وها نحن الليلة مع سورة فاطر المكية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله، والله نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:12-14].
أولاً قوله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ [فاطر:12]، فلا يستوي النيل مع البحر الأحمر، هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، والله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد هذين البحرين، ومستحيل أن يوجد موجود بدون موجد، حتى ولو كان كأساً فيه حليب، فكيف يكفرون بالله ولا يؤمنون به ولا يحبونه ولا يخافونه، وهذه المخلوقات هو الله عز وجل الذي أوجدها وخلقها؟
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ [فاطر:12] أي: عذب طيب حلو زائد فوق العادة، سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [فاطر:12] أيضاً شديد الملوحة.
ومع هذا: وَمِنْ كُلٍّ [فاطر:12] أي: من البحرين العذب الفرات، والملح الأجاج تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا [فاطر:12]، فإذا ما أكلتم أنتم أكل آباءكم، فهذا الحوت وهذا السمك خلقه الله، فأوجده في البحر وسخره لنا، وأعاننا على صيده وأخذه، ويسر لنا أمر أكله واستساغته، فلنقل: لا إله إلا الله، آمنا بالله.
وَمِنْ كُلٍّ [فاطر:12] أي: من البحرين الحلو والمالح تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا [فاطر:12] ألا وهو السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12] أي: تلبسها نساءكم، أما الرجل ما يلبس الحلي، لكن ما دمنا نُلبسها نساءنا وبناتنا إذاً نحن الذين نلبسها، وهو اللؤلؤ والمرجان، ويوجد هذا في البحر المالح لا الحلو.
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً [فاطر:12] أي: تتحلون بها أو تحلون بها نساءكم.
وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر:12]، يا عبد الله! يا عاقل! ترى الفلك -السفينة- في البحر تنخر الماء وتشقه، فهذه ذاهبة وهذه آتية، فيها التجار يحملون البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم، ومن منطقة إلى أخرى؛ لتبتغوا وتطلبوا الرزق من فضله عز وجل لا من فضل اللات ولا العزى ولا مناة.
لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:12] أي: الرزق الكافي لكم.
إذاً: ومن أجل أن تشكروا الله عز وجل، والشكر يا معشر المستمعين والمستمعات! لنعم الله يكون بثلاث:
الأولى: أن نعترف بأن هذه النعمة من الله عز وجل وحده، لا من أمي ولا من أبي ولا من الدولة ولا من السلطان، فقط أن نعترف في قلوبنا أن هذا الماء أو الطعام أو اللباس أو المركوب أو كذا.. من الله عز وجل؛ إذ هو والله! لمن الله، إذ لا خالق للأشياء إلا هو، ولا موجد للكائنات إلا هو.
ثانياً: أن نحمد الله بألسنتنا وتشكره، ونقول: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله، وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم ما رفعت سفرته بين يديه إلا قال: ( الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا ).
وإني في أغلب أوقاتي أجلس أستحي وأنا آكل متكئ، وأحمد الله وأنا متكئ، أجلس ثم أحمد الله سبع مرات: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع، ولا مستغنى عنه ربنا؛ اقتداء برسول الله، وحمداً لله عز وجل.
والغافلون والله! يأكلون ولا يحمدون، ويشربون ولا يحمدون، ويركبون ولا يحمدون، ويصحون من المرض ولا يحمدون؛ لأنهم ما عرفوا الله، إما كفروا به وإما تجاهلوا عنه ولم يسألوا عنه، والله يقول: فعلنا لكم هذا من أجل أن تكونوا من الشاكرين، فما أعطاكم هذا السمك وهذا الماء الحلو، وهذا وهذا.. إلا من أجل أن تشكروا، فكيف إذاً بالذين لا يشكرون، فكيف يسعدون وينجون؟
ثالثاً: أن نصرف النعمة التي عرفنا أنها من الله وحمدناه عليها فيما يحب هو، لا فيما نحب نحن.
أن تصرف تلك النعمة فيما يحب الله عز وجل لا فيما يكره، أنعم عليك بريالات اعترف بأنها من الله، وقل: الحمد لله، ولا تشتر بريال واحد سيجارة لتحرقها، ولا تشتر بريال واحد شيئاً حرمه الله كهذه التكييفات، وهذه العفونات.
وهكذا مرة ثانية -يا معشر المستمعين والمستمعات- النعمة لها ثلاث حالات:
الأولى: الاعتراف بالقلب واليقين أنها من الله لا من غير الله.
ثانياً: أن تحمد الله بلسانك، بكلمة: الحمد لله.. الحمد لله والشكر لله.
ثالثاً: أن تصرفها فيما يحب الله، أعطاك الله سمعك أليس كذلك؟ نعمة أنعم بها عيك يجب ألا تسمع بهذا السمع ما يكره الله، والله! لا يجوز، أيهبك سمعك لتسمع به ما ينفعك فتتحدى الله وتسمع به ما يكره من الباطل والفساد والشر؟ فلا يحل هذا أبداً.
وهبك بصرك وأصبحت تبصر به طريقك، وتعرف ما يضر وما ينفع، فلا يحل لك أن تصرف هذه النعمة ثم تنظر إلى المحرمات من النساء، وتتبعهن بعينيك. فهذه أمثلة لقوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [فاطر:12].
ثانياً: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [فاطر:13] أولاً: أوجدهما الموجد الله عز وجل، وسخرهما يسيران في فلكين دائمين بانتظام عجيب، بالدقيقة بل باللحظة لا بالدقيقة.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي [فاطر:13] أي: يسير دائماً إلى أجل مسمى، إلى أن تنتهي الحياة، فلا يفهم أن الشمس تطلع هكذا دائماً والقمر يبدأ هكذا دائماً، والله! ليسيران إلى أجل محدد وساعة معينة، فتنطفئ الأنوار والشموس والأقمار وتقوم الساعة.
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ [فاطر:13] أي: لوقت مُسَمًّى [فاطر:13] أي: مسمى عند الله، فتقوم القيامة وينفلق القمر وتهبط الشمس وتحترق.
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [فاطر:13] أي: ليس عندكم رب إلا هو سبحانه، والله! ما للخليقة رب إلا الله، وهل يوجد خالق مع الله تجلى في الهند أو في اليابان أو في الأمريكان؟!
قال تعالى في المشركون من العرب: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] بلا تردد، وقال أيضاً: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، والآن العلمانيون والملاحدة يقولون.. أما البلاشفة الحمر فقد احترقوا وتحطموا وما بقيت بلشفة، الذين كانوا يقولون: لا إله والحياة مادة، فقط اطلبوا النكاح والأكل والشرب، فقط الحياة مادة! لكن انهزموا.
وجاء من بعدهم العلمانيون الذين يقولون: كل شيء إلى العلم، ولا تقل: الله أبداً، ولا تقل: كيف نصلي حتى نسعد، ولكن العلم فقط! فسموا بالعلمانيين، وهم والله! لورثة الشيوعيين، فعندما انطفأت نار الشيوعية ظهرت نار العلمانيين.
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [فاطر:13] أي: ملك السماوات والأرض، إذاً فكيف تمد يدك لغيره؟ وكيف تقول: يا عيسى! ويا مريم ! أعطني كذا؟
والعوام يقولون: يا رسول الله! يا فاطمة ! يا حسين ! يا عبد القادر ! يا بدوي ! يا إدريس ! يا فلان يا فلان! يدعونهم وهم يعرفون أن الملك لله؟
فالملك لا يطلب إلا من صاحبه، فهذا الطعام وهذا الشراب تطلبه ممن يملكه، فالله يقول: لَهُ الْمُلْكُ [فاطر:13] المطلق، إذاً فارفعوا أيديكم إليه واسألوه هو ولا تلتفتوا إلى غيره أبداً، إن الشياطين تزين للناس أن يدعو غير الله، ويسألوا غير الله، ولا يملك لهم شيئاً إلا الله.
قف أمام قبر ولي من الأولياء وناده: يا سيدي فلان، يا كذا يا كذا! والله! ما يملك شيئاً، والله! لو استجاب لك ما يعطيك شيئاً، فسبحان الله!
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ [فاطر:13] أي: من دون الله مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13]، والقطمير والنقير والفتيل يكونون في التمرة، فالنقير: نقرة في نواة التمرة في وسطها، والفتيل: خيط في شق النواة في وسطها، والقطمير: لفافة بيضاء تلتف بها نواة التمرة، وهذه اللفافة التي تلتف بها النواة لا تشبع ولا تغذي، والنقير في النواة أيضاً لا يجدي ولا ينفع، وكذلك الفتيل في شق النواة لا ينفع ولا يجدي.
ومعنى هذا: أنهم لا يملكون شيئاً حتى ولو كان قطميراً أو فتيلاً أو نقيراً، يقول تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ [فاطر:13] أيها المشركون مِنْ دُونِهِ [فاطر:13] أي: من دون الله عز وجل من الأصنام والأحجار والأوثان والأموات مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر:13]، فكيف يعطونكم التمر وهم لا يملكون قطميرها؟ كيف يعطونكم النخل وهم لا يملكون قطمير التمرة؟
ومن باب الفرض والتقدير، وإن سمعوا لن يستجيبوا، قال تعالى: وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:14] ولن يعطونكم ما تسألون أبداً.
إذاً حرام عليكم أن تدعوا غير الله، وخطأ فاحش أن نسأل شيئاً من غير الله؛ إذ لا يملك الملك إلا الله، ولا يسمع النداء ولا يجيب الدعاء إلا الله، فكيف ننادي الجن والشياطين والإنس والملائكة وغير ذلك، ولكن الشياطين تحسن ذلك وتزينه من أجل أن يهلك البشر في جهنم.
والملائكة الذين عبدوهم وقالوا: بنات الله، وقالوا: أصهر إلى الجن و.. و..، والله! لن يعترفون بعبادته، ولن من يقوى أن يقول: رب نعم هذا عبدني، ولن يستطيع أن يقول هذه الكلمة.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14] أي: يتبرءون منكم.
أولاً: تقرير ربوبية الله المستلزمة لعبادته، أول الآيات تدل على أنه لا إله إلا الله، ويجب أن يُعبد الله عز وجل، قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12] من خلق هذه البحار ومن أوجد فيها الحلي والحوت وما إلى ذلك؟
هل عبد القادر الجيلاني ، أو سيدي أحمد أو فلان أو عيسى أو مريم أو جبريل، أو ميكائيل، والله ما أوجدها إلا الله، إذاً فلا إله إلا الله رغم أنف الكافرين.
[ثانياً: بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة وبها تقرر ربوبيته تعالى وألوهيته لعباده].
مظاهر العلم والقدرة والحكمة، هذه التي تجلى فيها أن الله لا إله إلا هو.
[ثالثاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر يوم القيامة وبراءة الآلهة من عابديها].
تقرير عقيدة الإيمان بيوم القيامة البعث والجزاء، وهذه العقيدة التي أقول غير ما مرة: إذا فقدها إنسان أصبح شر الخلق، لا يستحق أن يوثق فيه في شيء، ولا نعول عليه بشيء؛ لأنه شر الخلق، والذي ما يؤمن بأنه سيبعث ويستنطق ويستجاب ويعطى ويؤخذ، لا يمكن أن يقول الحق ويستقيم على الحق، فشر الخليقة هم الذين يكفرون بلقاء الله.
[ رابعاً: بيان عجز الآلهة عن نفع عابديها في الدنيا وفي الآخرة].
بيان عجز المعبودين من الأصنام والأحجار والبشر والملائكة، وبيان عجزهم أنهم لا يستطيعون أن ينفعوا عابديهم بشيء يوم القيامة، بل يتبرءون منهم ومن عبادتهم.
[أخيراً: تقرير صفات الكمال لله تعالى من الملك والقدرة والعلم، والخبرة التامة الكاملة وبكل شيء].
تقرير صفات الكمال لله: العلم، القدرة، الخلق، الإيجاد.. وكل هذا لله عز وجل ومن الخبرة التامة وهو يعلم الأشياء قبل أن يوجدها، فإذا أخبرك الله قل: آمنت بالله؛ لأنه خبير.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر