وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
وها نحن مع هذه الآيات الثلاث من سورة الشورى، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى:7-9].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:7] أي: كما أوحينا إلى الرسل من قبلك أوحينا إليك، ونوحي إليك الآن قرآناً عربياً، أي: بلسان العرب، أوحى الله تعالى إلى المرسلين، وأوحى على كل رسول بلسان قومه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم عربي وبعثه الله في العرب، إذاً: فهو يتكلم بلسانهم ويفهم لسانهم، فأنزل الله عليه القرآن بلسانهم حتى يتمكنوا من فهمه ومعرفته والعمل به.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:7]، والآية تقرر النبوة المحمدية، هكذا: (أوحينا إليك)، أبعد هذا تشكون في نبوته والله يقول: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الشورى:7]؟
العلة والحكمة والمقصود: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى:7] لتنذر أهل أم القرى مكة، وسميت مكة أم القرى لأن الأرض كلها دحيت منها كالصرة، فمكة في وسط الأرض كلها.
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى [الشورى:7] وهي حقاً في تلك البلاد أم المدن كلها، لا مدينة أعظم منها، لتنذر أهل أم القرى وأهل من حولها في العالم بأسره؛ إذ رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، فرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عامة، ليست كرسالة عيسى ولا موسى ولا سليمان ولا داود ولا إبراهيم ولا نوح؛ إذ كانوا يبعثون في أممهم، فعلم الله عز وجل أن البشرية سيتصل بعضها ببعض وتأتي هذه الآلات وتصبح كمدينة واحدة، وهذا تدبير الله عز وجل.
لهذا فاليهودي كالنصراني كالبوذي كالمجوسي؛ الكل مرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يبق لهم عذر أبداً، أولاً: حمل الرسالة رسول الله وأصحابه، وبلغ أصحابه نهر السند والأندلس، والآن وبعد أن قارب الله هذه الأرض بهذه الآلات أصبح الإنسان يسمع بالإسلام في أي مكان، ويسأل عنه فيعرفه ولا حرج.
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى:7] ينذرهم مم؟ من أي شيء يخافونه؟ من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
هذا يوم الجمع لا ريب فيه، لا شك أبداً، فهو واقع لا محالة، ويدلك على وقوعه أن هذه الدنيا ما كانت موجودة فأوجدها الله تعالى، هذه البشرية ما كانت موجودة فأوجدها الله تعالى، وها هي ذي تفارق هذه الحياة الجماعة بعد الجماعة والألف بعد الألف كل يوم، فإلى أين؟ إلى الدار الآخرة.
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [الشورى:7] يوم القيامة لا شك فيه، والله! لا شك فيه، والله! إنه لواقع، أخبر به الله تعالى في كتابه وعلى ألسنة رسله، وهذا القرآن بين أيدينا، فيوم القيامة يوم يقوم الناس من قبورهم لله رب العالمين ليحاسبهم ويجزيهم.
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] جماعة في الجنة وجماعة في جهنم، البشرية والجن كلهم على صعيد واحد ينقسمون قسمين: قسم إلى الجنة وقسم إلى النار، فريق في الجنة وفريق في السعير، وهي النار المستعرة الملتهبة والعياذ بالله، يبعثهم كلهم ويجتمعون على صعيد واحد ويحاسبهم، ثم فريق إلى الجنة وفريق إلى النار، فمن هو فريق الجنة؟ أهل الإيمان والتقوى، ومن هو فريق النار؟ أهل الكفر والمعاصي.
فأهل الإيمان والتقوى المؤمنون المتقون آمنوا بربهم وبلقائه وأطاعوه فيما أمر به ونهى عنه، واتبعوا رسوله ومشوا وراءه، فطهروا وكملوا وأصبحوا أهلاً لدار السلام، فهم في الجنة، والذين لووا رءوسهم وارتدوا وكفروا وأشركوا وعصوا وخرجوا عن طاعة الله والله! إن مصيرهم لفي جهنم، فما هناك إلا عالمان: فوق وأسفل، الجنة فوق، وجهنم أسفل، هكذا يقول تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ [الشورى:8] الحكمة في هذا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الشورى:8] أي: يدخل في الإسلام من يشاء رحمته إلى يوم القيامة، فمن هو الذي أدخلنا في الإسلام؟ الله عز وجل، وهبنا عقولنا، بعث إلينا من يعلمنا، من يرشدنا، من ينصحنا، فاستجبنا، فدخلنا في الإسلام بمشيئة الله عز وجل.
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الشورى:8] وهي الإسلام أولاً والجنة ثانياً، الجنة رحمة الله.
مواضع الظلم ثلاثة: أولها ظلم العبد ربه تبارك وتعالى، فمن هو الذي يظلم ربه؟ الذي يعبد غيره، يخلقك ويرزقك ويهبك عقلك وسمعك وبصرك، ويدعوك إلى أن تفعل كذا وتقول كذا فتعرض، فأي ظلم أعظم من هذا؟
ولهذا يقول تعالى في القرآن الكريم: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، أيخلقك ويرزقك ويهبك عقلك، والدنيا خلقها من أجلك وكذلك الجنة، وبعد ذلك تعبد الأصنام والأحجار والشياطين والبشر، وتعرض عن الله عز وجل؟
والثاني: ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بأكل ماله، بانتهاك عرضه، بسبه وشتمه، بإهانته والتكبر عليه، هذا ظلم للناس، والظالمون هالكون.
والثالث: ظلمك لنفسك، أنك تعصي ربك، فتستعمل المحرمات، فتشرب الخمر، تتعاطى الربا، تأتي الزنا، تكذب، تخون، تفجر.. حتى تصبح نفسك منتنة عفنة ما يرضى عنها الله أبداً.
والله يقول: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، من زكى نفسه بالإيمان وصالح الأعمال وأبعدها عن الشرك والذنوب والآثام فنفسه زكية، ووالله! إنه لمفلح فائز بدخول الجنة، والذي دساها وخبثها ولوثها وأنتنها وعفنها بأوضار الذنوب والآثام هو إذاً من الخاسرين، خائب خاسر والعياذ بالله.
ومن لم يكن الله وليه فوالله! لا ينفعه ولي آخر أبداً، فلهذا اتخذوا الله ولياً لكم لا غير الله؛ إذ لا يملك الولاية الحقة إلا الله عز وجل، فهو ولينا وولي المؤمنين، وليناه أمرنا، إن أصابنا بخير حمدناه، وإن أصابنا بشر استغفرنا ودعوناه.. وهكذا لا نخرج عن دائرة ولاية الله.
وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [الشورى:8] ليس لهم ولي يتولاهم ونصير ينصرهم من دون الله، فهيهات هيهات! يقال لهم: ادخلوا جهنم.
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى [الشورى:9]، فمن مظاهر قدرته، ومظاهر علمه وحكمته الموجبة لألوهيته أنه يحيي الموتى، وقد كنا أمواتاً، فمن أحيانا؟ وسوف يميتنا وسوف يحيينا، فالقادر على إحيائنا أول مرة أيعجز عن إحيائنا مرة أخرى؟ بل ذلك أسهل وأيسر.
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الشورى:9] ما هناك ما يعجز الله عز وجل أبداً، إذا قال للشيء: كن فوالله ليكونن، بدون السنن ولا الأنظمة، يقول: كن فيكون: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
هذه الثلاث الآيات تقرر النبوة المحمدية، تقرر التوحيد وأنه لا إله إلا الله، تقرر البعث الآخر والدار الآخرة والجزاء فيها، تقرر أن الكسب في الدنيا نجزى به في الآخرة.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحي الإلهي ].
تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحي له، فهو -والله- لنبي الله، فلهذا نرفع أصواتنا ونقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
[ ثانياً: شرف مكة بتسميتها أم القرى، أي: أم المدن والحواضر ]، إي والله، وهل هناك مكان أشرف من مكة؟ لا أبداً، فمكة بلد الله الأمين، مكة فيها بيت الله، فهي أشرف مكان في الأرض، اللهم إلا إذا استثنينا المكان الذي فيه جثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ ثالثاً: مشروعية التعليل للأفعال والأحكام ].
يجب على العبد العاقل أن يعلم ما ينفعه ويضره، ولا يعيش على الجهل، يجب أن نتعلم، وحسبنا قول رسولنا: ( طلب العلم فريضة )، وكثيراً ما نقول: من منكم يريد أن يكون ولي الله؟ فتقول: أنا. فلن تكون ولياً له حتى تعرف ما يحب وما يكره، فتحب ما يحب وتكره ما يكره، والله! لا ولاية إلا بهذا.
فإذا آمنت به وكنت تريد أن تكون وليه فاعرف ما يحب الله من الاعتقاد، من القول، من العمل، من السلوك، من المشي، من الصفات وافعلها، واعلم ما يكره الله من القول والفعل والاعتقاد والصور واتركها، وبذلك تتحقق ولاية الله، والله! لن تكون للعبد ولاية إلا بهذا، ولهذا فطلب العلم فريضة، نعرف ما يحب الله من الاعتقادات، من الأقوال، من الأفعال، من الصفات فنحبها كما يحبها، ونفعل ما أمرنا بفعله.
ونعرف ما يكره الله كالكذب والخيانة والفساد والشر.. وكل ما حرم الله ويكرهه الله، فنتركهه أيضاً، وبذلك نكون أولياء لله عز وجل، وإن كانت درجاتنا تتفاوت، كما نعبر دائماً بالجيش، فالعسكري والجنرال كم رتبة بينهما؟ فنحن كلنا أولياء، ولكن -والله- إننا مراتب ومنازل، منا اللواء ومنا الجنرال ومنا من لا يزال عسكرياً، بقدر الرغبة والحب والعمل والعلم.
قال: [ مشروعية التعليل للأفعال والأحكام ].
فالعلة كقولي: أنا وضعت هذا الكرسي من أجل أن يجلس فلان عليه، فهذه علة، ونقول: لماذا وضعنا هذه الآلة؟ لأجل أن نسمع الصوت.. وهكذا، فالعلة مشروعة لكل شيء.
[ رابعاً: انقسام الناس يوم القيامة إلى سعيد وشقي لا غير ].
انقسام الناس يوم القيامة إلى قسمين: سعيد وشقي، والله العظيم! ما هناك إلا هذا، يوم تقوم الساعة وينفخ إسرافيل ونقوم من القبور كلنا مجتمعين على صعيد واحد يأتي الحساب والجزاء، فأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ما هناك قسم ثالث: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7].
[ خامساً: لم يشأ الله أن يجعل الناس أمة واحدة لحكم عالية علمها إليه سبحانه وتعالى ].
لم يشأ الله تعالى أن يجعل البشرية كلها أمة واحدة على دين واحد، لحكم يعلمها هو، وقد بينت غير ما مرة أنه تعالى أوجد دار السلام ودار البوار، وأوجد لهذه أهلاً ولهذه أهلاً، فلهذا أهل الدنيا منهم المؤمن ومنهم الكافر، من سأل الله ووقف بين يديه يطلبه فتح الله له باب الهداية واهتدى ودخل الجنة، ومن أنكر وتكبر واستكبر وكفر وأعرض عنه تركه وأدخله النار لحكمة.
[ سادساً: من طلب ولاية غير الله هلك، ومن والى الله دون من سواه كفاه الله ما أهمه في دنياه وأخراه ].
من طلب ولاية غير الله هلك، لا ولي لنا إلا الله، هو ولي المؤمنين والمتقين، ومن طلب الولاية في غير ولاية الله فهو هالك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر