أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ [السجدة:27-30].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أعيد إلى أذهانكم أن السور القرآنية المكية تعمل على إيجاد العقيدة الإسلامية الصحيحة؛ إذ لا حياة للعبد إلا بعقيدة الإسلام الصحيحة، وصاحب هذه العقيدة حي يسمع ويبصر، ويقول ويأخذ ويعطي، ويذهب ويجيء، وفاقدها ميت.
فالعقيدة الإسلامية الصحيحة كما حواها القرآن وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام بمنزلة الروح لصاحبها، وفاقدها ميت.
وها هم الذين ليس لهم عقيدة يسمعون حي على الصلاة فلا يجيبون ولا يصلون؛ لأنهم أموات.
واعلموا أن من أعظم أركان هذه العقيدة وأهمها الإيمان بالله رباً لا رب غيره، وإلهاً لا معبود سواه، واعتقاد البعث الآخر، وما يتم فيه من الجزاء، إما بالنعيم المقيم، وإما بالعذاب الأليم، وقد علمتم -زادكم الله علماً- أن علة هذه الحياة هي العمل خيراً كان أو شراً، وأن علة الحياة الثانية هي الجزاء، إما بالجنة وإما بالنار، ولن يستطيع أحد أن يرد هذه الحقيقة العلمية، فهذه دار العمل، اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]. والدار الآخرة دار الجزاء.
ثانياً: القلب الذي ملئ وعمر بالإيمان بالدار الآخرة وما يتم فيها من حساب وعقاب وجزاء، إما بالجنة أو بالنار، هذا القلب صاحبه لا يسقط سقوط الملاحدة والعلمانيين، وقد تزل قدمه ويرتكب ذنباً، ولكن لا يلبث أن يتوب ويبكي بين يدي الله مستغفراً، وأما فاقد هذه العقيدة -عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا- فهو شر الخلق، وقلبه ميت، وقد بينت أنه لا يوثق فيه، ولا يعول عليه، ولا يسند إليه أمر؛ لأنه من شر الخلق. وهذه السور المكية كبارها وصغارها تعمل على إيجاد العقيدة، وتركز على عقيدة البعث والجزاء.
وإليكم هذه الآيات الأربع، فإنها تقرر هذه العقيدة، عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في هذه الدنيا.
وقد قلت ألف مرة: لو اجتمعت البشرية على أن توجد سحاباً وتسوقه حيث شاءت والله ما قدروا، ولا كان ذلك أبداً. ولذلك قال هنا: أَوَلَمْ يَرَوْا بأعينهم هؤلاء المكذبون بالدار الآخرة، المنكرون للحياة الثانية؛ من أجل أن يبقوا على فجورهم وفسقهم، وعنادهم وكفرهم، أن الله يسوق الماء إلى الأرض الجرز اليابسة التي ما بها نبات، فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ، أي: فنخرج بذلك الماء الذي سقناه بقدرتنا وعلمنا وتدبيرنا سواء كان ماء المطر أو ماء النهر، نخرج به زرعاً. والزرع: ما يزرع وينبت، إما بر وإما شعير وإما ذرة. تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ إبلهم وبقرهم وغنمهم من الضأن أو الماعز، وَأَنفُسُهُمْ . فهم يأكلون البر والخضر والفواكه الكثيرة، وكل ذلك ينبت في الأرض الميتة عندما يسوق الله تعالى إليها الماء.
إذاً: فلا تكذبوا بالبعث الآخر، وأنتم كالبذر تموتون، وتبقى أعجاب أذنابكم في الأرض، فينزل ماء من السماء من قبل الله، فتنبتون كما ينبت الزرع والبقل، فلا فرق بينكم وبين النباتات. فحين يموت الناس يبقى عجب الذنب وهو عظم صغير جداً في آخر خرزات الظهر، ويبقى في الأرض مهما تحولت الأرض، حتى تنتهي الحياة تماماً، وعند ذلك ينزل ماء من السماء، فتنبت ذواتنا كما ينبت البقل تحت الأرض، وحين تكتمل ذواتنا في نموها ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور للأرواح المجموعة عنده، فلا تبقى روح إلا وتدخل في جسدها، والعجب أنها لا تخطئ أبداً. وكنت أضرب المثل لأبنائنا وإخواننا بالراعي يرعى الماعز عندنا في القرية، ويرسلها من باب المجيدي مثلاً أو من العنبرية، وكل عنزة تدخل إلى بيتها ولا تخطئ. وفوق هذا وأعظم منه هذه الآية العظيمة.
ومن يقف منكم الآن وينظر إلينا لن يجد اثنين لا يستطيع أن يفرق بينهما، وهذه الآية من أعظم الآيات الدالة قطعاً على قدرة الله التي لا يعجزها شيء، وعلى علم الله الذي أحاط بكل شيء، وعلى رحمته التي وسعت كل شيء، بل لو وقف العرب والعجم كلهم على صعيد واحد في يوم واحد، فلن يوجد بينهم اثنان لا يفرق بينهما، مع أن الأعين والأنوف والأفواه كلها واحدة. وليس هناك عجب أكثر من هذا العجب. فقولوا: لا إله إلا الله! وهم يجحدون الرب ويكفرون به. وقد قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم:22].
وهذا المثل البسيط يفهمه الحي والميت، وهو أن الأرض اليابسة الجافة التي ليس فيها نبات يسوق الله إليها المطر، فتنبت الزرع على اختلاف أنواعه. إذاً: فلا ننكر أن يحيينا الله، وينبتنا في الأرض كما ينبت النبات، ولا فرق بيننا وبين النبات أبداً. فهذا المثال قريب من الأذهان والفهوم البشرية، وليس فيه فلسفة ولا شطحات بعيدة. فإننا سوف نموت، وتتحلل عظامنا، وتفنى أجسادنا، وتبقى تلك العظيمات الصغيرة التي هي كبذرة الزرع، ثم ينزل مطر، فننبت تحت الأرض. وكل شيء ينبت تحت الأرض، والبصل ينبت تحت الأرض، وكذلك الخردل فإذا كملت الأجساد نفخ إسرافيل الأرواح، فتدخل كل روح في جسدها. وهكذا يقول تعالى معاتباً مقرعاً موبخاً: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ [السجدة:27]؟ أي: فهم عمي لا يبصرون، وإلا لما كذبوا بالبعث والحياة الثانية. فقد دلت الحياة الأولى على الثانية دلالة قطعية. فالذي أوجدنا في هذه الدار ليس بعاجز أن يوجدنا في دار أخرى، والذي بنى هذه الدار لا يعجز أن يبني داراً أخرى بعد أن يهدم هذه، ومع هذا ما زالوا إلى اليوم مصرين على التكذيب بالبعث والدار الآخرة.
وقوله: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ ، أي: قل لهم يا رسولنا: يوم الفتح، والحكم لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ [السجدة:29]، أي: ولا هم يمهلون. فلو قالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا نعبد إلا الله فلن يستجاب لهم، ولن يقبل منهم.
وفي الدنيا لا تقبل توبة الفاسق والفاجر والمجرم والكافر إذا غرغرت النفس أو حشرجت في الصدر، واقرءوا قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أولاً. ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:17-18]. ففي الآية الكريمة أن التوبة تقبل من العبد ما دام قادراً على فعل الخير وترك الشر، وأما إذا انسلخت الحياة من جسمه ووصلت حلقومه وشاهد ملك الموت وأعوانه فتلك الساعة لا تقبل له توبة أبداً، كالذي يموت على الكفر والفسق لا تقبل منه يوم القيامة توبة أبداً.
وقد نزلت بهم أحداث في الدنيا، فقد انهزموا في بدر وقتلوا، وأصابهم الجدب العارم الذي قتلهم بالجوع ، وسوف ينزل بهم عذاب الدار الآخرة إن لم يتوبوا إلى الله، ويسلموا قلوبهم ووجوههم لله، ويموتوا مسلمين.
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح الاجتماعي ] فإن فقد المجتمع هذه العقيدة خبث وفسد وأصابه البلاء، وإن اعتقد هذه العقيدة ساده الطهر والصفاء [ فيقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا ؟ أي: أغفل أولئك المكذبون بالبعث والحياة الثانية ولم يروا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ ماء الأمطار أو الأنهار إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ اليابسة التي ما بها من نبات؟ فنخرج بذلك الماء الذي سقناه إليها بتدابيرنا الخاصة فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ . وهي إبلهم وأبقارهم وأغنامهم، وَأَنفُسُهُمْ . فالأنعام تأكل الشعير والذرة، وهم يأكلون البر والفول ونحوه. أَفَلا يُبْصِرُونَ [السجدة:27]؟ أي: أعموا فلا يبصرون آثار قدرة الله على إحياء الموتى بعد الفناء والبلى كإحياء الأرض الجرز، فيؤمنوا بالبعث الآخر، وعليه يستقيمون في عقائدهم وكل سلوكهم.
وقوله: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [السجدة:28]، حكى تعالى عنهم ما يقولونه للمؤمنين، لما يخوفونهم بعذاب الله ] يوم القيامة [ يقولون لهم: مَتَى هَذَا الْفَتْحُ [السجدة:28]؟ أي: الحكم والفصل ] الذي تعدوننا به [ وهنا أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم، فقال: قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ، أي: إذا جاء يوم الفتح بيننا وبينكم لا ينفع نفساً كافرة إيمانها عند رؤية العذاب. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ [السجدة:29]، أي: يؤخرون ويمهلون؛ ليؤمنوا ويستغفروا، فيتاب عليهم ويغفر لهم؛ إذ سنة الله تعالى أن من عاين ] وشاهد [ العذاب لا تقبل توبته.
وقوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ، أي: فأعرض يا رسولنا! عن هؤلاء المكذبين. وَانْتَظِرْ ما سينزل بهم من عذاب. إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ [السجدة:30] ما قد يصيبك من مرض أو موت أو قتل؛ ليستريحوا منك في نظرهم، كما هم منتظرون أيضاً عذاب الله عاجلاً أو آجلاً ].
[ من هداية الآيات:
أولاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة المقررة لها ] وأكبر دليل أن الأرض الجافة اليابسة إذا نزل عليها الماء تنبت، وكذلك عظامنا التي فنيت وأجسادنا التي تحللت، ولكن العظم الصغير الذي في آخر ظهرنا باقٍ كالبذرة في الأرض، فينزل الماء من السماء، فننبت كما ينبت البقل.
[ ثانياً: استعجال الكافرين العذاب دال على جهلهم وطيشهم ] ومطالبتهم به يدل على حمقهم وطيشهم وجهلهم، وإلا فالعاقل لا يستعجل العذاب، ولكنهم حمقى ويعيشون في ظلمة الجهل والكفر.
[ ثالثاً: بيان أن التوبة لا تقبل عند معاينة العذاب أو مشاهدة ملك الموت ساعة الاحتضار ] وكما علمتم لا تقبل التوبة يوم القيامة، كما لا تقبل عند مشاهدة ملك الموت، فإذا مرض الإنسان وقعد على سرير الموت وأخذت الروح تخرج من جسمه شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى حلقومه فهناك يكون ملك الموت وأعوانه ينتظرون ففي تلك اللحظة لا تقبل له توبة أبداً؛ لأنه في حكم من مات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر