أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:123-132].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا الكلام الذي ندرسه هو كلام الله خالقنا ورازقنا وواهبنا الحياة، والذي يتوفانا، ونحن نسأله أن يتوفانا مسلمين. وهو صاحب هذا الكلام، وقد أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في ظرف ثلاث وعشرين سنة، ونزله عليه آية بعد آية، وسورة بعد سورة.
وها نحن الآن نظفر بوقت ندرس فيه كلام ربنا، وملايين البشر ما يسمعون كلام الله ولا يعرفونه ولا يؤمنون به، ومن فضل الله علينا أن أدخلنا في الإسلام، وجعلنا من أهل الإيمان، وها نحن مع كلام ربنا، وليس كلام وزير ولا سلطان، ولا ملك ولا حاكم، بل هو كلام خالقنا ورازقنا، الذي نعبده في الصباح والمساء.
قال تعالى هنا: وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:123]. بعدما ذكر نوحاً وإبراهيم وموسى وهارون الآن ذكر لنا حادثة إلياس. وإلياس نبي نبأه الله، ورسول أرسله الله إلى مدينة بعلبك بالشام؛ إذ أهلها انتكسوا، وهم بنو إسرائيل قطعاً، وعبدوا بعلاً، والعياذ بالله، واتخذوه إلهاً وعبدوه. فبعث الله إليهم إلياس من ذرية هارون عليه السلام؛ ليعلمهم الطريق إلى الله. والذي فعل هذا هو الله عز وجل، فهو الذي أرسل إلياس. فإلياس أحد أنبياء ورسل بني إسرائيل. وقد بعثه الله لما فسدت مدينة بعلبك الموجودة في الشام، ووضعوا صنماً وعبدوه، وقد قيل: كان في شكل امرأة، وقيل في شكل كذا، ووضعوه تحت عنوان التزلف والتقرب والتوسل، كما فعل ملايين المسلمين لما هبطنا من علياء السماء، وأصبحنا نعبد الموتى، ونقول: هذا سيدي فلان، وهذا مولاي فلان. وأصبحنا نستغيث بهم، ونستعيذ بهم، ونذبح لهم الذبائح، ونحلف بحياتهم، ونعكف على قبورهم.
ولما مات العلماء وفقد العلم حصل هذا لبني إسرائيل، وكانوا أتباع موسى وهارون، فانتكس أولادهم في هذه المدينة، وأصبحوا يعبدون صنماً في صورة من الصور، فكانوا يعبدونه ويتوسلون به، ويحلفون به، ويعكفون حوله، ويذبحون له الذبائح، وينذرون له النذور. وهذه هي العبادة.
فبعث الله تعالى إليهم إلياس عليه السلام، وهو من ذرية هارون عليه السلام، فقال تعالى: وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:123] الذين أرسلناهم إلى الأمم والشعوب، وإلى المدن والقرى؛ ليعلموا الناس سر وجودهم وعلة وجودهم، وهي أن يعبدوا الله بذكره وشكره، فإذا انتكسوا وصرفتهم الشياطين عن عبادة الله وبينت لهم عبادة الشياطين عبدوا الشياطين. ومن رحمة الله أن يبعث إليهم من ينبههم، ومن يعلمهم، ومن يبصرهم. وهذه سنته. وها هو ذا قد بعث إلى البشرية كلها عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم. وسبحان الله!
وهنا لطيفة علمية أكررها، وهي: أن علم الله عز وجل أن البشرية تتقدم يوماً فيوماً لتصبح وكأنها في بلد واحد، فهذه الطائرات وهذه السفن والسيارات جعلت العالم كله كمدينة واحدة، فمن هنا أرسل رسولاً واحداً، ووالله لو كانت البلاد متقطعة لكان لله أن يرسل رسلاً، ولكن علم أن البشرية في يوم قريب ستصبح وكأنها بلد واحد، ولذلك فرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم كافية، ولذلك لم يجدد لها رسالة جديدة.
وتقوى الله عز وجل واتقاء عذاب الله وسخطه وغضبه علينا والنار والجحيم يكون بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأداة التقوى هي الإيمان أولاً، والطاعة لله ورسوله ثانياً. وبالإيمان وطاعة الرحمن نكون قد اتقينا عذاب الله، وجعلنا بيننا وبينه وقاية، فلا يصيبنا ولا ينزل علينا أبداً. وهذا إلياس الرسول الكريم يقول لقومه بني إسرائيل في مدينة بعلبك: أَلا تَتَّقُونَ [الصافات:124]؟ فهو يحثهم ويحضهم على التقوى بأن يعبدوا الله وحده، ولا يعبدوا الأصنام والأحجار معه.
وقد علمتم رحمكم الله أن تقوى الله عز وجل تكون بالإيمان وصالح الأعمال، وترك المحرمات والبعد عن المنهيات. وبذلك يتقى عذاب الله.
فهنا إلياس قال لقومه: أَتَدْعُونَ بَعْلًا [الصافات:125]؟ ومعنى تدعون أي: تعبدونه بالدعاء والاستغاثة، وسؤال الحاجات وما إلى ذلك، كما فعل جهالنا من أندونيسيا إلى موريتانيا من قرون عديدة، فهم يقولون: يا سيدي فلان! ويا فلان! وينادون الأموات بأعلى أصواتهم. وهم إلى الآن ينادون: يا فاطمة ! يا حسين ! يا رسول الله! يا أبا كذا! وهذا هو دعاء غير الله. وهذا هو الشرك، ووالله إنه لشرك بالله. والشياطين هي التي زينت لهم هذا وحسنته، فهم يتركون خالقهم الذي صنعهم وأوجدهم، ولا يرفعون أكفهم إليه ولا يسألونه، بل يقول: يا سيدي فلان! يا مولاي فلان! فهذا من تزيين الشياطين.
وانظر إلى ما حصل لأصحاب بعلبك من بني إسرائيل من أولاد موسى وهارون، فقد انتكسوا في هذه المدينة، فأرسل الله إليهم عبده ورسوله إلياس، فقال: أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ [الصافات:125]؟ أي: وتتركون أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ [الصافات:125].
وقوله: اللَّهَ رَبَّكُمْ [الصافات:126]، أي: خالقكم وَرَبَّ آبَائِكُمُ [الصافات:126]، أي: وخالق آبائكم الأَوَّلِينَ [الصافات:126]، من أبيكم إلى آدم عليه السلام، فهو الخالق. وهذه حجج منطقية. فأنتم تدعون بعلاً وتتركون أحسن الخالقين، وأحسن الخالقين اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الصافات:126].
وقوله: فَكَذَّبُوهُ [الصافات:127]، أي: كذبوا رسول الله إلياس عليه السلام. والنتيجة: فَإِنَّهُمْ [الصافات:127] والله لَمُحْضَرُونَ [الصافات:127] في جهنم، كما قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:127]، أي: يحضرون في جهنم.
وهذا شأن من كذب الرسول، فلم يصم ولم يصل، ولم يترك الربا ولا الزنا، ولم يعبد الله عز وجل. فهذا مصيره والله ليحضرن في جهنم. وهم كذبوا إلياس، وما عبدوا الله عبادة صحيحة، بل أعرضوا عنها، وعبدوا معه غيره، فأخبر تعالى إنهم في جهنم، فقد قال: فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:127]. وهذه اللام دالة على القسم، فكأنما قال: وعزتنا وجلالنا إنهم في جهنم.
وقوله: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:128]، الذي استخلصهم هو الله عز وجل، فهداهم ووفقهم، فعبدوه وحده بما شرع لهم بعد إيمانهم به وإيمانهم برسوله، وماتوا مسلمين، فهم في الجنة، ولن يكونوا من أهل النار أبداً، كما قال تعالى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:128]، أي: الذين استخلصهم الله لعبادته، فعبدوه وأطاعوه بفعل ما أمر، وترك ما نهى. وهذه هي العبادة. فقد أمرهم بأن يصوموا فصاموا، وأمرهم بأن يتصدقوا فتصدقوا، وأمرهم بكذا ففعلوا، ونهاهم عن كذا ففعلوا. وهذه هي العبادة؛ إذ هي الطاعة والانقياد.
والمحسنون هم الذين يحسنون العبادة ويتقنونها ويجودونها، والذين يعبدون الله، وهم مؤمنون بأن الله ينظر إليهم، وأنهم بين يديه، فيؤدون العبادة على أكمل وجوهها وأتمها وأحسنها. هؤلاء هم المحسنون. وكذلك يحسنون أيضاً إلى أقاربهم وأبويهم، ويحسنون إلى كل إنسان، ولا يسيئون أبداً. فهؤلاء هكذا تعالى يقول أنه يجزيهم أيضاً.
فالمحسنون سلام عليهم. فقولوا: اللهم اجعلنا من المحسنين.
وهنا علم يجب ألا يغيب عن أذهاننا، وهو: أنه يجب أن نعرف العبادات التي تعبدنا الله بها ما هي، ثم لما نقوم بأدائها نؤديها على الوجه المطلوب وعلى الوجه الحسن؛ حتى تزكي نفوسنا وتطهر قلوبنا.
وسر هذه العبادات أنها أولاً: من أجلها خلقنا الله وخلق هذا العالم، وثانياً: هذه العبادات الحكمة منها أنها تزكي النفوس البشرية، وتطيبها وتطهرها.
فالعبرة بالنفس البشرية هل هي زكية طاهرة نقية، زكاها صاحبها وطهرها بهذه العبادات على الوجه المطلوب، أو أهملها وصب عليها أطنان الذنوب والآثام من الشرك والكفر والعصيان، فتكون نفسه خبيثة، ومصيره جهنم.
وقد علمنا زادنا الله علماً أن هذه الحياة الدنيا أوجدها الله للعبادة فقط، فمن عبد الله جازاه على عبادته، ومن كفر بالله وترك عبادته جازاه بكفره وترك عبادته. والجزاء في الدار الثانية؛ إذ الحياة الأولى هذه دار عمل، والحياة الثانية التي هي الجنة والنار دار جزاء، فهي والله لدار جزاء، وليس فيها صناعة ولا حرافة، ولا زراعة ولا غير ذلك، بل أهل الجنة في نعيمهم صباح مساء، وأهل النار في جحيمهم وعذابهم كذلك.
وقد عرفتم أن سر هذه الحياة هو أن يُذكر الله ويُشكر، فمن ذكر الله وشكره بعبادته كان في الدار الآخرة من السعداء، ومن كفر بالله ولقائه وما ذكر ولا شكر بل فسق وفجر وكفر والعياذ بالله فمصيره بعد موته في عالم الشقاء في جهنم، والعياذ بالله تعالى. وإن شاء الله ما ننسى هذا العلم. ووالله لمعرفتك هذه القضية هكذا خير من مليون ريال.
وقوله تعالى: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:131]، إي: يجزيهم كما جزى إلياس وأهله ومن معه، فهو يجزي المحسنين دائماً وأبداً.
وقد علمتم أن مؤمناً واحداً يوضع في كفة ميزان وتوضع البشرية الكافرة كلها في كفة ثانية، وترجح والله كفة المؤمن وأقسم بالله؛ لأن هذا الكافر خلق الله له هذا الكون كله من أجله، ثم هو يعرض عنه ويلوي رأسه، ولا يذكره ولا يشكره ولا يعبده، ولذلك جزاؤه الخلود الأبدي بليارات السنين في عالم الشقاء في أسفل السافلين في جهنم.
اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين، وأحينا على الإيمان، وتوفنا عليه يا رب العالمين!
[ من هداية الآيات:
أولاً ] من هداية هذه الآيات التي تدارسناها: [ تقرير التوحيد، والتنديد بالشرك ] ففيها تقرير التوحيد، وأنه هو الحق، فيجب أن نوحد ربنا في عبادته، وألا نشرك به فيها، وكذلك فيها التنديد بالشرك والمشركين، والعياذ بالله. هذه الهداية الأولى.
[ ثانياً ] من هداية هذه الآيات: [ هلاك ] وخسران [ المشركين ] يوم القيامة [ و] بيان [ نجاة الموحدين يوم القيامة ] في دار السلام، فالموحدون في الجنة دار الأبرار، والمشركون في دار البوار والخزي والعار في جهنم.
[ ثالثاً: ] بيان [ فضل الإحسان ومجازاة أهله بحسن الجزاء ] وقد بينا للصالحين والصالحات معنى الإحسان، فهو: إتقان العبادة وتجويدها وأداؤها على الوجه المطلوب؛ حتى تزكي النفس وتطهرها. ولا بد أن يكون الإحسان عاماً لكل من معنا من الناس، بل حتى الحيوان نحسن إليه، ولا نسيء إليه.
[ رابعاً ] وأخيراً من هداية هذه الآيات: [ فضل الإيمان، وأنه سبب كل خير وكمال ] فهو السبب في الهداية، وغير المؤمن ما يهتدي، فالذي آمن بأن هذا الطريق يصل به إلى المكان الفلاني هذا الذي يسلكه ويهتدي، والذي ما آمن أن هذا الطريق يصل به إلى كذا ما يسلكه ولا يهتدي. فالإيمان أولاً، ويكون الإعلان عنه بكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وأن يقول: آمنا بالله وبلقائه، وآمنا بالله وبكل ما أمرنا الله أن نؤمن به، سواء أدركناه أو لم ندركه، عقلناه أو لم نعقله، فنقول: آمنا بالله.
ولا ننسى لطيفة في هذا الباب، وهي: أنه كان الحبيب صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه هناك في الروضة، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، وإذا به يأخذ لحيته بيده ويقول: ( آمنت به .. آمنت به .. آمنت به ). ثم قال: ( جاءني جبريل وأخبرني أن أحد رجال بني إسرائيل كان يركب بقرته، فرفعت البقرة رأسها إليه هكذا وقالت: ما لهذا خلقت .. ما لهذا خلقت ). فالبقرة ما خلقت للركوب عليها، بل خلقت للحرث والحلب وشرب اللبن، وليس لهذا خلقت. فالبقرة نطقت والله العظيم، والرسول صلى الله عليه وسلم آمن بهذا، وقال: ( آمنت به .. آمنت به .. آمنت به ). ولم يقل: البقرة لا تنطق، بل والله نطقت، وقالت: ما لهذا خلقت، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( آمنت به ). ونحن نقول: آمنا بما آمن به رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر