أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
فهيا بنا نصغي مستمعين إلى هذه الآيات من سورة سبأ المباركة الميمونة ثم نتدارسها، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ:40-42].
واذكر يا رسولنا لهم: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [سبأ:40]، فلا يتخلف منهم أحد، لا رئيس ولا مرءوس، ولا زعيم ولا مزعوم، وإنما الكل مجموعون في مكان واحد.
لكن لما أحضرهم الله وجمعهم في يوم القيامة بدأهم بهذا التقريع وهذا التوبيخ، إذ إنه قال للملائكة: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40]؟ فتقول الملائكة: نبرأ إلى الله من عبادتهم، مع أنهم في الحقيقة والله ما عبدوا الملائكة، وإنما عبدوا الشياطين، وهذه حقيقة لا ننساها، وبالتالي فمن عبد صنماً أو حجراً أو إنساناً أو ملكاً أو نبياً أو عبداً صالحاً إنما هو في الحقيقة يعبد الشيطان، إذ هو الذي أمره بعبادته وحسنه وزينه له، بل وغشه وخدعه بهذه المعبودات، فالذين يعبدون عيسى اليوم هل هم حقيقة يعبدون الله بواسطة عيسى؟! لا والله، إنما يعبدون الشيطان؛ لأن عيسى عليه السلام حاشاه أن يرضى بأن يُعبد مع الله، بل إنه يرضى أن يصلب ويقطع ولا يعبد مع الله تعالى، وكذلك عوام المسلمين الذين يعبدون الأولياء ويتوسلون بهم إلى الله ويدعونهم، ويستغيثون بهم، ويذبحون لهم الذبائح، ويبيتون عندهم، ويعكفون على قبورهم بحجة التوسل إلى الله تعالى، وذلك كـعبد القادر الجيلاني رحمه الله وغيره من الأولياء، هم في الحقيقة ما عبدوهم، بل عبدوا الشيطان الذي زين لهم ذلك وحسنه لهم، ودعاهم إلى عبادته، أما عبد القادر الجيلاني رحمة الله عليه فلا يرضى أن يُدعى أو يستغاث به مع الله تعالى، أو تذبح له ذبيحة، أو ينادى في البر والبحر: يا عبد القادر! احضر، بل لو يقطع أو يصلب لا يرضى بذلك أبداً، وبالتالي فالذي زين لهم هذه العبادة هو الشيطان الرجيم.
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ:41]، أي: ما كانوا يعبدون الملائكة، بل كانوا يعبدون الجن، والمراد بالجن الشياطين.
والظلم أنواع، فأولاً: ظلم العباد لربهم تعالى، وهو أن يأخذوا عبادته التي خلقهم من أجلها، وخلق كل شيء لهم من أجلها، فيسلبونها منه ويعطونها للشيطان، فيعبدون ملكاً أو نبياً أو إنساناً، فأي ظلم أفظع من هذا؟! إن الله تعالى خلق الإنس والجن من أجل العبادة، وهي حق له وواجبة له؛ لأنه خلقني من أجلها، ولولاه ما كنت أنا، ثم هل خلقني لأسرح وأرقص؟ لا، إنما خلقني لأصلي وأصوم وأعبده، فكيف إذاً أعطي هذه العبادة لشيطان من الشياطين سواء من الجان أو من الإنسان؟ فأي ظلم أفظع من هذا الظلم؟ ولهذا سمى الله تعالى الشرك ظلماً، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وذلك لأن المشرك قد أعطى حق الله لغير الله تعالى، فلهذا كل مشرك ظالم، فالذي يقول: يا مولاي! يا سيدي عبد القادر! فقد ظلم ربه، إذ من هو هذا الولي الذي ترفع كفيك إليه وتسأله؟ هل يسمع صوتك؟ هل يقدر على أن يعطيك؟ هل سمح الله لك بذلك؟ هل أمر الرسول بذلك؟ لا والله، وإنما الشياطين هي التي أمرت بهذا والعياذ بالله.
ثانياً: ظلم الإنسان لنفسه، قال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [هود:101]، فكل من ترك واجباً من الواجبات فقد ظلم نفسه، هذه النفس التي كادت أن تتنور وتطيب بتلك العبادة، فإذا منعها من ذلك يكون قد ظلمها والله، وكذلك كل تارك لعبادة من عبادات الله معرض عنها فقد ظلم نفسه، إذ لو فعل تلك العبادة لأشرقت روحه وزكت نفسه وأصبح ولي الله تعالى، وأيضاً كل من يرتكب محرماً حرمه الله من قول أو عمل أو اعتقاد فقد ظلم نفسه؛ لأن الإثم يغطي النفس ويخبثها وينتنها ويعفنها ويدسيها، وبالتالي تصبح نفسه كأنفس الشياطين، قال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ الشمس:10].
ثالثاً: ظلم الإنسان لأخيه أو للحيوان، فالذي يسب مسلماً أو يعيره أو يهينه أو يذله أو يسلب ماله أو ينتهك حرمته أو يعتدي على عرضه والله لقد ظلمه، وويل للظالمين من عذاب الله تعالى، إذ كيف أن هذا ولي لله تعالى وأنت تؤذيه وتسبه وتشتمه وتأخذ ماله وتعتدي على حرمته وتنتهك عرضه؟! وأما ظلم الحيوان فهو كظلم الإنسان، إذ هل يجوز لك أن تعبث بحمامة فتنتف ريشها؟ وكذلك الشاة والبقرة، إذ لا يجوز لك أن تعبث بها عند ذبحها أبداً، وإنما لابد وأن تذبحها كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ظلم العبد للرب يكون بعبادة غيره معه، وظلم الإنسان لنفسه يكون بصب الذنوب والآثام عليها وإبعادها عن الصالحات حتى لا تطيب ولا تزكو، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان ولو كان كافراً يهودياً أو مجوسياً يكون بسبه أو بشتمه، وبالتالي لا يحل ظلم إنسان أبداً بحال من الأحوال، إلا بإقامة الحدود والشرع، فمن سرق تقطع يده، ومن زنى يرجم إن كان محصناً، وليس هذا بظلم، إذ إن هذا وضع الشيء في موضعه.
مرة أخرى: يقول تبارك وتعالى: لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [سبأ:42]، أنفسهم وربهم وعباد الله تعالى، ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ [سبأ:42]، وهذه النار ملتهبة، وفيها ألوان وصنوف من العذاب لا يخطر على بال أحد من الناس، وفيها الحيات والثعابين التي لا نتصورها، ويكفي أن يصب الماء على رأس الكافر حتى يغلي دماغه، عَذَابَ النَّارِ [سبأ:42]، أي: العذاب الذي يوجد في النار، والنار علَم على عالم، وعالمنا هذا والله كأنه نقطة في بحر، وأرضنا هذه كلها من أقصى الشرق إلى الغرب لا تجيء كمثل قطرة في البحر، وذلك لأنها واسعة جداً، وإن أردت أن تعرف ذلك فضع رأسك بين ركبتيك وفكر وقل: أسفل! أسفل! ألف ميل، عشرة آلاف ميل، إلى أين؟ هل هناك مكان تنتهي إليه؟ إلى عالم الشقاء، إلى النار وبئس القرار، أو فكر وقل: أعلى! أعلى! إلى أين؟ والله إلى الجنة دار السلام.
عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا [سبأ:42]، أي: بالنار تكذبون، إذ والله لو آمنوا بأن هناك عالماً نارياً يعذب الله به الناس ما كفروا بالله ولا خرجوا عن طاعته، ولكن تكذيبهم بيوم القيامة، وبالبعث والجزاء، وبالسعادة والشقاء، هو الذي حملهم على الكذب والخيانة والفجور والباطل، ولهذا كان الإيمان بيوم القيامة وبالحساب والجزاء أكبر عامل من عوامل الإصلاح، فإذا فقده الإنسان يصبح شر من الكلاب، ولا يوثق فيه ولا يعول عليه، واقرءوا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، والله لهم شر البريئة.
قال: [ ثانياً: أن من كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين إنما كانوا يعبدون الشياطين، إذ هي التي زينت لهم الشرك ]، وهذا كما بينته وقررته بين أيديكم، فالذين عبدوا الملائكة والأنبياء والأولياء من أمتنا أو من أمم سابقة، هم في الحقيقة ما عبدوا أولئك؛ لأن عيسى ما أمرهم أن يعبدوه، وإبراهيم ما أمرهم أن يعبدوه، وعبد القادر الجيلاني العراقي والله ما أمر أحداً أن يعبده، وإنما هم في الحقيقة عبدوا الشيطان الذي زين لهم ذلك، وبالتالي أطاعوه واستجابوا له.
قال: [ ثالثاً: بيان توبيخ أهل النار بتكذيبهم في الدنيا بالآخرة وكفرهم بوجود نار يعذبون بها يوم القيامة ]، وهو كذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر