أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
فهيا بنا نصغي مستمعين إلى هذه الآيات من سورة سبأ المباركة الميمونة ثم نتدارسها، قال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ:24-30].
قُلِ اللَّهُ [سبأ:24]، إذ لا جواب إلا هذا، قُلِ اللَّهُ [سبأ:24]، فهو وحده الذي يرزق عباده، إذ هذه الأرزاق التي يعيش عليها الناس كلها من الله تعالى، إذ هو موجدها وخالقها وموجد أسبابها، فلا رسول ولا ملك ولا نبي ولا ولي يوجد ذلك فضلاً عن الأشجار والأحجار والأصنام والتماثيل، وهذا الأسلوب يجذبهم إلى أن يصغوا ويسمعوا وهم متعنترون متجبرون، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [سبأ:24]؟ فسوف يقولون -واسبقهم أنت وقل-: الله، فمن ينزل المطر من المساء؟ ومن ينبت النبات في الأرض؟
قُلْ [سبأ:25]، أي: يا رسولنا لهم، لا تُسْأَلُونَ [سبأ:25]، أي: لا يسألكم الله عز وجل، ولا يسألنا الله عز وجل عما أجرمنا، وَلا نُسْأَلُ [سبأ:25]، نحن، عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ:25]، فلا يقول لنا ربنا: لماذا فعلوا الجرائم وأنتم موجودون؟ فلا نسأل عما أجرم المجرمون ولا نسأل عما يعملون، لا تُسْأَلُونَ [سبأ:25]، أيها المشركون! ويا أيها الكافرون! عن إجرامنا إن أجرمنا، ووالله ما أجرم رسول الله ولا أصحابه، لكن هذا من باب فتح الباب للتأمل فقط، وَلا نُسْأَلُ [سبأ:25]، نحن يوم القيامة، عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ:25]، أبداً.
قُلْ [سبأ:26]، أي: قل لهم يا رسولنا! يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ [سبأ:26]، وفتح إذا حكم بالعدل وأقامه بين الناس.
ثم قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:28]، وهذه حقيقة أخرى، إذ والله إن أكثر الناس لا يعلمون أن الرسول بشير يبشر المؤمنين العاملين للصالحات بالنعيم المقيم في دار السلام، وبالنصر والطهارة والصفاء في الدنيا، وينذر الكافرين والمشركين ويخوفهم من عذاب الله في الآخرة وما يصيبهم في الدنيا، وهذه حقيقة قد قررها الله أن أكثر الناس لا يعلمون في أي زمان أو مكان؛ لأن العلم الإلهي من طريق معروف ألا وهو الإيمان بالله وبرسوله وكتابه، فلما كفروا بالله وبرسوله وبكتابه فكيف يعلمون؟ إن هذا مستحيل.
ثم قال تعالى: قُلْ [سبأ:30]، أي: قل لهم يا رسولنا! لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ [سبأ:30]، أي: هكذا سجله الله في كتاب المقادير، وذلك في ساعة معروفة لا تتقدم بدقيقة ولا تتأخر بأخرى، فمطالبتكم بالعذاب خطأ ولا معنى لذلك الطلب، إذ إنهم قد طالبوا بالعذاب فقالوا: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [سبأ:29]؟ قُلْ [سبأ:30]، لهم يا رسولنا! لَكُمْ مِيعَادُ [سبأ:30]، أي: موعد محدد.
وقوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، هذا أسلوب التشكيك وحكمته التلطف بالخصم المعاند حتى لا يلج في العناد ولا يفكر في الأمر الذي يجادل فيه، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون هم الذين على هدى، والمشركون هم الذين في ضلال مبين، وهو أمر مسلم لدى طرفي النزاع.
وقوله تعالى: قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ:25]، وهذا أيضاً من باب التلطف مع الخصم المعاند لتهدأ عاصفة عناده ويراجع نفسه عله يثوب إلى رشده ويعود إلى الصواب، فقوله: لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا [سبأ:25]، هو حق، فإنهم لا يسألون عن ذنوب الرسول والمؤمنين، ولكن الرسول والمؤمنين لا ذنب لهم، وإنما هو من باب التلطف في الخطاب، وأما المشركون فإن لهم أعمالاً من الشرك والباطل سيجزون بها، والرسول والمؤمنون قطعاً لا يسألون عنها ولا يؤاخذون بها ما داموا قد بلغوا ونصحوا.
وقوله: قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا [سبأ:26]، أي: يوم القيامة، ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا [سبأ:26]، أي: يحكم ويفصل بيننا، بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ [سبأ:26]، أي: الحاكم، الْعَلِيمُ [سبأ:26]، بأحوال عباده، فأحكامه ستكون عادلة لعلمه بما يحكم فيه ظاهراً وباطناً، وفي هذا جذب لهم بلطف ودون عنف ليقروا بالبعث الآخر الذي ينكرونه بشدة.
وقوله: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ [سبأ:27]، أي: قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين: أروني آلهتكم التي أشركتموها بالله وألحقتموها به وقلتم في تلبيتكم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وهكذا يتحداهم رسول الله بإذن الله أن يروه شركاء لله حقيقة يسمعون ويبصرون، ينفعون ويضرون، ولما كان من غير الممكن الإتيان بهم غير أصنام وتماثيل زجرهم بعنف لعلهم يستفيقون من غفلتهم، فقال: كلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سبأ:27]، أي: ليست تلك الأصنام بآلهة تعبد مع الله، بل المعبود الحق الواجب العبادة هو الله رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، العزيز الغالب على أمره ومراده، الحكيم في تدبير خلقه وشئون عباده.
وقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ:28]، أي: لم نرسلك يا رسولنا لمهمة غير البشارة والنذارة، فلذا لا يحزنك إعراضهم وعدم استجابتهم، فبشر من آمن بك واتبعك فيما جئت به، وأنذر من كفر بك ولم يتابعك على الهدى الذي تدعو إليه.
وقوله تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:28]، فيه تعزية للرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، إذ الواقع أن أكثر الناس لا يعلمون، إذ لو علموا لما ترددوا في عبادة الله وتوحيده والتقرب إليه طمعاً فيما عنده وخوفاً مما لديه.
وقوله: وَيَقُولُونَ [سبأ:29]، أي: أهل مكة من منكري البعث والجزاء، مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [سبأ:29]، أي: العذاب الذي تهددنا به وتخوفنا بنزوله بنا، إِنْ كُنتُمْ [سبأ:29]، أيها المؤمنون! صَادِقِينَ [سبأ:29]، فيما تقولون لنا وتعدوننا به، وهكذا أمر الله تعالى رسوله أن يرد على استهزائهم وعلى تكذيبهم بقوله: قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ [سبأ:30]، يوم معين عندنا محدد لا تستأخرون عنه ساعة، لو طلبتم ذلك لتتوبوا وتستغفروا، ولا تستقدمون أخرى لو طلبتم أيضاً تعجيله، إذ الأمر مبرم محكم لا يقبل النقص ولا الزيادة ولا التبديل ولا التغيير ].
قال: [ ثانياً: تقرير عقيدة البعث والجزاء وتنويع الأسلوب الدعوي في ذلك ]، تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء بأسلوب عجيب ذكره الله تعالى، إذ لابد من حياة ثانية، ولا بد من جزاء فيها على العمل في هذه الدنيا.
قال: [ ثالثاً: تقرير عقيدة النبوة المحمدية وعموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ]، تقرير النبوة المحمدية، إذ محمد هو رسول الله وإن كذب بهذا المكذبون، وأنكر المنكرون، وهو ليس رسول العرب خاصة، بل هو للناس أجمعين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، فرسالته رسالة عامة، والناس مطالبون بها اليوم إلى يوم القيامة، وعلى الكافرين والمشركين في الشرق والغرب أن يسألوا عن هذا الرسول وما الذي تركه؟ وما هي رسالته؟ لكن إن كتب الله مصيرهم إلى جهنم فسيتكبرون ولا يسألون والعياذ بالله تعالى.
قال: [ رابعاً: يوم القيامة مقرر الساعة واليوم فلا يصح تقديمه ولا تأخيره بحال ]، وقد عرفنا هذا وقلنا: إن للساعة يوم محدد وساعة محددة، ولا يعلم تلك الساعة إلا الله تعالى، وهي محددة لا تتقدم بدقائق ولا تتأخر بدقائق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر