أما بعد: هيا بنا إلى سورة التحريم المباركة، والمسماة بسورة النبي صلى الله عليه وسلم. الله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:1-5].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه سورة التحريم، وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه الحادثة هي التي شاء الله أن يقرر بها هذا الحكم بين المسلمين. فقال تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2]. وهي مبينة في آية المائدة، وهي إطعام عشرة مساكين، أو صيام ثلاثة أيام، أو عتق رقبة.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]. ولهذا رحمنا.
وقوله: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ [التحريم:4]، أي: يحميه ويحفظه منكما يا حفصة ! ويا عائشة ! وَجِبْرِيلُ [التحريم:4] كذلك، وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4] ومعين. هكذا قال لـحفصة وعائشة.
وصفات هؤلاء الأزواج اللاتي سيبدله بهن: مُسْلِمَاتٍ [التحريم:5] القلوب والوجوه لله رب العالمين، لا يعصين الله ولا يخرجن على طاعته، مُؤْمِنَاتٍ [التحريم: 5] صادقات في إيمانهن بالله ولقائه، قَانِتَاتٍ [التحريم:5] عابدات ليلاً نهاراً، ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:5]، أي: بعضهن ثيبات كبيرات، وبعضهن أبكاراً ما تزوجن أبداً حتى يتزوج بهن الرسول، وثيبات أي: تزوج بهن غيره صلى الله عليه وسلم. فقال: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ [التحريم:5] من الذنوب، عَابِدَاتٍ [التحريم:5] لله تعالى، سَائِحَاتٍ [التحريم:5]، بمعنى: صائمات. وقد أجمعوا في التفسير أن سائحات بمعنى: صائمات، وبمعنى: مهاجرات. والصائم كالمهاجر، فالمهاجر لما يخرج لا يأكل ولا يشرب في الطريق؛ لأنه مشغول لسبب ما، حتى ينزل مكاناً يأكل به، الصائم كذلك يضل يومه كالمهاجر. فلهذا فسرت صائمات بمعنى المهاجرات، فالسائح الماشي كالمسافر وهو المهاجر. هكذا يقول تعالى لنساء الرسول المؤمنات: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:5]. ولكن الله عز وجل أكرمهن، فلم يطلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنّ أزواجه الطاهرات في الدنيا والآخرة معاً، فهن زوجات الرسول في الدنيا وفي الجنة. وهذا من إفضال الله وإنعامه.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير نبوته صلى الله عليه وسلم وبشريته الكاملة ] فقد قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التحريم:1]! فناداه باسم النبوة تقريراً لنبوته صلى الله عليه وسلم وبشريته، فهو آدمي بشري، وقد قررت الآية أنه نبي.
[ ثانياً: أخذ الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى من هذه الآية أن من قال لزوجته: أنت حرام، أو حرمتك وهو لم ينو طلاقها أن عليه كفارة يمين لا غير. وذكر القرطبي في هذه المسألة ثمانية عشر قولاً للفقهاء، أشدها البتة، وأرفقها أن فيها كفارة يمين، كما هو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى ] فأقرب هذه الأقوال إلى الحق والخير والرحمة: أن من قال: أنت حرام أو محرمة علي ولم يرد الطلاق ما تطلق، بل يكفر كفارة يمين فقط، كما أذن للرسول في ذلك وشرع له، وأعتق رقبة. فمن يقول لزوجته: أنت عليّ حرام، أو أنت محرمة، أو عليّ الطلاق أو كذا وهو لا يريد ذلك يكفر كفارة يمين، ولا يعد هذا طلقة من الطلقات أبداً. وعلى هذا الشافعي وأحمد وغيرهما، عمر رضي الله عنه قبلهما.
[ ثالثاً: كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم على ربه ] فقد تولاه الله، أدب اللتين قالتا ما قالتا. وهذه كرامة الله للرسول صلى الله عليه وسلم.
[ رابعاً ] وأخيراً: بيان [ فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ] لأن الله جعلهما ناصرين لرسول الله، فقد قال تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ [التحريم:4] يا عائشة ! ويا حفصة ! فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ [التحريم:4] يتولاه، وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التحريم:4]، وهما عمر وأبو بكر الصديق. وعمر قال كلمته وأراد أن يؤدبها، وكذلك أبو بكر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر