أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:38-43].
ثم قال تعالى: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38]، فلا تعجبوا من هذا الكلام، إذ إن أهل الباطل والخبث والشر والفساد يقولون مثل هذا وأكثر، مع أن العقلاء يسخرون من هذا الكلام، ولكن لجبروته وطغيانه وعتوه ادعى هذه الدعوة والناس يسمعون ويبصرون.
ولهذا يخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم فيقول: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، أي: لا يدخل الجنة دار السلام من كان في قلبه أيام حياته مثقال ذرة من كبر؛ لأنه إذا وجد هذا المثقال من الكبر فصاحبه لا يعبد الله ولا يستقيم أبداً؛ لأنه مصاب بهذا المرض وهذا الداء، فلا يعترف بالحق ولا يذعن له، فنعوذ بالله من الكبر! اللهم إنا عبيدك أبناء عبيدك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، أنت ولينا ولا ولي لنا سواك.
أعيد القول فأقول: أركان الإيمان ستة، وأعظمها: لا إله إلا الله، وذلك بأن تعتقد أنه لا يستحق أن يعبد في هذه العوالم كلها العلوية والسفلية إلا الله، لا يستحق أن يعبد بالركوع والسجود وبالذكر والدعاء إلا الله تعالى، وثانياً: الإيمان بأن محمداً بن عبد الله رسول من الله قطعاً، وثالثاً: الإيمان بالبعث الآخر، أي: أن تؤمن أنك ستبعث في يوم من الأيام بعد موتك حياً كما كنت، فتسأل وتجيب وتجزى بعملك، ولذا فإن كثيراً من الآيات يقول الله تعالى فيها: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2]، وهذا الذي نقوله هو في من يؤمن بالله واليوم الآخر، أما الشخص الذي لا يؤمن بالدار الآخرة وما يجري فيها ويتم فهذا شر الخلق، فلا يوثق به في شيء، ولا يعول عليه في شيء، ولا يسند إليه شيء أبداً، إذ الذي ينكر ألوهية الله ونبوة رسوله والبعث الآخر هو شر الخلق والعياذ بالله.
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا [القصص:39]، ماذا؟ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا [القصص:39]، أي: إلى الله تعالى، لا يُرْجَعُونَ [القصص:39]، والله ليرجعون إلى الله رغم أنوفهم، فالذي أوجدكم في هذه الأرض وعشتم فيها عشرات السنين ثم أماتكم رغم أنوفكم وأنتم كارهون، هل يعجز عن أن يردكم مرة أخرى؟ أي عقل وأي فهم يفهم هذا؟! كيف ينكر البعث والجزاء؟!
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ [القصص:40]، أي: عساكره، فَنَبَذْنَاهُمْ [القصص:40]، أي: طرحناهم، فِي الْيَمِّ [القصص:40]، أي: في البحر، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص:40]؟ وقد بين لنا تعالى ذلك، وذلك لما خرج موسى يريد أرض فلسطين بعدما انهزم فرعون الانهزام العجيب، وصل موسى إلى البحر فأمره الله أن يضرب بعصاه البحر فانفلق البحر إلى فلقتين، ثم دخل بنو إسرائيل وجاء فرعون وجنوده يطاردهم ويلاحقهم، فلما دخلوا في اليم أو في البحر وخرج بنو إسرائيل من البحر، أغلق الله عليهم البحر فهلكوا كلهم في البحر.
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ [القصص:40]، من؟ الظَّالِمِينَ [القصص:40]، وفعلاً فقد كانوا ظالمين، فهل يوجد اليوم في الأرض ظالمون؟ ومن هم الظالمون؟ إن كل كافر ومشرك بالله في عبادته والله إنه لظالم، فضلاً عن السرق والفجرة والخونة والخادعين، بل كل من يضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم، فالذين يعبدون غير الله أي ظلم أفظع من هذا الظلم؟ إذ إنه يأخذ حق الله ويعطيه للمخلوقين فيعبدونه! فأي ظلم أفظع من هذا الظلم؟ والذين يسلبون الناس أموالهم وينتهكون أعراضهم ويهينونهم ويدوسونهم بنعالهم أليس هذا ظلماً؟!
فَانظُرْ [القصص:40]، يا رسولنا! كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ [القصص:40]، ونهاية، الظَّالِمِينَ [القصص:40]؟ وهو الإغراق والتدمير حتى خربت البلاد واستولى عليها بنو إسرائيل.
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ [القصص:41]، إلى الجنة؟! يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41]، أما أئمة التوحيد والإيمان والإسلام يدعون والله إلى الجنة، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص:41]، أما دعاة الهدى والإيمان والإسلام والله لينصرهم الله يوم القيامة ويدخلهم دار السلام، بل ويشفعهم في غيرهم.
ثم قال تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى [القصص:43]، أي: قوم نوح وعاد وثمود وصالح وإبراهيم، ثم جاء موسى من بعد ذلك، وهذا الكتاب -التوراة- يقول الله فيه: بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً [القصص:43]، فالتوراة بصائر، أي: يبصرون بها الحق فيعرفونه، ويبصرون بها الباطل فيعرفونه، ويبصرون بها الخير فيعرفونه، فأنوار الله كتابه كما هو القرآن الكريم، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، كذلك آتى الله موسى التوراة بصائر لبني إسرائيل ولمن آمن معهم ودخل في دين الله تعالى، وهدىً يهتدون بها إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، ورحمة تعمهم وتغمرهم، فلا خبث ولا ظلم ولا شر ولا فساد.
فأسألكم بالله يا أبنائي! أرأيتم لو أن أهل قرية يجتمعون على كتاب الله كاجتماعنا هذا كل ليلة وطول العمر، هل يبقى فيهم فاسق أو ظالم أو جاهل؟ والله ما يبقى، فكذلك لو أن كل حي من أحياء المدينة صلوا المغرب واجتمعوا بنسائهم ورجالهم يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم كل ليلة وطول العالم، هل يبقى بينهم ظالم أو فاسق أو فاجر؟ والله لا يمكن، إذ إنهم يعلمون، فإذا علموا عرفوا، وبالتالي فكيف يفسدون أو يفجرون؟ ومع هذا ما انتبهنا ولا أفقنا أبداً، بل ما زلنا كما يعلم الله تعالى.
ثم دلوني على أهل قرية يجتمعون على كتاب الله كل ليلة وطول العام بنسائهم وأطفالهم ورجالهم؟ دلوني عليهم والله نذهب نزورهم، سواء في الشرق أو في الغرب، في العرب أو في العجم، فلم لا يكون هذا؟ كيف نعرف ربنا؟ كيف نخافه؟ كيف نحبه؟ كيف نطمع ونرغب فيه ونحن بعداء؟ كيف نعرف ما نتقرب به إلى الله تعالى؟ كيف نجاهد أنفسنا ونبعدها عن الهوى والدنيا والشهوات والأهواء؟ من أين يأتي ذلك؟ إن الطريق الوحيد هو أن نجتمع على كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم كما فعل سلفنا الصالح، ووالله إن رسول الله ليجلس في تلك الروضة وحوله أصحابه بالمئات يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وقد امتن الله عليهم بهذا فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2]، علموا أو ما علموا؟ علموا وأصبحوا علماء ربانيين مع أن أكثرهم والله ما يقرأ ولا يكتب، ولو تعرف تاريخهم وكمالهم لتعجب من صلاحهم، فما سبب ذلك؟ القرآن العظيم الذي هجرناه وابتعدنا عنه بحيلة اليهود والنصارى والمجوس.
قال: [ ثانياً: تقرير صفة العلو والاستكبار لفرعون، وأنه كان من العالين ]، فرعون كان من الجبارين المتكبرين، ويكفي أن يقول: ما علمت لكم من إله غيري، هكذا يقول للعوام ويستخف بهم، ويقول أيضاً: أنا ربكم الأعلى، فأين مصيره؟ في جهنم لا ينتهي عذابه أبداً هو والمتبعون له.
قال: [ ثالثاً: بيان كيف تكون عاقبة الظلمة دماراً وفساداً ]، بيان كيف تكون عاقبة الظالمين دماراً وخساراً؟ فكيف انتهى فرعون وقومه؟ بشرونا؟ أخبرونا؟ أليسوا من الغرق إلى جهنم؟ فهذه هي نهايتهم ونهاية كل الظالمين.
قال: [ رابعاً: دعاة الدعارة والخنا والضلال والشرك أئمة أهل النار يدعون إليها وهم لا يشعرون ]، من هم دعاة أهل النار بيننا؟ دعاة الربا والزنا والخمر واللواط والكذب والعقوق والشرك والباطل والخرافة والضلالة، فهم والله لدعاة النار، أي: يدعون الناس إلى النار، لا أنهم يقولون: ندعوكم إلى النار، وإنما يدعونهم إلى الأفعال والعقائد التي توجب لهم النار والعياذ بالله، وقد سمى الله فرعون وملأه دعاة إلى النار، إذ إنهم يدعونهم إلى الكفر والشرك والظلم حتى يدخلوا النار والعياذ بالله.
قال: [ خامساً: بيان إفضال الله تعالى على بني إسرائيل بإنزال التوراة فيهم كتاباً كله بصائر وهدى ورحمة ]، بيان إفضال الله وإنعامه على بني إسرائيل، إذ أنقذهم من فرعون وجبروته، وأرسل فيهم موسى عليه السلام، وأنزل عليهم التوراة، وعاشوا سعداء كذا قرن من الزمان، وبعد ذلك انتكسوا وهبطوا لما أعرضوا عن كتاب الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك كما هي حالنا اليوم والأسف.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر