أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور:39-42].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا جل ذكره: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]. هذا مثل يقابل مثل المؤمنين بالأمس، وهو قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] في قلوب المؤمنين كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]. هذا مثل المؤمنين في إيمانهم وأنوار الإيمان في قلوبهم.
ثم ضرب تعالى مثلاً للكافرين الجاحدين المنكرين المكذبين بالله، والمكذبين برسول الله، والمكذبين بلقاء الله، والجاحدين لكتاب الله وشرع الله، فهؤلاء الكافرون المثل الذي ينطبق عليهم هو أن أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [النور:39]. والسراب معروف، فهو يلوح في الصحراء كأنه ماء وما هو بماء، بل هو كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]، أي: بقاع أو بقيعة من أرض أو بقعة من الأرض، يشاهده البعيد كأنه ماء، لا سيما العطشان الظمآن، فيجري ويلهث عله يشرب ويزيل عطشه وظمأه، كما قال تعالى: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [النور:39]. والظمآن: العطشان شديد العطش، فإذا نظر إلى ذلك السراب يلوح كأنه يجري إليه، حَتَّى إِذَا جَاءَهُ [النور:39] وانتهى إليه ووصل إلى مكانه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39]. لا سحاب ولا ظل. وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39]. وهكذا الكافرون والفاسقون والفاجرون يجرون.. يعملون؛ ليكملوا وليسعدوا سعادة في الدنيا حتى يوافيهم الموت، ثم يحشرون أمام الله وإلى جهنم، فهم يعملون الليل والنهار للسعادة والكمال، والغنى والرفاهية، واللذائذ والشهوات، والأطماع وغير ذلك، ويتخبطون في تلك الظلمات، ويجرون وراء السعادة، ولما يموتون ينتهي كل شيء، ويجدون أنفسهم بين يدي الله، ثم يدفعون إلى جهنم وبئس المصير.
فقال تعالى هنا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا [النور:39] بالله ورسوله، وكفروا بالله ولقائه، وكفروا بالله وشرعه ودينه هؤلاء أعمالهم في الدنيا من صناعات .. فلاحة .. تجارة، وقل ما شئت عبادات باطلة وخرافات وشركيات، فهذه كلها حالها كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [النور:39]. والسراب يظنه العطشان والظمآن ماء، فيجري ويلهث حتى يصل، ولا يجد شيئاً، بل يجد الله عنده هناك، فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39]. فإذا عاش ثمانين سنة .. تسعين .. مائة .. ألف سنة فإنه يوفيه حسابه كاملاً على شركه وكفره، وفسقه وفجوره، والعياذ بالله. وتوفية حسابه والله هو إدخال روحه إلى جهنم. وقد قال تعالى: فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]. ولا يحتاج مثلنا إلى أن يحسب واحد اثنين ثلاثة بالقلم، بل هو سريع الحساب؛ لأنه يعلم الشيء قبل أن يوجد، فلهذا هو سريع الحساب، وبكلمة كن ينتهي. هذا مثل الكافرين.
وهنا قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. فوالله الذي لا إله غيره من لم يؤمن حق الإيمان وصادقه ويعبد ربه بما شرع إنه لفي ظلمة، ولن يأتيه النور أبداً، حتى يدخل جهنم. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. فعلى العقلاء من بني الإنسان أن يطلبوا ربهم، وأن يسألوه نور هدايتهم، لا أن يعرضوا ويستنكفوا وينغمسوا في الشر والباطل، والشهوات والدنيا، وينتظرون النور ينزل في قلوبهم.
وقوله: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، معنى هذا: اقرعوا باب الله، سلوه أن ينور قلوبكم، وهو نور السموات والأرض، ولابد لهذا من الاطراح بين يدي الله والافتقار إليه، ولا بد من الضراعة والسؤال أن ينور قلوبنا بالإيمان وصالح الأعمال.
وبالأمس عرفنا أن هذا النور القلبي والله تعرفه في سلوك الشخص، وفاقد النور وصاحب الظلمة تعرف هذا في سلوكه ومشيته؛ لأن الذي يمشي في الضوء وفي النور معروف، والذي يمشي في الظلام يتخبط، ولهذا فاقد الإيمان والعلم والمعرفة بالله يعيش كالبهائم. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
فلا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا واهب ولا معطي إلا الله، فالله عز وجل يسبحه كل شيء، كما قال تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [الجمعة:1]. ومعنى التسبيح: التنزيه والتقديس. وإذا سألت الكافر وقلت له: من خلقك؟ فقال: لا أحد فهذا أحمق أعمى، بل الذي خلقه هو الله. والله عز وجل قوي عظيم قدير، فهو الذي خلقه، ووهبه سمعه، وأعطاه بصره وعقله، فهو منزه. فسبحان الله! تقديساً له وتنزيهاً عن الشرك والولد.
وقوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]. فأجنحتها تسبح الله عز وجل، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ [الملك:19]. فلما يصف الطير جناحيه لا يمسكه أمي أو أبي، بل الذي يمسك جناحيه ويضمها الله. فانظر إلى هذا الطير، فستراه يقول: لا إله إلا الله .. سبحان الله .. الحمد لله .. لا إله إلا الله .. الله أكبر. هذا لسان حاله ولسان قاله لو كنا نعرف نطقه وما يقول.
وقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]، أي: أجنحتها. كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]. فالله هو الذي علم صلاته وتسبيحه. والصلاة هي صلاة المؤمنين، والتسبيح تسبيح كل الخلائق أجمعين، وكذلك المصلون علموا صلاتهم، والمسبحون علموا تسبيحهم، فالآية تدل على أن الله يعلم، وأن الناس يعلمون هذا، كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41] من الكفر والشرك، والفجور والفسق، والظلم والنسيان، والإعراض عن ذكر الله، والإعراض عن كتابه ونبيه، فهو يعلم ما يفعلون. وأيضاً معناه: أن الجزاء سيتم بحسب سلوكهم وعملهم، ولن يخفى على الله من أمرهم شيء أبداً، وسيجزيهم بما كسبوا، والله عليم بما يفعلونه من التلصص والإجرام، والكذب والسرقة، والفجور وما إلى ذلك، ومن كل فعل.
ومن الأمثلة على هذا التي مرت في هذه الدروس: أنك لو مررت برجل أمام بيت خرب ليس فيه أحد ولا يسكنه إلا الطير والحمام وهو ينادي: يا أصحاب البيت! يا أهل الدار! أنا جائع .. فقير .. عطشان، فإنك لا تسكت عنه، بل تقول له: ليس في البيت أحد، اذهب إلى بيت فيه ناس يعطونك.
والذين يدعون: يا عبد القادر ! .. يا رسول الله! .. يا فاطمة ! .. يا حسين ! .. يا أنبياء الله! .. يا كذا! وينادون غير الله هم ضلال جهال مشركون في سلوكهم، فلا نسكت عنهم ونرضى بما هم فيه، بل نعلمهم أن الله أخبر بأن له ملك السموات والأرض. فلا يطلب غيره، ولا يسأل غير الله.
فلهذا المؤمن العارف الرباني الصادق ما يرفع كفيه ولا يمد يده لغير الله أبداً، بل ما دام أن لله ملك السماوات والأرض فإذا أردت منزلاً فاطلب منه، وإذا أردت بستاناً فاطلب منه، وإذا أردت وظيفة فاطلب منه، وكذلك كل ما تريد، فكل ما تريده لا يملكه إلا هو، فاطلبه منه، واطرح بين يديه، وابك واسأل طول أيامك وأكثر أعوامك؛ حتى يعطك ما تسأل، وأما أن تعرض وتستكبر، أو تسأل غيره من مخلوقاته فهذا هو والعياذ بالله الظلمة التي كظلمة البحر. وقد قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:42]. فافهموا هذا الخبر، وهو: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:42]، أي: كل ما في السماوات والأرض. فلا يجوز أن يطلب غيره، ولا يجوز أن يعبد غيره بالخوف والطاعة، ووالله ما يجوز هذا عقلاً أبداً، وأولى ألا يجوز شرعاً.
ثم قال تعالى: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور:42]. فيا بني آدم! ويا بني الجن! مصيركم وعودتكم ورجوعكم وانتهاء سعيكم إلى ربكم، وثم تلقون الجزاء. فمصير الخلق كلهم ومصير الكائنات ومرد الحياة كلها إلى الله عز وجل.
إذاً: فلنعد العدة من الآن بالبكاء والاطراح بين يديه، وسؤاله والضراعة إليه، والطاعة والخوف والخشية، ولنكن طول اليوم وطول النهار ونحن مع الله، فنحن صائرون إليه أحببنا أم كرهنا.
وقوله تعالى: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، هذه نزلت في شيبة بن ربيعة ، أو في ربيعة أبو شيبة ، فقد كانا في مكة يترهبان ويتعبدان بالنصرانية؛ رغبة في العبادة والدين، ولما جاء الإسلام ودعوة الله أعرضا عنه، وأصرا والعياذ بالله على الشرك والكفر، فالآية نزلت فيهما، والعياذ بالله. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
ثم قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:41]، أي: ألا تعرف هذا؟ ألم ينتهي إلى قلبك أن كل من في السماوات والأرض يسبح الله بلسان الحال أو لسان القال؟ فهذا الطير أوجده الله ولسان حاله يقول: سبحان الله! ربي خلقني، وهذا الإنسان الكافر الله الذي خلقه، فوجوده يسبح الله عز وجل، ويقدسه وينزهه عن الضعف والعجز، وعن الشريك وغير ذلك.
فقال تعالى هنا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]. فمن صلى عرف الله صلاته، ومن سبح علم الله تسبيحه، ومن لم يصل ولم يسبح علم الله حاله. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41].
وأخيراً: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:189]. وهذا صحيح. إذاً: فلا ترفع يديك إلا إلى الله، وإلا فأنت مجنون أو أحمق، فأنت تعرف أن كل شيء لله، فما من شيء في الأرض والسماء إلا والله مالكه، فلا يسأل إلا هو، ولا يتملق إلى الله، ولا يتزلف إليه إلا بذكره وبتسبيحه، وبالسجود له وبالصيام له، حتى تأخذ ما تريد وتبلغ حاجتك، وأما غير الله لا يملك شيئاً، بل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور:42]، أي: العودة والرجوع إليه في كل شيء.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ [النور:39]، لما بين تعالى حال المؤمنين وأنه تعالى وفاهم أجرهم بأحسن مما كانوا يعملون، وزادهم من فضله ذكر هنا حال الكافرين، وهو أن أعمالهم في خسرانها وعدم الانتفاع بها كسراب، وهو شعاع أبيض يرى في نصف النهار، وكأنه ماء. بِقِيعَةٍ [النور:39]، أي: بقاع من الأرض، وهو الأرض المنبسطة. يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [النور:39]، أي: يظنه العطشان ماء، وما هو بماء، ولكنه سراب خادع. حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39]. لأنه سراب لا غير ] لا ماء [ فياللخيبة! خيبة ظمآن يقتله العطش، فرأى سراباً فجرى وراءه يظنه ماء، فإذا به لم يجد الماء، ووجد الحق تبارك وتعالى، فحاسبه على كل أعماله، وهي في جملتها أعمال إجرام وشر وفساد، فوفاه إياها، فخسر خسراناً مبيناً ] أبدياً [ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:202]. فما هي لا لحظات والكافر في سواء الجحيم. هذا مثل تضمنته الآية الأولى (39). ومثل آخر تضمنته الآية الثانية (40)، وهو مثل مضروب لضلال الكافر، وحيرته في حياته، وما يعيش عليه من ظلمة الكفر، وظلمة العمل السيئ، والاعتقاد الباطل، وظلمة الجهل بربه، وما يريده منه، وما أعده له. قال تعالى ] في المثل [ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ [النور:40]، أي: ذي لجج من الماء. يَغْشَاهُ [النور:40]، أي: يعلوه. مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ [النور:40]، أي: من فوق الموج موج آخر. مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ [النور:40]. والسحاب عادة مظلم، فهي ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40]. لشدة الظلمة. هذه حال الكافر في هذه الحياة الدنيا، وهي ناتجة عن إعراضه عن ذكر ربه، وتوغله في الشر والفساد.
وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، أعلم تعالى عباده أن النور له وبيده، فمن يطلبه منه حرمه، وعاش في الظلمات، والعياذ بالله.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]، أي: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا! أن الله تعالى يسبح له من في السماوات من الملائكة، وَالأَرْضِ [النور:41]، أي: ومن في الأرض بلسان القال والحال معاً ] والقال أي: بالقول، والحال أي: بحاله [ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]، أي: باسطات أجنحتها، تسبح الله تعالى، بمعنى: تنزهه بألفاظ التنزيه، كسبحان الله!
فإن امتنع المشركون أهل الظلمات من الإيمان بالله وعبادته وتوحيده فيها فإن الله تعالى يسبح له الخلق كله، علويه وسفليه، فالكافر وإن لم يسبح بلسانه فحاله تسبح، فخلقه وتركيبه وأقواله وأعماله كلها تسبح الله خالقه، فهي شاهدة على قدرة الله وعلمه وحكمته، وأنه لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله تعالى: كُلٌّ [النور:41]، أي: ممن في السماوات والأرض والطير قد علم الله صلاته وتسبيحه، كما أن كلاً منهم قد علم صلاته لله تعالى وتسبيحه له. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41]، أي: والله عليم بأفعال عباده، ويجزيهم بها، وهو على ذلك قدير؛ إذ له ملك السماوات والأرض، وإليه المصير، أي: مصير كل شيء إليه تعالى، فهو الذي يحكم فيه بحكمه العادل ].
وقبل البداية نرجو من الذي أخذ كتاب الشيخ خطأً أن يرده إلى أحد الطلاب بعد الدرس، وجزاه الله خيراً. فالذي أخذ كتاب الشيخ الذي كان بقرب الكرسي نرجو أن يرده إليه بعد الدرس، أو أن يرده إلى أحد الطلاب، وجزاه الله خيراً!
وهذا الذي أخذ الكتاب أحد رجلين: إما خرافي قال: نأخذ هذا من الشيخ للبركة، وإما لص يريد أن يبيعه بعشرة ريالات، وهو لا إيمان له ولا إسلام، فقط ينتمي إلى الإسلام.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: استحسان ضرب الأمثال؛ لتقريب المعاني البعيدة إلى الأذهان ] وقد ضرب الله الآن أربعة أمثال.
[ ثانياً: بيان خسران الكافرين في أعمالهم وحياتهم كلها ] سواء بنوا .. صعدوا .. طاروا .. مشوا .. أكلوا .. شربوا فهم والله لفي خسران مبين، والعياذ بالله. ونعوذ بالله من الكفر والكافرين.
[ ثالثاً: بيان حال الكافرين في هذه الدنيا، وأنهم يعيشون في ظلمات الجهل والكفر والظلم ] والله. ففي أوروبا .. في أمريكا .. في اليابان .. في الصين .. في بلاد العرب كل كافر بالله ولقائه ورسوله وكتابه والله حياته كلها خبط وضلال وظلام، ووالله ما يسعد فيها أبداً، بل هو كالبهيمة ممسوخ.
قال الشيخ في النهر غفر الله له ولنا، وجمعنا وإياه في دار كرامته وفي مستقر رحمته، قال: [ قيل: المراد بالظلمات: أعمال الكفار، وبالبحر اللجي: قلب الكافر، والموج فوق الموج: ما يغشى قلبه من الذنب والشرك والحيرة، وبالسحاب: الران والختم والطبع على قلبه. ولذا قال أبي بن كعب : الكافر يتقلب في خمس من الظلمات: كلامه ظلمة ] فكلامه والله ظلمة [ وعمله ظلمة ] أيضاً، وليس في نور ولا هداية [ ومدخله ظلمة ] في الدنيا [ ومخرجه ] منها [ ظلمة ] وحتى مدخله لأي عمل وخروجه منه ظلمة [ ومصيره يوم القيامة إلى ظلمة النار ] والعياذ بالله تعالى. قولوا: الحمد لله أن كنا مؤمنين، والحمد لله على الإيمان بالله ولقائه ورسوله.
[ رابعاً: تقرير حقيقة، وهي أن من لم يجعل الله له نوراً في قلبه لن يكون له نور في حياته كلها ].
وأبشركم بأن الرجلين لا وجود لهما والله العظيم، فالكتاب وجدوه تحت الكرسي. والحمد لله، فحلقة النور وحلقة الهداية لا يقع فيها هذا، والحمد لله. فليس فيها رجل خرافي ضال، ولا لص مجرم، والحمد لله. فقولوا: الحمد لله!
[ خامساً: بيان أن الكون كله يسبح لله، كقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:41]. وقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] ] فكل الكون يسبح الله عز وجل. وقد يكون هذا الولد القائم ما يسبح، ولكن وجوده يدل على رب عليم، حكيم قدير، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وهذه حاله. وحتى الطير الذي تشاهده، وحتى البقرة الواقفة هذه حالها. فالكل يسبح الله، إما بلسان قاله كالمؤمنين من الإنس والجن، أو بلسان حاله كسائر المخلوقات.
وصلى الله على نبينا، وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر