت رأسك فقد علمت أن الله فوق سبع سماوات فوق عرشه، بائن من خلقه.

    وثالثاً: عندما تقول: يا رب! .. يا رب! فلولا علمك أنه يسمع دعاءك والله ما ناديته، فأنت تنادي الذي ما يسمعك، وقد علمت أن الله يسمع دعاءك.

    ورابعاً: لو عرفت أنه ما يقدر على قضاء حاجتك ما سألته ولا طلبت منه.

    فلهذا أنت واقف تدعو فأنت تمثل التوحيد بكامله والإيمان. فلهذا يجب ألا ندعو إلا الله، ولا نشرك بدعائه أحداً، كما قال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14]. لأن الكافرين ما يريدون أن تقول: يا رب! فقط، بل يريدون أن تقول: يا رب! ويا فلان! فهم يريدون أن تشركوا مع الله غيره، سواء اليهود أو النصارى، أو الجهال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ...)

    قال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر:15]. ويوم التلاق هو يوم القيامة، فهو يوم التلاقي؛ إذ تلتقي البشرية كلها ببعضها البعض في ساحة واحدة، ونلتقي بربنا عز وجل، فذلكم هو يوم التلاقي الحق.

    وهنا يقول تعالى يثني على نفسه بما يمجدها: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ [البقرة:255]. وما أعلى درجاته! وما أعلى مقامه! فهو صاحب العرش العظيم. وقد قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]. والعرش فوق ذلك.

    وقوله: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافر:15]، أي: بالوحي عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]، أي: على من يريد من أنبيائه ورسله.

    ثم بين السبب في أنه يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ويلقي عليه الوحي وذلك لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر:15]، أي: لينذر الرسول الذي يرسله الله المؤمنين، ويخوفهم من يوم القيامة، هو يوم التلاقي.

    وهذه الآيات كلها تقرر النبوة المحمدية والبعث الآخر، والتوحيد، فهو تعالى يقول: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14] دعوة إلى التوحيد. ثم يقول تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15]. وهذا فيه تقرير للنبوة المحمدية، وتقرير ليوم القيامة؛ إذ هو يوم التلاقي.

    وكما قلت لكم: السور المكية لا تخرج عن هذه الدائرة؛ لأن من لم يعتقد أنه لا إله إلا الله ما عبد الله، ومن لم يعتقد أن محمداً رسول الله والله ما عبد الله، ومن لم يعتقد أن البعث والدار الآخرة حق والله ما يعبد الله، بل هو ميت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء ...)

    قال تعالى: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ [غافر:16]، أي: ظاهرون؛ لأنهم في أرض بيضاء كالصفحة البيضاء، ما فيها تل ولا جبل ولا انخفاض، بل هي أرض واحدة كخبز الطعام. فيتلاقون هناك، وهم بارزون لله، لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر:16]. ووالله ما يخفى من بلايين البشر إنسان أبداً، بل الكل بين يدي الله. وهذا هو يوم التلاقي. وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا نكون على أرض بيضاء كالصفحة، ليس فيها تل ولا جبل ولا انخفاض كهذه الورقة. وهم في ذلك المكان لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر:16]. فلا تتصور أنه في الإمكان أن تختفي أو تدخل بين اثنين أو كذا، فوالله لا يخفى على الله منا شيء، فهو تعالى يقول وقوله الحق: يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ [غافر:16]، أي: ظاهرون، لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ [غافر:16].

    ثم يقول الجبار نفسه: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ والخليقة كلها بين يديه، وليس هناك بستان ولا جدار، ولا فرس ولا مال، ولا غير ذلك، بل الخليقة كلها على أرض بيضاء، فيقول تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه بنفسه فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه. وهو الواحد في أسمائه وصفاته، والواحد في أفعاله، ولا شريك له في عبادته، فهو الواحد الأحد، وهو الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]. الذي يقهر الجبابرة والطغاة، والظلمة والمعاندين، فهو القهار. وها هي البشرية كلها بين يديه، وليس هناك سلطان ولا ملك، بل كلهم على مستوى واحد، فيقول لهم: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟ فيجيب نفسه بنفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]. الذي قهر الظلمة والجبابرة، ودمر عاداً وثمود، وفرعون وقوم لوط، وما إلى ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم ...)

    قال تعالى: الْيَوْمَ [غافر:17]، أي: هذا اليوم والخليقة بين يديه تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [غافر:17]. فتجزى كل نفس كبيرة أو صغيرة، شريفة أو وضيعة، في الأولين أو في الآخرين، من آدم إلى آخر ساعة من ساعات هذه الحياة. فـ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [غافر:17] من عقيدة .. من قول .. من عمل. فالذي كسبته من الخير من الشر تجزى به والله العظيم، وليس هناك ما يمكن أن يخفى عن الله أبداً؛ إذ هم بين يديه، وتجزى كل نفس بما كسبت.

    ثم قال تعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، أي: لا ظلم في هذا اليوم، والخليقة بين يديه، والجنة مفتحة الأبواب، والنار كذلك.

    وقوله: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [غافر:17]، يبين أن للنفوس كسباً، فالكذب كسب، وكلمة سبحان الله كسب، واللقمة الحلال تأكلها كسب، واللقمة الحرام تأكلها كسب، وهكذا كل حركاتنا وسكناتنا كسب لنا، ونجزى بها. و لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17] أبداً.

    ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17]. واليوم طوله خمسون ألف سنة من أيام الدنيا هذه. فما هو إلا نصف النهار وإذا أهل الجنة قائلون في الجنة، مستريحون في الجنة دار النعيم المقيم. فهو سريع الحساب، فبلايين البشر وبلايين الجن يحاسبهم واحداً واحداً، وتوزع عليهم الكتب، ويستنطقون فيه، وهذا اليوم لا يتسع لهذه الخليقة. ولكن المؤمنين أولياء الله الذين آمنوا بالله وعبدوه وحده، وأخلصوا له دينه وماتوا على ذلك ما هو إلا أقل من نصف النهار وهم في الجنة مقيمون، بل قائلون.

    وهكذا يرهب الله تعالى عباده كما يرغبهم؛ من أجل أن يكملوا في دنياهم ويسعدوا، ومن أجل أن يسعدوا في آخرتهم. ووالله لا غرض لله إلا هذا فقط، وأما هو فهو في غنى مطلق عنهم، ولو شاء ما خلقهم، فهو ليس في حاجة إلى عبادتهم، بل هذه العبادات كلها من أجل العابدين فقط؛ لأن العبادة إذا كانت لله وأديت على الوجه المطلوب الذي بينه رسول الله فإن من شأنها أنها تزكي النفس وتطهرها، وإذا زكت النفس وطابت وطهرت قبلها الله في جواره، وأنزلها في دار الجنة دار النعيم المقيم، وإن خبثت بالشرك والفسق والفجور وتدست وعفنت ونتنت فحاشا لله أن ينزلها في جواره، بل هذه مصيرها عالم الشقاء جهنم، والعياذ بالله.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] هيا بنا مع هداية الآيات:

    [ من هداية ] هذه [ الآيات:

    أولاً: عدم جدوى الاعتذار يوم القيامة، هذا فيما لو أذن للعبد أن يعتذر فلا ينفعه اعتذار ] فقد انتهى الاعتذار أبداً، فلا عذر في يوم القيامة. وأما الاعتذار في الدنيا فممكن أن تعتذر وتتوب ويقبلك الله، وأما في الآخرة فلا عذر أبداً ولا اعتذار.

    [ ثانياً: تقرير التوحيد ] وتحقيقه [ وإبطال الشرك والتنديد به ] وإبعاده؛ لأننا أهل لا إله إلا الله، فلا نستغيث ولا نستعيذ ولا نذبح ولا ننذر إلا لله، بل ولا نرهب ولا نطمع ولا نرجو ولا نخاف إلا الله.

    [ ثالثاً: بيان إفضال الله على العباد؛ إذ يريهم آياته؛ لهدايتهم، ويرزقهم وهم يكفرون به ] ومن إفضال الله علينا: أولاً: أنه خلقنا بعدما خلق الحياة كلها لنا، وثانياً: أنه أرسل رسله إلينا، وأنزل كتبه ووحيه عليهم؛ من أجلنا فقط؛ لنكمل ونسعد في الدنيا والآخرة.

    [ رابعاً: وجوب إخلاص الدعاء وسائر العبادات لله وحده، ولو كره ذلك المشركون ] فأنت تقول: لا إله إلا الله، ويقول الكافر: لا وعيسى، فقل له: لا إله إلا الله. فيجب إخلاص العبادة لله، سواء بالدعاء أو الاستغاثة، أو بالذبح أو بالنذر، أو بالركوع أو بالسجود، فلا معبود بحق إلا الله، وقد قال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14]. ووالله لو يكره الكافرون عبادتنا ما تركناها من أجل كرههم أبداً.

    [ خامساً: تقرير النبوة ] المحمدية [ وبيان الحكمة فيها، وهي: إنذار الناس من عذاب يوم القيامة، حيث الناس بارزون لله، لا يخفى على الله منهم شيء، فيحاسبهم بعلمه وعدله، فلا ينقضي نهار إلا وقد استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. اللهم أعذنا من نار جهنم ] فيجب أن نقول: محمد رسول الله، فإذا قلناها مشينا وراءه واستقمنا على منهجه، وآمنا بما آمن وكفرنا بما كفر، وأحببنا ما أحب رسول الله وكرهنا ما كره رسول الله، ونعمل ما استطعنا على أن نكون وراءه دائماً وأبداً، وألا نختلف معه في شيء لا في العقيدة ولا في الآداب ولا في السلوك.

    هذه هي هداية هذه الآيات. اللهم اهدنا، واعف عنا وعافنا، وأكرمنا يا ربنا! وأسعدنا يوم نلقاك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952263