أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
فهيا بنا نصغي مستمعين إلى هذه الآيات من سورة سبأ المباركة الميمونة ثم نتدارسها، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ * أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [سبأ:7-9].
والعجيب أننا لا نسمع من الملاحدة والعلمانيين والكفار والمشركين مثل هذا القول، وذلك إما لأننا لا نتصل بهم ولا نطالبهم بالإيمان بالله والدار الآخرة، أو لأنهم قطعاً هم أهبط من مشركي العرب، إذ إن مشركي العرب كانوا يؤمنون بالله رباً وإلهاً، لكن هؤلاء الشيوعيين والملاحدة والعلمانيين لا يؤمنون بالله ولا بوجوده، فهل يقولون مثل هذا القول؟ لا نشك في أننا لو خاطبناهم وقلنا لهم: إنكم بعد موتكم ستبعثون وتحاسبون على أعمالكم خيراً كانت أو شراً، فلابد وأن يقولوا لنا مثل هذا القول، وأن يسخروا منا ويستهزئوا ويقولوا لبعضهم البعض: اسمعوا ماذا يقول هؤلاء؟ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الصافات:16-17]، إذ هكذا كان مشركو وكفار العرب يقولون، مع أنهم يؤمنون بالله رباً، فقال الله عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزمر:38]، أي: أنهم مؤمنين بالله وبوجوده وبلقائه، لكن كفروا بالوحي الإلهي ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، كفروا بالبعث الآخر.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سبأ:7]، أي: لبعضهم البعض في مجتمعاتهم، هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ [سبأ:7]، أي: يخبركم، إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:7]، أي: بعد موتكم وفنائكم، إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ:7]، أي: في يوم من الأيام ستعودون خلقاً جديداً، وهذا والله حق، إذ ليعودون خلقاً جديداً، ولا يبقى مخلوق تحت الأرض إلا وسيحييه الله عز وجل، بل ويصبح أكمل مما كان، وهذا هو التكذيب بالدار الآخرة وبالقيامة وبالبعث والنشور، وهو شر التكذيب وأقبحه.
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [سبأ:8]، وهل الرسول يكذب على الله؟! هم لم يؤمنوا بأنه رسول الله، لكنهم يقولون: هو يكذب على الله تعالى! أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ:8]، والجن هم الذين يتكلمون ويقولون: البعث والحياة الثانية والجزاء والجنة والنار، فهكذا كان يعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان المؤمنون يسمعون من أولئك الطغاة المشركين الكافرين، لكن الصبر مفتاح الفرج.
إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ [سبأ:9]، أي: نخسف بهم وهم عليها فتهبط ويصيرون في باطنها، نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ [سبأ:9]، أي: التي هم عليها، فكيف يكفرون بنا ويكذبون دعوتنا ويحاربون رسولنا؟ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا [سبأ:9] أي: قطعاً، مِنَ السَّمَاءِ [سبأ:9]، فأين سيهربون؟ أسألكم بالله! أين المهرب؟ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا [سبأ:9]، والكسف هي القطعة، أي: القطعة من السماء.
وعلى كلٍ فهذه آية من أعظم الآيات الدالة على علم الله وقدرته وحكمته ورحمته وألوهيته، لكن ما كل واحد يشاهد هذه الآية، إذ لا يشاهدها إلا ذو القلب الرجاع والمنيب إلى الله تعالى، الذي كل ما أذنب ذنباً عاد إلى ربه واستغفره وتاب إليه.
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [سبأ:8]، أي: محمد فكذب على الله هذا القول وزوره عنه وادعى أنه أخبره بوجود بعث جديد للناس بعد موتهم لحسابهم وجزائهم، أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ:8]، أي: به مس من جنون فهي تخيل له صور البعث وما يجري فيه، وهو يخبر به ويدعو إلى الإيمان به؟ وهذا رد الله تعالى على كذبهم وباطلهم، فقال: بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سبأ:8]، أي: ليس الأمر كما يقولون من أن النبي افترى على الله كذباً، أو به جنون فتخيل له البعث، وإنما الأمر الثابت والواقع المقطوع به هو أن الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب يوم القيامة، وفي الضلال البعيد اليوم في الدنيا، وشؤمهم أتاهم من تكذيبهم بالآخرة.
ثم قال تعالى مهدداً لهم لعلهم يرتدعون عن التهجم والتهكم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أَفَلَمْ يَرَوْا [سبأ:9]، أي: أعموا فلم، يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [سبأ:9]، أفلم ينظروا كيف هم محاطون من فوقهم ومن تحتهم ومن أمامهم ومن ورائهم، أي: الأرض تحتهم والسماء فوقهم، إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ [سبأ:9]، فيعودون فيها، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا [سبأ:9]، أي قطعاً من السماء فتهلكهم عن آخرهم فلا يجدون مهرباً؟ والجواب: لا؛ لأنهم مهما جروا هاربين لا تزال السماء فوقهم والأرض تحتهم، والله قاهر لهم متى شاء خسف بهم أو أسقط السماء عليهم.
وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [سبأ:9]، أي: إن في ذلك المذكور من إحاطة السماء والأرض، وقدرة الله على خسف من شاء خسف الأرض بهم، وإسقاط كسفٍ من السماء على من شاء، ذلك لهم آية وعلامة بارزة على قدرة الله على إهلاك من شاء ممن كفر بالله وبرسوله وكذب بلقائه، وكون المذكور آية لكل عبد منيب دون غيره لأن المنيب هو الرجاع إلى ربه، كلما أذنب آب وتاب لخشيته من ربه، فالخائف الخاشي هو الذي يجد الآية واضحة أمامه في إحاطة الأرض والسماء بالإنسان وقدرة الله على خسف الأرض به، وإسقاط السماء كسفا عليه ].
قال: [ ثانياً: تقرير البعث وأن المكذبين به محكوم عليهم بالعذاب فيه ]، فيا معشر المستمعين والمستمعات! أعيد القول فأقول: قووا إيمانكم بالله ولقائه، إذ بذلك تستطيعون أن تعبدوا الله وتثبتوا في البلاء والرخاء، والفقر والغنى، والمرض والصحة، إذ من فقد قوة إيمانه بالله ولقاء ربه هبط وسقط ولا يقوى على شيء، ولذلك كان أعظم أركان الإيمان هو الاعتقاد بلا إله إلا الله والبعث الآخر.
قال: [ ثالثاً: لفت الأنظار إلى قدرة الله تعالى المحيطة بالإنسان ليخشى الله تعالى ويرهبه فيؤمن به ويعبده ويوحده ]، في الآية الثالثة لفت الأنظار، أي: لفت أنظار عيون الناس إلى السماء من فوقهم والأرض من تحتهم، إذ من بنى هذه السماء؟ هل بناها آباؤنا وأمهاتنا؟ ومن بسط هذه الأرض وأوجد تربتها؟ ومن يحمينا لو أرادت السماء أن تسقط علينا؟ ومن يحفظنا لو خسفت الأرض ونزلت بنا؟ إنه لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى، إذاً فلماذا لا نذكر الله ولا نخافه ولا نرهبه ولا نحبه ولا نطيعه؟! إن هذا كله من باب الذكر، إذ من ذكر الله نجا، ومن أعرض عن ذكر الله هلك والعياذ بالله.
قال: [ رابعاً: فضل الإنابة إلى الله وشرف المنيب، والإنابة الرجوع إلى التوبة بعد الذنب والمعصية، والمنيب الذي رجع في كل شيء إلى ربه تعالى ]، فاللهم اجعلنا من المنيبين إليك دائماً وأبداً، والمنيب هو ذلك الذي كلما شعر بذنب تاب إلى الله واستغفره وعاد إليه، ولا تستمر المعصية عنده ساعة أو ساعات أبداً، وهذه هي حياته دائماً وأبداً، وأما الاستمرار على المعصية حتى يقسو القلب فإن صاحبها هالك والعياذ بالله تعالى، ولا يشاهد آية في الكون، ولكن المنيبون والراجعون إلى الله يشاهدون آيات الله حتى في النملة وفي قطرة الماء التي تنزل من السماء فيقولون: آمنا بالله! ولا إله إلا الله!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر