وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع هذه الآيات من سورة الشورى، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:32-35].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32] أي: من العلامات الدالة على وجود الله، وعلى ألوهيته وربوبيته، وعلى قدرته، وعلى حكمته، وعلى رحمته، وعلى علمه؛ هذه المخلوقات تدل على ذلك.
كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:22] أما يدل خلق السماوات على خالق؟ أما يدل خلق الأرض على خالق؟ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22] أما يدل ذلك على عليم حكيم؟ بلايين البشر لا يتحدون في صورة واحدة أبداً، لن تجد اثنين في الأرض لا يفرق بينهما أبداً، أي علم أعظم من هذا العلم؟ أية قدرة أعظم من هذه القدرة؟ أية حكمة أجل وأعظم من هذه الحكمة؟
لو كان أهل قرية صورتهم واحدة فلن يسعدوا أبداً، هذا يدخل بيت هذا وهذا يدخل بيت هذا، ملايين البشر ما يوجد فيهم اثنان لا يميز بينهما، فلا إله إلا الله!
وَمِنْ آيَاتِهِ [الشورى:32] الدالة على وجوده أولاً وأنه الخالق، وعلى قدرته، وعلى علمه، وعلى رحمته وحكمته آيات كثيرة، منها الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32] الجواري: جمع جارية، وهي السفينة التي تجري في البحر، وتسمى الفتاة جارية؛ لجريان دم الشبيبة فيها وقوتها، فالجواري هنا: السفن في البحر.
وَمِنْ آيَاتِهِ [الشورى:32] الدالة على علمه وقدرته وحكمته ورحمته الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32] كالجبال، والأعلام: جمع علم وهو الجبل العالي.
قفوا على شواطئ البحر وستشاهدون السفن كالجبال، أليس كذلك؟ فمن خلقها؟ من أوجد صانعها؟ من أوجد ماءها؟ فلا إله إلا الله، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ [الشورى:32].
فإن يشأ الله عز وجل يسكن الرياح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ [الشورى:33] على ظهر الماء، فيظلن محبوسات رواكد واقفات على سطح الماء ما يمشين أبداً، وهذا عاشت عليه البشرية آلاف السنين.
أما السفن اليوم بالفحم والغازات والكهرباء فهي سفن حديثة جداً، فهذه الآلات من أوجدها؟ من أوحى بها؟ من أعان عليها؟ من وفق لها؟ الله. فالله هو خالقها؛ إذ هذا الصانع من صنعه؟ هذه اليد من خلقها؟ هذا العلم من أوجده؟ فلا إله إلا الله.
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ [الشورى:33] على ظهر البحر.
ثانياً: شكور، كثير الشكر لا ينتهي شكره أبداً، ما ينزل به من بلاء إلا وهو يقول في قلبه ولسانه: الحمد لله.. الحمد لله، وما من نعمة تخطر بقلبه إلا قال: الشكر لله.. الشكر لله.. الشكر لله.
فقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى:33]، فالجزعون الساخطون الكافرون الملحدون ما يشاهدون هذه الآيات ولا يعرفونها أبداً، يأكل كالبهيمة وما يقول: من أين هذا الطعام؟ من أين هذا الشراب؟ من أوجدني؟ كيف نمضغ؟ كالبهائم.
وأرباب العقول، أرباب النهى، أرباب البصائر العارفون بربهم حين ينظر أحدهم النظرة يعرف أنها بالله، لولا الله ما نظر ولا استطاع أن ينظر، لولا الله ما مشى خطوة واحدة، لولا الله ما وجد ولا كان أبداً في الكون.
فلهذا أدعو الصالحين والصالحات إلى الاتصاف بهاتين الصفتين: الأولى: الصبر، فما نجزع ولا نسخط ولا نغضب على ربنا، يبتلينا بما شاء فنصبر لذلك صبراً أبدياً، لا جزع ولا غضب ولا سخط، تقول له: كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، كيف أنت؟ الحمد لله، دائماً وأبداً.
والصبر على عبادة الله، ما نتخلى عن نافلة نتنفلها، عن فريضة نؤديها، عن واجب نقوم به، عن إحسان نعمله، نصبر على ذلك حتى نلقى الله عز وجل.
فقوله تعالى: بِمَا كَسَبُوا [الشورى:34] أي: بكسبهم، والكسب ما هو؟ فلان يكسب المال بالتجارة، بالزراعة، بالفلاحة، فلان يكسب حسنات كل يوم بالصلاة والزكاة والصدقات.
فهؤلاء ظلموا ربهم، عبدوا غيره، كذبوا رسوله، كذبوا كتابه، لم يسألوا عنه وهم موجودون من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، أليس كذلك؟ هل جاءك يهودي وقال لك: ما تقول في محمد؟ هل هو رسول الله؟ والقرآن يتلى عليهم ويسمعونه وما قالوا: هذا كلام الله نؤمن به أو دلونا عليه وعلى من يعرفنا ما فيه.
إذاً: كسبهم الشر والفساد الكفر والفسق والفجور له جزاؤهم في الدنيا إن شاء الله وفي الآخرة قطعاً لا محالة.
قال تعالى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:34]، وقد قرأنا قاعدة: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، قاعدة عامة حفظناها: ما من مصيبة إلا بذنب، ما من مصيبة تصيب الإنسان إلا بذنب أذنبه، سنة الله.
إذاً: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:34] والله! لو يؤاخذنا الله بذنوبنا فلن نبقى يوماً واحداً، لكن يعفو عن كثير، يبتلينا بمرض، بفقر، بذل، يخفف عنا ذنوبنا، لكن لو يؤاخذنا بذنوبنا فلن نعيش ولن نسعد أبداً ولن نبقى، ولن ينجو إلا المعصومون من الأنبياء والرسل، ولكن إذا هلك أول رسول فمن أين يوجد الرسول؟
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [الشورى:35] يبعدهم عن الهلاك، يصرفهم عن البلاء والشر أبداً، ما للظالمين من محيص.
هؤلاء المشركون في العرب إذا ركبوا السفينة وجاءت الرياح والعواصف رفعوا أيديهم إلى الله: يا رب .. يا رب! ما يعرفون اللات ولا العزى ولا مناة، لا يعرفون حينها إلا الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] هذه آية يا أهل القرآن أم لا؟ إذا ركبوا الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، ما يعرفون غير الله أبداً وهم مشركون كافرون!
فإذا ركبوا في الفلك وجاءت العواصف واهتزت السفينة دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، لا يقولون: يا لات.
وعندنا لطيفة للشيخ رشيد رضا تغمده الله برحمته في تفسير المنار، قال: كان شيخه محمد عبده في سفينة حجاج تأخذ الحجاج من الموانئ، قال: وجاءت عواصف وتحركت السفينة واضطربت في ذلك الوقت، فأخذ الحجاج يقولون: يا رسول الله.. يا فاطمة ، يا حسين ، يا مولاي إدريس يا سيدي فلان، وكان هناك رجل قائم وحده، فرفع يديه وقال: يا رب! أهلكهم فإنهم ما عرفوك! كيف يدعون عبد القادر وفلاناً وينسون الله؟! والمشركون الكافرون أخبر تعالى عنهم أنهم يدعون الله مخلصين له الدين في حال الشدة والخوف، والمسلمون يدعون الأموات من عباد الله!
إذا كنت مع سائق سيارة إلى جنبه، ومالت السيارة تسمعه يقول: يا رسول الله .. يا رسول الله! فهل يجوز هذا؟ هل يستطيع رسول الله أن يمد يده إليك؟ من هو الذي ينقذك؟ من الذي ينجيك؟ ننسى الله رب العالمين الذي بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير، وهو معنا أين ما كنا، ونقول: يا رسول الله! أين رسول الله وبينك وبينه عشرة آلاف كيلو؟
نعود إلى كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدق، والطريقة التي نكرر القول فيها: يا أهل القرية! يا أهل الحي في المدينة! اجتمعوا بنسائكم وأطفالكم ورجالكم كل ليلة، صلوا المغرب في بيت ربكم واجلسوا ساعة تتعلمون كتاب الله وسنة رسوله، وذلك طول العام، طول الحياة، بدون هذا الطريق والله! لن يسود العلم ولن ينتشر أبداً، وإن ساد علم فهو علم مادي للوظيفة والعمل ليس لله تعالى، هذا العلم الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه.
فإذا دقت الساعة السادسة فأغلق دكانك يا صاحب الدكان، الق مسحاتك يا فلاح، أغلق باب مقهاك، وتوضئوا بسرعة واذهبوا إلى بيت ربكم في قريتكم أو في حيكم من أحياء المدينة، لا يتخلف رجل ولا امرأة إلا مريض أو ممرض، ويجلسون كجلوسنا هذا، فليلة آية وليلة حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحفظ ونعلم ونعمل، فما تمضي سنة إلا وأهل القرية كالملائكة، والله! لو سألوا الله أن يزيل الجبال لأزالها.
هذا الطريق أعرضوا عنه إعراضاً كاملاً، لفساد الجهل والكفر والفسق والفجور والعياذ بالله تعالى، ونشكو من الظلم والفساد، لا بد أن نعمل على إصلاح أنفسنا.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ أولاً: مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه ].
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها، أول هداية: مظاهر ربوبية الله وقدرته على الخلق، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:22]، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى:32] هذه من الآيات -أي: العلامات- الدالة على وجود الله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه.
[ ثانياً: فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين ].
ولقد دعوتكم معشر الأبناء أن تكونوا من الصابرين الشاكرين، ما نسخط على الله ولا نجزع أبداً، فإن كنت مريضاً، عاجزاً، جائعاً فقل: الحمد لله.. الحمد لله، هذا الصبر.
وإذا أنعم عليك بأية نعمة كخطوات تمشيها إلى المسجد، فقل بلسانك كلمة حق وخير، أو تصدق بدينار أو درهم إذا جاءتك يد من يطلب منك الصدقة، وهكذا تكون من الصابرين الشاكرين.
[ ثالثاً: تقرير قاعدة: ما من مصيبة إلا بذنب مع عفو الله عن كثير ].
من هداية هذه الآيات: تقرير قاعدة علمتموها، وهي: ما من مصيبة إلا بذنب، لا توجد مصيبة في قرية، في مدينة، في أمة، في فرد إلا بذنب ارتكبه، سواء علم ذلك أو جهله، ما من مصيبة إلا بذنب؛ لأن الله تعالى قال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
[ رابعاً: عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره ]، وهذه سنة الله، عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره، لكن هذا متى؟ أيام كانوا مشركين كافرين، أما الآن فكما علمتم، يقول: يا سيدي فلان! يا فاطمة! يا حسين! يا رسول الله! كأنهم ما عرفوا الله أبداً، والمشركون إذا أصابتهم شدة يفزعون إلى الله فقط.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر