وها نحن ما زلنا مع سورة يس المكية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات المباركة المجودة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وما نسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:33-36].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات أدلة عقلية وبراهين ساطعة تقرر أن لا إله إلا الله، وأن البعث الآخر حق، ولا بد وأن نحيا بعد موتنا؛ لنسأل ونحاسب ونجزى على أعمالنا التي عملناها في الدنيا، وهذا أمر ضروري لا محالة.
يقول تعالى: وَآيَةٌ [يس:33] والآية: العلامة العظيمة الدالة على الشيء، ودالة على حق أو باطل، ودالة على أن هذا هو طريق أو ليس بطريق.
أي: آية لمن كذبوا بالتوحيد وعبدوا الأصنام والأحجار، وعلامة لمن أنكروا البعث الآخر، وقالوا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الصافات:16] أي: أئنا لمدينون؟ يستهزئون ويسخرون، وواجهوا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وخارجها، وهم والله! إلى الآن لو تناقشهم أو تجادلهم لقالوا هذه القولة: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الصافات:16-17]، ومنكر هذه العقيدة لن يكون فيه خير قط، ولا ينبغي أن يسند إليه شيء أو يعول عليه في شيء؛ لأنه شر كامل، وفاقد الإنسانية ما دام ينكر الحياة الثانية.
قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ [يس:33] أي: للمكذبين بالتوحيد.. للمكذبين بالبعث الآخر الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس:33]، ومعنى الأرض الميتة: أي التي لا نبات فيها ولا زرع ولا شجر، وفيها قراءتان: (الأرض الميّتة) و(الميْتة). فقد تشاهد الأرض اليابسة الجافة التي لم يأتها مطر ولا ماء ميتة.
قال: أَحْيَيْنَاهَا [يس:33]، أي: يحيي الله عز وجل الأرض بإنزال المطر، فتنبت فيها النباتات وأنواع الزهور، وأنواع الثمار، وهذا خلق الله وفعل الله فقط، وإن كان الفلاح يسقي ويزرع، فالله عز وجل هو الذي خلق الفلاح وخلق له يديه وعقله.
قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس:33] أي: أحييناها بعد موتها، وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33] أي: حب البر والشعير والذرة وما إلى ذلك، فهم منه يأكلون الخبز.
فإذا متنا نحن أيضاً يحيينا الله عز وجل كما أحيا هذه الأرض بالماء فأنبتت، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه إذا انتهت الحياة هذه كلها، وتحول الكون كله إلى صعيد واحد، ينزل الله مطراً من تحت العرش فيدخل في الأرض، فينبت البشر منه كما ينبت البقل والثوم والبصل، فإذا استوى الخلق تحت الأرض نفخ إسرافيل الأرواح، فإذا بكل روح تدخل في جسدها )، فكما بدأكم تعودون، وهذا مثل حي، فالأرض اليابسة الجافة الميتة إذا مررت بها لا ترى فيها شيئاً، وإذا مررت بها بعد حين وقد سقاها الله من ماء السماء أو ماء العيون، وإذا بها تهتز خضراء منبتة، أي: أحياها الله عز وجل، وحياة الإنسان ليست بأعظم من هذه الأرض، فبذرة عجب الذنب في أسفل ظهر الإنسان لا يفنى أبداً، بل يبقى في الأرض، فإذا نزل ذلك المطر نبتنا كما ينبت البقل.
وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33] أي: فهم منه يأكلون ويعيشون على هذه الحبوب، وهذه الحبوب أوجدها الله عز وجل من أجل بني آدم ليأكلوا، فليعبدوه وليوحدوه وليشكروه على نعمه، لا أن يكفروا ويكذبوا ويجحدوا.
قال تعالى: وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ [يس:34]، هذه العيون التي في الآبار والبحار، والأنهار التي تجري في الأودية وتجري في البساتين، أليس الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها، وهو الذي أوجد العاملين ووفقهم لإخراجها من الأرض والسقي بها؟ فالخلق كله لله عز وجل.
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ [يس:34] (عيون) جمع عين.
والله! ليس لهم عقول حية، فعقولهم ميتة، ومسخها إبليس.
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [يس:35] والثمر معروف. وفيها قراءتان: (ثُمْره) و(ثَمره)، والكل واقع.
وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس:35]، وهنا اللفظ يحمل معنيين صحيحين:
أولاً: أي هم الذين لم يصنعوا الماء، والأرض وما فيها من فواكه ونعم. وإن قلت: الفلاح بيده والمسحاة، نقول: فمن خلق الفلاح، ومن أوجد مادة المسحاة سوى الله عز وجل.
وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس:35] أي: ولم تعمله أيديهم، بل الله الذي أوجده لهم فهم يأكلون ويشربون.
ثانياً: أي: ليأكلوا من ثمره وليأكلوا مما عملته أيديهم من الحلويات والخبز والجبن، وما إلى ذلك مما عملته أيديهم الذي خلقها الله وسخر العقول، وهذا كله لله، فلم يسعنا إلا أن نقول: لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا الله حتى بالإشارة، ولا نعترف بألوهية غيره كائناً من كان، سواء كان في السماء أو في الأرض إلا الله سبحانه وتعالى، وهذه الآيات الكريمة براهين عقلية على أن لا إله إلا الله.
وأخيراً يلومنا ويوبخنا الله عز وجل ويعتب علينا، فيقول: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:35]، تضع بين يدي أخيك سفرة عليها أنواع الطعام والشراب.. تأكل وتشرب ولا تقل: جزاك الله خيراً! فأين يُذهب بعقلك؟!
وتوضع بين يديك ألوان الطعام والشراب، واللباس والمراكب ولا تقل: الحمد لله، أأنت مجنون لا عقل لك؟
(أَفَلا يَشْكُرُونَ)، فليفكروا.. من خلقهم، ولماذا خلقهم، ومن خلق كل هذه الأكوان؟ ومن خلق هذه الحياة، سوى الله سبحانه وتعالى.
إذاً: لِم لا يعبدونه بطاعته وطاعة رسوله، فيكونون شاكرين بذلك؟
أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:35]، فالمؤمنون المسلمون إذا أكل أحدهم أو شرب قال: الحمد لله، وإذا ركب الدابة قال: الحمد لله، وإذا لبس الثوب قال: الحمد لله، وإذا مرض وعوفي قال: الحمد لله، فدائماً كلمة (الحمد لله) شعارنا، ألا وهي شكر الله، والشكر له مظاهر:
أولاً: أن تعترف بالنعمة في قلبك وأنها من الله. أي أن تعتقد أن هذه النعمة الله هو وحده واهبها ومعطيها لك، فلا أمك ولا أبوك ولا الدولة ولا السلطان.
ثانياً: الترجمة لما في القلب بكلمة (الحمد لله)، تترجم ذلك المعنى الذي في صدرك، وهو اعترافك بأن هذه النعمة من الله وتقول: الحمد لله.
ثالثاً: أن هذه النعمة إن كانت عقلك أو سمعك أو بصرك، أو علمك أو جاهك أو سلطانك، أو مالك أو دراهمك.. هذه النعمة يجب أن تصرفها فيما يحب المنعم جل جلاله وعظم سلطانه، فإن صرفتها فيما يغضبه ظلمت وإنك من الظالمين، وكفرت وإنك من الكافرين، ولم تكن من الشاكرين أبداً.
وهبك سمعك فاستخدمه فيما يرضيه فلا تسمع ما يغضبه ويسخطه عليك.
وهبك بصرك ابصر به وانظر ما أذن لك الله فيه، أما أن تنظر إلى ما حرم فقد عصيت وما شكرت النعمة وكفرتها.
وهبك ديناراً في جيبك أنفقه حيث يرضى الله، ولا تنفقه حيث يسخط الله فتكون من غير الشاكرين.
وهبك الله عقلك استخدمه كآلة تميز بها بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين المعروف والمنكر، فإن هذا العقل نعمة من نعم الله عليك، فإن أهملتها بمعصية الله فيا ويلك.. فتكون كفرت هذه النعمة وما أنت من الشاكرين.
وهكذا يقول تعالى: أفلا يشكروننا على هذه النعم، نعمة الإيجاد والإمداد، أوجدناهم وأمددناهم بالأرزاق والحياة، لِم ما يشكروننا؟
وتمضي ألف وأربعمائة سنة ويقرر علماء الطبيعة أن الزوجية هذه في كل الكون حتى في الذرة، ولا توجد مادة إلا ولها ضدها، قلنا: سبقكم القرآن بألف وأربعمائة سنة، خلق الأزواج كلها ولا فرد إلا الله، وكل شيء زوج، ذكر وأنثى في الحيوانات.. في النباتات.. في البشرية.. أصناف، وهكذا علو وسفل، عزة وذلة، مرض وصحة، غنى وفقر.. وهكذا أزواج.
ومن هنا لما عرفتم الزوجية والأزواج.. هذه الدار الدنيا لها زوج وهي الدار الآخرة، ويفهم هذا بالعقل؛ إذ كل شيء له زوج، فهذه الدنيا إذاً لها أخرى، نظيرها وزوجها.
فلِم لا يؤمنون بهذه الزوجية في كل الكائنات ولا يؤمنون بالدار الآخر -والعياذ بالله-؟
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ [يس:36] هذا ولد وهذه بنت، وهذا ذكر وهذه أنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36] في الملكوت كلها أشياء لا يعلمونها وهي زوجية.
فقولوا: آمنا بالله، ولا إله إلا الله. وقولوا: آمنا بلقاء الله، اللهم أحينا على الإسلام، وتوفنا عليه يا رب العالمين!
من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: تقرير عقيدة البعث والجزاء.. الحياة الثانية للجزاء على الكسب في هذه الدنيا، وهذه العقيدة هي الروح، وهي الطاقة، وهي القدرة، وبها نستطيع أن نصوم ولا نأكل، وبها نستطيع أن نستعصم ونستمسك ولا نزني ولا نفجر، وإن فقدت هبطنا إلى الأبد.
ولهذا عقيدة البعث الآخر والحياة الثانية هي أعظم عقيدة، وصاحبها لا يقع في الفساد والشر أبداً، ودائماً مع الله.
[ثانياً: دليل نظام الزوجية، وهو آية على أن القرآن وحي الله وكلامه؛ إذ قرر القرآن نظام الزوجية قبل معرفة الناس لهذا النظام في الذرة وغيرها في القرن العشرين].
نظام الزوجية قرره القرآن: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا [يس:36]، وفي القرن العشرين اكتشفوا أن الذرة لها ذكر وأنثى، زوجية صنفان حتى في المرض، والقرآن سبق هذا بألف سنة وزيادة.
[وأخيراً: وجوب شكر الله تعالى بالإيمان، وبطاعته وطاعة رسوله على نعمه، ومنها الإيجاد ونعمة الإمداد أي بالغذاء والماء والهواء].
ما دام قد أوجدنا بفضله ومنته ورحمته، وأوجد لنا الكون هذا بما فيه، وأوجد أرزاقنا، وهيأ لنا هذه الحياة، فهذا كيف لا نشكره؟!
فالحمد لله.. الحمد لله، فلا تفارق لسانك كلمة (الحمد لله) أبداً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر