وها نحن الليلة مع فاتحة سورة فاطر المكية، وآيها خمس وأربعون آية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة هذه الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله، والله نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:1-3].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! إن السور التي افتتحت بـ(الحمد الله) في القرآن الكريم خمس سور وهي: الفاتحة، والأنعام، والكهف، وسبأ، وفاطر، وهي سور مكية.
والحمد معناه: الوصف بالجميل، فكل جمال الله عز وجل هو خالقه، وهو مولاه وأهله.
وقوله تعالى: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1] أي: ذكراً لسبب الحمد، كما قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [الأنعام:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ [سبأ:1]، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، فإذا حمد تعالى نفسه فهو يُبين علة الحمد؛ ليعقل عباده المؤمنون، ولا يُحمد إلا صاحب الحمد، ولهذا لا يحل لأحدنا أن يَحمد إنساناً لا يستحق الحمد، فإنه في ذلك كاذب مزور، فلا بد من موجبات الحمد ومقتضياته، فالله تعالى ما حمد نفسه في القرآن إلا وذكر علة الحمد وسببه.
قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، ومعنى (فاطر): أي: خالق على غير مثال سابق، يفطر الشيء إذا خلقه على غير مثال سابق له.
و(الفطر) معناه: الخلق، وفطر البعير الناب شق لحمه، يحمد تعالى نفسه؛ لأنه فاطر السموات والأرض، السموات السبع والأرضون السبع ما خلقهما إلا الله، فكيف لا يُحمد على خلق هذه العوالم؟!
ونحن نُحمد على أقل شيء، فالذي يقدم لك كأس ماءٍ تحمده، والله سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض كيف لا يُحمد وهو الذي لا يستحق الحمد حقيقة إلا هو سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق السموات والأرض وأوجدهما من عدم، فلقد مضى الزمان ولا وجود للسموات ولا للأرض، فخلقهما الله لا على مثال سبق، بل على خلق جديد، ولهذا يَحمد نفسه، ويعلمنا كيف نحمده.
فموجب الحمد وسببه خلْقه السموات والأرض بدون مثال سابق، قال تعالى: فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1].
وفي الآية تقرير النبوة المحمدية وهي أن محمداً رسول الله إذ أرسله إلى الإنس والجن والعرب والعجم، وأرسل الله تعالى إليه رسولاً من الملائكة وهو جبريل عليه السلام، وعلى هذا يستحق الله سبحانه وتعالى الحمد.
جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ [فاطر:1] (ملائكة) جمع: مَلَك أو مَلْئك، (جاعل) أي: خلقٌ خلقهم الله من مادة النور، لا من الطين كالبشرية ولا من النار كالجن، ولكن من النور؛ إذ المخلوقات كالملائكة والجن والإنس لكل صنف مادة خلقه الله منها، أما الملائكة فمن النور، وأما الجن فمن النار المعروفة، وأما الآدميون فمن الطين، قال تعالى: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:14-15].
والملائكة الذين يُرسلهم الله عز وجل هم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ملك الموت، وهؤلاء الملائكة كما قال تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ [فاطر:1]، (أُولي) أي: أصحاب أجنحة.. ذوي أجنحة، والأجنحة جمع جناح، وهي كأجنحة الطير، فما من ملك إلا وله أجنحة، وقد تكون جناحان أو ثلاثة أو أربعة، كما قال تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، فإن لجبريل عليه السلام ستمائة جناح شاهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه الكريمتين الطاهرتين في أجياد قريباً من المسجد الحرام؛ إذ تجلى له جبريل في السماء بستمائة جناح فغطى السماء عنه، وناداه: محمد! أنا جبريل وأنت رسول الله، وهذا بعدما لقيه في حراء في صورة إنسان، وهنا تجلى له في صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح، وهذا من قدرة الله عز وجل.
فوالله! لو آمنا حق الإيمان وعرفنا المعرفة الحقيقية إنا إذا ذُكر الله نخر صعقين، أو ترتعد فرائصنا، أو تسيل دموعنا.. أو.. أو، ولكن ما علمنا وما عرفنا، فهذا هو الله عز وجل الذي خلق العوالم كلها، الملائكة والإنس والجن والحيوانات، فكيف يُعصى، وكيف لا يحب -أسألكم بالله-، وكيف يُعبد سواه وتترك عبادته وحده؟!
ولا عجب فإن عدونا إبليس تعهد أمام الله أنه سيضلنا ويفسدنا ويغوينا أجمعين حتى لا ندخل الجنة ويدخل هو النار، قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، فلهذا يُنسينا ذكر الله، ويُنسينا جلال الله وكماله، ويُنسينا قدرة الله عز وجل، لا نذكرها ولا نلتفت إليها، ونخرج عن طاعته ونعصيه.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1]، أيما مخلوقات له أن يزيد فيها فضلاً عن الأجنحة في الملائكة؛ إذ جبريل له ستمائة جناح.
ثم قال تعالى معللاً تلك القدرة بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر:1]، فلا يوجد شيء يعجز الله عنه، ولا يوجد كائن في العوالم كلها يعجز الله عن إيجاده؛ إذ هو على كل شيء قدير.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر:2] سواء صحة وعافية.. أمن.. غنى.. مطر.. أموال.. قل ما شئت من أية رحمة، لن يستطيع غير الله أن يمسكها ويبعدها أبداً.
وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، وإذا أمسك الله على أمة رحمة والله ما يأتي بها أحد غيره، ومن هنا يجب اللجوء الصادق إلى الله.. في حال الرحمة نكثر من حمده وشكره، والثناء عليه، والتملق إليه بما يحب أن نتملق إليه، والدعاء أن يبقي هذه الرحمة ولا يسلبها ولا يصرفها عنا، وإذا كان البلاء والمحنة والشقاء كذلك نفزع إلى الله ليصرف عنا ذلك؛ إذ والله لا يصرفها إلا هو سبحانه وتعالى.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ [فاطر:2] الغالب القاهر، الْحَكِيمُ [فاطر:2] العليم الذي يضع كل شيء في موضعه.
هذا غني.. وهذا فقير.. والله! إنما أغنى الله هذا لحكمة، وأفقر هذا لحكمة، هذا طويل.. وهذا قصير.. والله! إنما قصر هذا لحكمة، وطول هذا لحكمة، هذا ذكي.. وهذا بليد، والله! كل منهما لحكمة، ولا يوجد في الكون كائن ولا حدث إلا بحكمة العليم الحكيم.
ومن أراد أن ينظر إلى هذه الحكمة نلفت النظر -كما قدمنا ألف مرة-: ها نحن الجالسون هنا، كلنا بشر، كلنا بنو آدم، كلنا مؤمنون.. أسألكم بالله، هل يوجد اثنان بيننا لا يميز بينهما؟!
أعيننا واحدة، آذاننا واحدة، أُنوفنا واحدة، أفواهنا واحدة، وجوهنا واحدة، ومع هذا لا يمكن أن يوجد اثنان لا يُميَّز بينهما، فيدخل هذا على بيت هذا، ويدخل هذا على بيت هذا، فأية قدرة أعظم من هذه القدرة؟! وأي علم أعظم من هذا العلم؟! وأية حكمة تتجلى في الكون أعظم من هذه الحكمة؟!
قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22]، ولكن! الذين لا بصيرة لهم كيف يشاهدون هذه الآيات؟!
بل لو يقف أهل الأرض كلهم على صعيد واحد لا يوجد اثنان لا يُفرَّق بينهما، أية قدرة أعظم من هذه القدرة؟! أي علم أعظم من هذا العلم؟! أية حكمة أعظم من هذه الحكمة؟! إذ لو كانت البشرية على شكل واحد ما بقي أب ولا أم ولا أخ ولا.. ولا.. ولا، ولكن الله عز وجل لحكمته يفرق بين الإنسان والإنسان.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر:2] عظمت أو صغرت فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ [فاطر:2] أي: هو فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2] وخلاصة هذه الجملة: أن نفزع إلى الله دائماً، ولا نبعد عنه بحال من الأحوال؛ إذ بيده الخير والشر، وهو على كل شيء قدير.
ومعنى هذا: أن نربط قلوبنا بالله عز وجل، فلا نسأل إلا الله، ولا نلتفت إلا إلى الله، ولا نحب حباً إلا حب الله وفي الله عز وجل.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ [فاطر:3] (الناس) مأخوذ من ناس ينوس إذا تحرك، ونحن متحركون، فآدم عليه السلام كان حجراً لا يتحرك، ثم نفخ الله فيه روحه فتحرك وقام وناس.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ [فاطر:3] نادانا ليقول لنا: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر:3]؛ أي: نعمة الخلق والإيجاد.. نعمة الإمداد فهو أمدنا بالطعام والشراب، وأمدنا بالهواء والغذاء والماء، فلا ننسى هذه النعم، ولا ننسى من أمدنا بها، وأعطانا إياها ألا وهو الله سبحانه وتعالى.
فما ذكر عبد نعمة الله إلا قال: الحمد لله، وما نسيَ عبد نعمة الله أو أعرض عنها نسي ذكر الله وحمده، فاذكروا نعمة الله عليكم لتحمدوه وتشكروه، ويزيدكم في النعمة ويصونها لكم ويحفظها عليكم، ويصرف عنكم البلاء والعذاب والشقاء.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر:3] أي: بحمد الله وشكره وعبادته وحده، ثم برهن على ذلك ودلل فقال: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ [فاطر:3] بالمطر وَالأَرْضِ [فاطر:3] بالنباتات؟!
فلو تجتمع البشرية كلها على أن تسوق السحاب إلى أرض ما وتمطر، والله! ما كانت ولن يكون.
هكذا يقول لنا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر:3] في خلقكم وإيجادكم وإنعامه عليكم.
ثم قال: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ [فاطر:3] بالأمطار وَالأَرْضِ [فاطر:3] بالنباتات على اختلافها من الزروع وغيرها؟
لا أحد، إذاً لا إله إلا الله.. إذا قلتم: لا أحد يرزقنا ولا يمسك رزقه إلا هو سبحانه، إذاً فلا إله إلا الله، إذاً قولوا: لا إله إلا الله واعبدوه وحده دون سواه.
ومن مثل هذه الآية آمن العرب وأصبحوا أصلح أمة على وجه الأرض، وما هي إلا خمس وعشرون سنة وديار الجزيرة بكاملها ليس فيها من هو غير مؤمن موحد، بسبب هذه الدعوة القرآنية الإلهية، فكانت تُقرأ عليهم ويبلغها رسول الله وأصحابه ورجاله حتى من النساء، ولما أعرضت البشرية عن هذه الدعوة هبطت ولصقت بالأرض والعياذ بالله.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر:3] هي نعمة الخلق والإيجاد والإمداد، ثم قال: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ [فاطر:3] يعني: بالأمطار، وَالأَرْضِ [فاطر:3] أي: بالنباتات؟!
الجواب: والله! لا أحد.
إذاً: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] يا للعجب! كيف تصرفون عن التوحيد وتعبدون غير الله؟! أو لا تعبدون الله ولا غيره كالملاحدة والعلمانيين!
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] عجباً! كيف تصرفون عن عبادة الله وحده وتعبدون معه غيره، أو لا تعبدونه بالمرة، أليس هذا عجباً؟!
فالله عز وجل هو الذي خلقكم ورزقكم وخلق السماء والأرض، وأنزل الأمطار وأنبت نباتات من أجل عيشكم وطعامكم، ومع هذا لا تذكرونه ولا تشكرونه، وفوق هذا تعبدون غيره؟!
فلو وجد من يخلق مع الله أو يرزق مع الله، والله! سنعبده، والله سيأذن لنا في ذلك، لكن لا يوجد في الكون في السماء والأرض من يخلق ولو جناح بعوضة، فكيف لا يُعبد الله؟! وكيف يعبد معه غيره من الأحجار والأصنام أو الأهواء والشهوات والباطل؟!
سبحان الله العظيم!
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [فاطر:3] الجواب: لا. إذاً: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [فاطر:3] أي: لا معبود بحق يستحق أن يُعبد بالدعاء، بالاستغاثة، بالذبح والنذر، بالحلف به، بالرهبة منه، بالحب له وفيه، فلا يوجد إله إلا الله.
إذاً: وما للبشرية انصرفت تعبد الشياطين والفروج والأهواء، والريال والدينار؟! ما لهم أنى يصرفون؟! كيف يؤفكون ويصرفون؟!
والجواب: تزيين الشياطين -والعياذ بالله تعالى- من الإنس والجن.
أول هداية في هذه الآيات الأربع التي تدارسناها: وجوب شكر الله على نعمه، فالله عز وجل حمد نفسه بنفسه وذكر سبب حمده لنفسه، إذاً فكل من يجد نعمة الله عنده، في سمعه.. في بصره.. في عقله.. في ولده.. في طعامه.. في وظيفته.. يجب أن يقول: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله، ولهذا إذا أكلنا قلنا: الحمد لله، وإذا شربنا قلنا: الحمد لله، وإذا لبسنا نقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وآوانا وكفانا وكسانا هذه الثياب، ولو شاء لأعرانا، فلا نركب السيارة وما إن نضع أرجلنا إلا وجب أن نقول: الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.. وهكذا نُسأل: كيف حالك يا عبد الله؟ فنقول: الحمد لله، وهذا شعار المؤمنين الصالحين.
والغافلون والهابطون لا يعرفون كلمة: الحمد لله، أو يقولونها بلهجة باردة ليس لها قيمة، ولكن (الحمد لله) تخرج من قلبك وصدرك وضميرك.
[ثانياً: تقرير الرسالة والنبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم بإخباره أنه جاعل الملائكة رسلاً].
في الآية هداية أخرى غير الأولى وهي: تقرير النبوة المحمدية، وإثبات الرسالة له، فهو والله لرسول الله، ومن نفى رسالته كفر وخرج من الإسلام بكامله، ولهذا نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله، فالله عز وجل يرسل جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء.
قال الشيخ في النهر: [قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها، والمراد بالسموات والأرض: العالم كله].
لطيفة علمية لتعلموا أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم -وهم أعلم أهل الأرض- كانوا يتعلمون أفضل مما نتعلم نحن، فـابن عباس صاحب رسول الله وابن عمه، وحبر هذه الأمة، يقول: ما كنت أفهم معنى: فاطر السموات حتى جاءني أعرابيان يختصمان في بئر، أيهما حفر هذا البئر، فقال أحدهما: أنا فطرته يا ابن عباس، ففهم معنى: (فاطر) بمعنى: أوجدها من دون مثال سابق.
وبينا (فاطر السموات): أي: خلقهم بدون مثال سابق.
الأعرابي قال: أنا فطرت البئر، أي: أوجدتها قبل أن توجد.
فتأملوا كيف كانوا يطلبون العلم، فرح بكلمة كونه فهم معنى: فطر.
[ثالثاً: وجوب اللجوء إلى الله تعالى في طلب الخير ودفع الضر؛ فإنه بيده خزائن كل شيء].
وهذه الحقيقة التي ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا ولا تبعد عن قلوبنا، وهي: أن نعيش دائماً مع الله، إن كان خيراً حمدنا الله، وإن كان شراً استعذنا بالله، ودائماً مع الله في الخير والشر، في الصحة والمرض، في السفر والحضر.. دائماً مع الله، نحمده على الخير، ونستعيذ به من الشر.
[رابعاً: وجوب ذكر النعم ليكون ذلك حافزاً على شكرها بطاعة الله ورسوله].
وجوب ذكر النعم، لكن لا للتبجح والمباهاة والمفاخرة، تُري الناس أموالك أو لباسك أو دارك: هذه عمارتي، هذه كذا! فليس هذا المقصود، بل اذكر النعمة في قلبك: من وهبك سمعك وبصرك؟ من أوجد طعامك في بيتك؟ من أعد لك هذا المركوب؟ من صانك وحفظك في أهلك ومالك؟ أليس الله؟!
تذكر هذا وتقول: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله، فاذكروا نعمة الله عليكم لتشكروها.
[خامساً: تقرير التوحيد بالأدلة العقلية التي لا ترد].
تقرير التوحيد بالأدلة العقلية، أقول: أسألك بالله يا عبد الله! هل الذي وهبك سمعك وبصرك ولسانك ويدك ورجلك لا تحمده ولا تشكره ولا تطيعه وتطيع من لم يخلق لك سمعاً ولا بصراً ولا عقلاً؟! أيعقل هذا؟! الذي وهبني ذاتي كلها ما أدعوه وأدعو: يا فلان! يا سيدي فلان!
أنا أعلم أنه لا يسمع صوتي ولا يسمع ندائي إلا ربي، فكيف أقول: يا سيدي فلان ويا فلان؟! يا فاطمة أو يا حسين ؟! أنا أعلم أنه لا يملك أحد في الكون ذرة بدون إذن الله، فكيف أعرض عن الله ولا أدعوه وأدعو مخلوقاً من مخلوقاته؟!
فهذا جهل مركب وضلال بعيد، بل اذكر دائماً أنك مربوب لله مخلوق له ولا تقم إلا على رضاه، ولا تطلب إلا رضا ربك، ومن هنا بطل أن ندعو غير الله، وأن نحلف بغير الله، وأن نشكر غير الله، وأن نسجد ونركع لغير الله؛ إذ لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا هو.
[ وأخيراً: العجب من حال المشركين يقرون بانفراد الله تعالى بخلقهم ورزقهم ويعبدون معه غيره].
وهذه تكررت.. كان العرب في الجاهلية عند نزول القرآن الكريم على سيد المرسلين يؤمنون بالله، وما كانوا ملاحدة ولا علمانيين، بل كانوا يؤمنون بأنهم مخلوقون، وأن الله خالقهم، وهو الذي خلق إبراهيم وإسماعيل، وهو الذي خلق الكعبة وأوجدها، كانوا يؤمنون إيماناً كاملاً بأن الله هو الخالق الرازق المدبر الحكيم، ومع هذا يعبدون غيره وذلك لجهلهم، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] أي: من خلق السموات والأرض ليقولن الله، لا ينكرون أبداً، ما كانوا ملاحدة أبداً ولا شيوعيين، ولكن فقط للجهل يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام، كما فعل جهالنا المسلمين، حيث تقربوا إلى الله بالأولياء والصالحين يذبحون لهم وينذرون لهم، ويعكفون حول قبورهم ويقولون: نتوسل، فعبدوا غير الله عز وجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر