أما بعد: ها نحن ما زلنا مع سورة الطلاق، ومع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا * أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:4-7].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق:4]، تقدم أن المطلقة طلاقاً رجعياً تعتد في بيت زوجها حتى تنتهي عدتها، أو يراجعها قبل نهاية عدتها، وأنه ينفق عليها، فتأكل وتشرب في بيتها حتى تنتهي العدة.
وهو تعالى يقول هنا: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ [الطلاق:4] أو شككتم وما عرفتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق:4]. لأن أصحاب رسول الله جاءوا وسألوا الرسول عن هذا، فنزلت هذه الآيات.
وقوله: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق:4]، أي: من الهلال إلى الهلال، فتعتد ثلاثة أشهر، تنتهي العدة. وكذلك وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]. فكذلك هذا شأنهن.
إذاً: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ [الطلاق:4] لكبر سنهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق:4]. وكذلك وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] كذلك. فالصغيرات اللائي لا يحضن عدتهن ثلاثة أشهر.
فعدة المطلقة ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض أو ثلاثة أطهار كما قدمنا، واللائي يئست من الحيض أو ما تحيض عدتها ثلاثة أشهر، وأما صاحبة الحمل فعدتها أن ينتهي حملها على شرط ما تسقطه كما يفعل الكفار، بل أن يسقط من نفسه، فإذا وضعت ولدها في الشهر الخامس .. الرابع .. السادس فقد انتهت عدتها. هذا معنى قوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]. وهذا صحيح والله، فكل من يتق الله ولا يخرج عن طاعة الله، وكل من يمتثل أمر الله ويطبق شرع الله ييسر الله أمره، ولا يصعب عليه شيء أبداً. هذا وعد من الله. فقد قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]. سواء الذي يطلق أو التي طلقت.
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [الطلاق:5] مرة ثانية يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]. واتقاء الله هي: طاعة الله وعدم معصيته. فقد أمرنا أن نعتد المطلقة ثلاثة قروء، وإن كانت ما تحيض بأن كانت كبيرة السن أو صغيرة فتعتد ثلاثة أشهر، وإن كانت حبلى تعتد إلى أن ينتهي حملها وتضعه.
ثم يقول بعد ذلك: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]. وهذا وعد من الله عز وجل لعباده المؤمنين. وتقوى الله أن تخافه فلا تعصيه، بل إذا أمرك فافعل، وإذا نهاك فاترك. فتفعل ما أمرك بفعله إن قدرت عليه، وإن عجزت فأمرك إلى الله، وتنتهي عما نهاك عنه.
وهذه المسألة اختلف فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: هل التي بت طلاقها وانتهت تسكن أو لا تسكن؟ فأكثر أهل العلم على ألا تسكن، ولكن نقول: القول الذي قاله عمر رضي الله عنه: إذا كانت ما تجد أين تسكن فلا يخرجها من بيته، بل يسكنها وينزلها مكانها، وهذا الله يقول: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ [الطلاق:6] من طاقتكم وقدرتكم، ومما تجدون بحسب حالكم. ومالك يقول: المطلقة إذا لم يكن عنده لها وله فتسكن هي وحدها ولا يسكن هو معها، وإذا كانت هناك غرفة له وغرفة لها فلا بأس.
وقوله: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [الطلاق:6]، أي: من قدرتكم وطاقتكم. وَلا تُضَارُّوهُنَّ [الطلاق:6]، أي: لا تضروهن لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]. فلا يجوز أذية المؤمنة. فإذا طلقتها وبانت منك فلا تؤذها ولا تضرها ولا تضايقها، بل أسكنها في مكان لا بأس به ما دمت قادراً على ذلك، لا أن تعطيها نصف غرفة أو مكاناً ضيقاً، فهذا لا يجوز؛ لقوله تعالى: وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6].
وهنا لطيفة، وهي: إذا هذا الولد أبى أن يرضع إلا من أمه أو يموت فهنا يجب أن يعطيه لأمه ترضعه، وعلى أبيه أن يعطيها النفقة. وهذا لقوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ [الطلاق:6]، أي: أعطوهن أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:6] بحسب حال الأب. فإذا كان راتبه عشرة آلاف فيعطيها ألفاً، وإذا كان راتبه ألف ريال فيعطيها مائتي ريال، والقاضي يحكم بهذا. وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ [الطلاق:6] وما اتفقتم، كأن تقول هي: تعطيني ألفاً، وقال هو: نعطيك خمسمائة فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6]. فيأخذ ولده وترضع له امرأة أخرى من النساء، إلا إذا كان الولد -كما قلت لكم- أبى أن يرضع إلا أمه أو يموت فما يجوز قتله، بل لابد أن ترضعه وأمه، ويعطيها النفقة.
ثم قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]. وهذه بشرى خاصة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين اشتكوا وسألوا الرسول عن الطلاق وعن العدة وعن النفقة، فوعدهم الله وعد الصدق. ووالله ما هي إلا أيام وملكوا أرض فارس والروم.
فقال تعالى هنا: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]. فقد كانوا فقراء في المدينة فأصبحوا أغنياء، وملكوا بلاد الروم وبلاد الفرس. وأما غيرهم فلا بد وأن يكونوا من أهل التقوى، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. وأما هؤلاء فقد وعدهم الله، وأنجز لهم ما وعدهم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
بيان العدة ] للمطلقة والميت عنها زوجها [ وهي كالتالي:
أولاً: متوفى عنها زوجها وهي غير حامل عدتها أربعة أشهر وعشر ليال ] وإن كانت حاملاً فعدتها وضع حملها ولو في أسبوع .. شهر .. شهرين أو أكثر، ولو خمسة أيام. نعم.
[ ثانياً: ] امرأة [ متوفى عنها زوجها وهي حامل ] أي: حبلى [ عدتها وضع حملها ] ولو بعد يوم .. يومين .. أسبوع .. شهر .. شهرين.
[ ثالثاً: مطلقة لا تحيض لكبر سنها ] كأن تكون عجوز [ أو لصغر سنها ] كأن تكون طفلة [ وقد دخل بها؛ عدتها ثلاثة أشهر ] والمطلقة قبل الدخول لا عدة عليها، فلو عقدت على امرأة وقبل أن تدخل عليها طلقتها فلها نصف المهر مما أعطيتها، ولا عدة عليها بنص الآية الكريمة من سورة الأحزاب.
[ رابعاً: مطلقة تحيض عدتها ثلاثة قروء، أي: حيض، تبتدئ بالحيضة التي بعد الطهر الذي طلقت فيه، أو ثلاثة أطهار كذلك، الكل واسع. ولفظ القرء مشترك، دال على الحيض وعلى الطهر ] وقد بينا هذا في الأمس، فآية البقرة مخصصة بهذه الآية، وآية البقرة هي: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]. واختلف في القرء هل هو الطهر وإلا الحيض، والكل واسع. وإن قلنا: هو الحيض، فإذا حاضت حيضة ثم الثانية ثم الثالثة تنتهي عدتها، وإذا قلنا: الطهر فإذا طلقها في طهر لم يمسها فيه فتعد هذا الطهر، ثم تطهر بعده مرتين وتنتهي عدتها. فالمطلقة التي تحيض عدتها ثلاثة قروء، سواء أطهار أو حيض.
[ خامساً: بيان أن أحكام الطلاق ] والزواج [ والرجعة والعدد مما أوحى الله به، وأنزله في كتابه، فوجب العمل به، ولا يحل تبديله، أو تغييره باجتهاد أبداً ] فيجب ألا نخرج عن ذلك، ولا نعص الله عز وجل فيه، ونطبقها كما أمر الله بالنسبة إلى العدة وبالنسبة إلى النفقة.
[ سادساً: فضل التقوى، وأنها باب كل يسر وخير في الحياة الدنيا والآخرة ] فالمتقي لله الخائف منه الذي لا يعصه أمره ميسر دائماً، ولا خوف عليه ولا حزن، وإن كان فقيراً يسر الله له وأغناه. وهذا وعد الله تعالى مع أهل التقوى، فقد قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
[ سابعاً: وجوب السكن والنفقة للمطلقة طلاقاً رجعياً ] كما في أول السورة، فما دام طلاقها رجعياً فهي في عصمة زوجها، فينفق عليها، فإذا انتهت العدة ذهبت وخرجت، وما دامت ما انتهت عدتها يجب أن يسكنها، وأن ينفق عليها، ولذلك قال تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ [الطلاق:6].
[ ثامناً: وجوب السكنى والنفقة للمطلقة الحامل ] الحبلى [ حتى تضع حملها ] فما دامت حبلى وهي مطلقة طلاقاً بائناً فينبغي أن تسكن، وأن ينفق عليها؛ من أجل الحمل؛ لأن الولد لأبيه، يجب أن ينفق على ولده، وأما المرأة فلا يجب عليها أن تنفق على ولدها، بل ينفق عليه الوالد.
[ تاسعاً: وجوب السكنى والنفقة للمتوفى عنها زوجها وهي حامل ] فالتي توفي عنها زوجها وهي حامل يجب أن ينفق عليها من مال الزوج حتى تلد.
[ عاشراً: المطلقة البائن والمبتوتة لم يقض لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفقة ولا سكنى؛ لحديث فاطمة بنت قيس أخت الضحاك . ومن الفضل الذي ينبغي ألا ينسى: إن كانت محتاجة إلى سكن أو نفقة أن يسكنها مطلقها، وينفق عليها مدة عدتها، وأجره عظيم؛ لأنه أحسن، والله يحب المحسنين ] فالمبتوتة المطلقة طلاقاً بائناً ليس لها نفقة ولا سكن، بل تذهب إلى أهلها. فـفاطمة بنت قيس أرشدها الرسول إلى هذا، وعمر قال: ما نأخذ رأي المرأة ونترك الآية. ومن ثَمَّ نقول: يجمع بين المذهبين بأن نقول: إذا كنت قادراً وهي محتاجة فأنفق عليها وأسكنها حتى يفتح الله عليها، وحتى تنتهي عدتها، لأن المطلقة المبتوت طلاقها لا حق لها في السكنى ولا في النفقة، بل تذهب إلى أهلها، بخلاف المطلقة طلاقاً رجعياً، فإنها تبقى في بيتك حتى تنتهي العدة أو تراجعها. وهذه المبتوت طلاقها لا نفقة لها ولا سكنى، ولكن نقول: إذا كانت محتاجة وأنت غني فأنفق عليها وأسكنها حتى تنتهي العدة بعد ثلاثة أشهر.
[ الحادي عشر: النفقة الواجبة تكون بحسب حال المطلق ] أي: بحسب قدرة الزوج وضعفه [ غنىً وفقراً، والقاضي يقدرها إن تشاحا ] فإن كان غنياً فتكون النفقة بكذا، وإن كان فقيراً فكذا، والأمر ينقل للقاضي، وهو الذي يقضي ويحكم إذا ما اتفقا، وإن اتفق هو والمرأة فلا بأس.
[ الثاني عشر: المطلقة طلاقاً بائناً إن أرضعت ولدها لها أجرة إرضاعها، حسب اتفاق الطرفين الأم والأب ] فمن طلقها زوجها ولها ولد يرضع فعلى الزوج أن ينفق على هذا الولد؛ لأنه ولده، وهو الذي يجب أن ينفق عليه، وهو الذي يجب عليه الرضاع. فالأب يجب أن يعطيها مقابل أن ترضعه، أو يأخذه ويعطيه لامرأة ثانية ترضعه، إلا إذا لم يقبل الولد إلا أمه فيجب أن ينفق على أمه ولا يقتله.
[ الثالث عشر ] وأخيراً: [ بيان القاعدة العامة ] فلا ننساها [ وهي: ألا تكلف نفس إلا وسعها ] أي: بحسب قدرتك وطاقتك تكلف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر