وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فها نحن مع سورة الحجرات المدنية، ومع هذه الآيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:4-8].
سبب نزولها أن وفداً من أعراب بني تميم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن عن إسلامه وطاعته، ولكن مع البداوة والجهل أخذوا ينادونه من وراء الحجرات من باب عائشة وباب فلانة فلان وهو في القيلولة، والرسول نائم صلى الله عليه وسلم، فأزعجوه وأيقظوه وهو صلى الله عليه وسلم ينام ليستريح؛ لأنه في الليل والنهار في عمل، فيستريح في القيلولة، فجاءوا فأيقظوه، فأدبهم الله تعالى بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] ما هم بعقلاء، بل بدو عوام، كانوا يفعلون هذا الفعل بأعلى أصواتهم: يا محمد! يا محمد!
هذا معنى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات:4-5]، وما صبروا، وهذه حال الجهل والبربرية وعدم العلم، لو كانوا عقلاء بصراء فحين سألوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقيل: نائم؛ فسيجلسون ساعة وساعتين حتى يستريح ويخرج.
ما كان إلا أن نادى خالد بن الوليد وكون جيشاً وقال: اذهبوا إليهم، فمشى الجيش وخالد على رأسه فاستقبلوهم مؤمنين، وسمعوا الأذان يؤذن، لما ناموا بالليل قريباً من المنطقة سمعوا المؤذن يؤذن، فعلموا أنهم مؤمنون مسلمون، أرأيتم لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب القوم وسلط عليهم أما يندمون؟ فهذا الخبر كاذب، فاسق جاء بنبأ.
وهنا على المسئولين وعلى كل المؤمنين ألا يقبلوا قول كل إنسان يقول: فلان فيه كذا وكذا، فلانة فعلت كذا، فلان يفعل كذا، لا يجوز أبداً، ولا تصدقه إلا إذا كان مؤمناً صادقاً ربانياً معروفاً بالصدق والطهارة، أما شخص معروف بالكذب والباطل أو الفسق والفجور ويقول كلمة فكيف تصدقه؟
ورجال الإعلام شبيهون بهؤلاء، فلهذا لا يُصدقون.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [الحجرات:6]، والنبأ: الخبر العظيم، خبر فيه ما يترتب عليه من فوائد أو ضرر، فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] تأكدوا، راجعوا القضية، فكروا فيها، اسألوا غيره حتى تهتدوا، أما بمجرد أنه قال فلان تقولون؛ فهذا حرمه الله علينا بنص الآية الكريمة: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، يجب أن تتبينوا قبل أن تقولوا أو تفعلوا، حتى لا يترتب على ذلك ألم وفساد لكم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] لماذا؟ خشية أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6] القوم الذين قيل فيهم كذا وكذا تضربونهم وتقاتلونهم، بعد ذلك يتبين لكم أنكم مخطئون، وأنهم ما هم بأهل لهذا أبداً، أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] وقطعاً سيندمون.
هذه الآية بالذات للمستمعين والمستمعات، ما نقبل قول قائل: فلان وفلانة وكذا أبداً، إلا أن يكون الخبر من مؤمن صادق القول والبيان يجزم به فنعم، أما مجرد قالت فلانة وقال فلان فما يقبل هذا أبداً، نهينا عنه؛ لأنه يترتب عليه عداوة أو بغضاء أو فساد أو شر بدون داع إلى هذا، هذا توجيه الله عز وجل وتربيته لأمة الإسلام.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] لماذا؟ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] ولا ينفعكم الندم.
أما نحن الآن فليس معنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع هذا نلتزم، فما نقول: قال فلان، قالت فلانة؛ لنشيع الباطل والمنكر بين الناس، ما يجوز ذلك أبداً.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات:7] ووقعتم في المشاق والفتن والبلاء، وهذا يتناول أيضاً بعض المسئولين، ما ينبغي أن يسمعوا من كل واحد، كل واحد يقول كذا وكذا ليفتن، فلا بد من اثنين أو ثلاثة من أهل البصيرة وأهل المعرفة ليصدقوهم، أما أن كل من يجيء يقول كذا وكذا فتلك هي الفتنة.
وقوله تعالى: لَعَنِتُّمْ [الحجرات:7] أي: وقعتم في العنت الذي هو شدة التعب والبلاء.
لو يطيعكم في كثير من الأمور التي تطالبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا يقول: يا رسول الله كذا، وهذا يقول كذا وهذا كذا، لو يطيعهم فكيف سيستقيم الحال؟
فلهذا تأدبوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تقترحوا عليه فكل واحد يقترح اقتراحاً.
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ [الحجرات:7] وحسنه وجمّله فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، هؤلاء أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، وهكذا المؤمن الحق الآن يحب الإيمان والمؤمنين، ويحب كل ما أمر الله به، وزُيِّن الإيمان في قلبه، لو يعطى الدنيا كاملة ما رضي بها عن الإيمان، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:7]، والمؤمنون الصادقون هذه حالهم: يكرهون الكفر، يكرهون الفسوق، يكرهون العصيان.
والفسوق: الخروج عن طاعة الله ورسوله بأي شيء، والعصيان كذلك، هو التمرد وعدم الطاعة لله ورسوله.
وهنا أقول مرة أخرى: احذر أن تفضل على أصحاب رسول الله أحداً، لا عالماً ولا ولياً، كل الخلق دونهم؛ لأن الله رفع قدرهم وأعلى شأنهم، وبعث فيهم رسوله وأنزل فيهم كتابه، وهذه الآية كافية في الدلالة على ذلك: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ [الحجرات:7] السامون الأعلون هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8] عطية الله، نعمة الله.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:8] يضع نعمته حيث يرى أن الموضوعة فيه أهلها، حكيم كذلك.
والله تعالى أسأل أن يجعلنا من محبيهم، اللهم اجعلنا من محبي أصحاب رسول الله، ولا تجعلنا من مبغضيهم ولا مبغضي أحد منهم يا رب العالمين.
والله! لا نفضل عليهم أحداً أبداً والله قد فضلهم وقال: هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7].
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: بيان سمو المقام المحمدي وشرف منزلته صلى الله عليه وسلم ] ومكانته، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات:4] لم؟ لأنهم نادوا رسول الله المفضّل المكرم سامي الدرجة عالي المقام، ما تأدبوا معه، ما قالوا: رسول الله نائم، ثم قالوا: يا محمد .. يا محمد! من حجرة إلى حجرة، فدلت هذه الآية على علو مقام الرسول وسمو مكانه صلى الله عليه وسلم، ولهذا أدبهم.
[ ثانياً: وجوب التثبت في الأخبار ذات الشأن التي قد يترتب عليها أذى أو ضرر بمن قيلت فيه، وحرمة التسرع المفضي بالأخذ بالظنة، فيندم الفاعل بعد ذلك في الدنيا والآخرة ].
من هداية الآيات: وجوب التثبت من الخبر والقول، ولا نسارع فنقول: قال فلان، ولا نسارع للعمل فنعمل أبداً حتى نتثبت تثبتاً كاملاً ونعرف أن النبأ والخبر صدق وأن الحادث وقع، فحينئذ لا بأس، أما لمجرد أن نسمع القول نقول: قال فلان، ويترتب عليه الفساد والشر؛ فلا ينبغي أبداً، أدبنا الله تعالى بهذه الآية الكريمة.
[ ثالثاً: من أكبر النعم على المؤمن تحبيب الله تعالى الإيمان إليه وتزيينه في قلبه، وتكريه الكفر إليه والفسوق والعصيان، وبذلك أصبح المؤمن أرشد الخلق بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ].
فأصحاب رسول الله هم الراشدون، وأيما مؤمن طاهر القلب صالح النية هو من الراشدين، فاللهم اجعلنا منهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر