أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:15-17].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لما ذكر تعالى في الآيات السابقة التي تدارسناها بالأمس جزاء المجرمين والمشركين والكافرين والفاسقين والفاجرين ذكر هنا جزاء المؤمنين الصالحين، فقال تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا [السجدة:15]، أي: المنزلة على رسولنا، وهي القرآن الكريم الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا [السجدة:15].
وقوله: عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، أي: الفرش، جمع مضجع حيث يضطجع.
فمن استطاع أن يصلي بين المغرب والعشاء في خفية بعيداً عن أعين الناس فليفعل، فقد ورد الحديث في فضل ذلك، وأنه ممن تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]. وقد كان الكافرون في ذلك الزمان قبل وجود الكهرباء وهذه الملاهي ينامون بعد صلاة المغرب مباشرة ولا يصلون، بل إذا غابت الشمس تعشوا وناموا. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن من صلى العشاء في جماعة ؛كأنما قام نصف الليل ) لله تعالى، والصبح أكثر من العشاء؛ لأن وقتها أصعب، فقد قال: ( ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله ). فلنقم الليل كله ونصفه، ونتهجد ما شاء الله أن نتهجد.
قوله: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [السجدة:15]. فهم لا يعرفون الكبر أبداً، ولن يكون وصفاً لهم، بل هم دائماً متواضعون متطامنون، ليس فيهم كبرياء ولا غلو ولا عتو.
ثم قال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ [السجدة:16] وتتباعد، جمع جنب. عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16]، أي: عن الفرش، ولا ينامون من المغرب إلى الضحى، بل ينامون وقتاً ويقومون وقتاً، ويصلون المغرب والعشاء، ويصلون الصبح في جماعة، ويتهجدون ما شاء الله أن يتهجدوا.
ومن هنا من دعا غير الله كفر وأشرك، ولم يؤمن بالله، واحذروا مما توارثناه جيلاً عن جيل من عوامنا وجهالنا الذين يدعون يا رسول الله! .. يا فاطمة ! .. يا حسين ! .. يا فلان! فهذا والله شرك وكفر.
والدعاء هو العبادة ؛ لأن العبادة هي الذل والمسكنة بين يدي الله بطاعته، والداعي يحصل منه التذلل عندما يقول: يا رب! يا رب!.
وقد عرف الداعي أن ربه فوقه فوق سماواته وفوق عرشه، لا كما يقول المضللون والضالون هو في كل مكان، بل هو على عرشه.
وقد عرف أن الله يراه، فلهذا رفع كفيه إليه، وعلم أن الله يسمع نداءه، فناداه: يا رب! يا رب! وعلم أن الله يقدر على إعطائه حاجته فقال: يا رب! أعطني. فلهذا الدعاء هو العبادة، وورد في الحديث: ( الدعاء مخ العبادة ).
وإذا نزع المخ من الإنسان مات، والعبادة إذا نزع منها الدعاء تبق عبادة لا تنفع.
وقوله خَوْفًا وَطَمَعًا ، أي: خائفين من عقابه وعذابه في جهنم، وطامعون في رحمته وعطائه، وفضله وإحسانه، فهذه حالهم يدعون ربهم بين الخوف والطمع.
ثم قال: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]. فهم ينفقون أولاً: الزكاة .
ثانياً: إذا رزقك الله عقلاً فانفع به غيرك، وإذا رزقك الله علماً فانفع به سواك، وإذا رزقك الله جاهاً أو دولة فانفع به من يحتاج إليه، وإذا رزقك الله قوة ووجدت مؤمناً لا يستطيع أن يحمل كيساً فاحمله معه، المهم أن تنفق مما رزقك الله.
وقوله: ( ما لا عين رأت )، أي: ما لم تره عين إنسان قط، ولا سمعه بأذنه قط، ولا خطر على قلب إنسان قط، وذلك النعيم في الفردوس الأعلى. اللهم اجعلنا من أهله.
ثم قال تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]. لقد أعد لهم هذا النعيم جزاءاً على عملهم، فقد كانوا صائمين قائمين، متهجدين مجاهدين، مرابطين ذاكرين شاكرين طول حياتهم.
والصالحات يا عباد الله! هي هذه العبادات التي نزل بها القرآن، وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقام الصلاة والحج إلى بيت الله، والرباط والجهاد في سبيل الله، وقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. فهذه العبادات هي العمل الصالح، وعاملوها هم الصالحون.
[ من هداية الآيات:
أولاً: فضيلة التسبيح في الصلاة وهو: سبحان ربي العظيم في الركوع، وسبحان ربي الأعلى في السجود ] فنقول في الركوع: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاث مرات، أو خمس مرات، أو سبع مرات ، أو تسع مرات، وهكذا، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثاً أو خمساً، أو سبعاً أو تسعاً، أو إحدى عشرة. وقد دلت عليه هذه الآية وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [السجدة:15].
[ ثانياً: ذم الاستكبار وأهله ومدح التواضع لله وأهله ] ففيها ذم الاستكبار والتكبر، والثناء على المتواضعين الطاهرين الطيبين. والاستكبار من صفات الكافرين المعرضين عن ذكر الله، وأما المؤمنون الصالحون فليسوا متكبرين، فهم يجلسون مع الفقراء والمساكين، ويأكلون معهم، ويسلمون عليهم، ويقضون حاجتهم، ولا ينطقون بكلمة سوء ولا بصوت عالٍ. فهذا التواضع من صفات أولياء الله. جعلنا الله وإياكم منهم.
[ ثالثاً: فضيلة قيام الليل، وهو المعروف بالتهجد، والدعاء خوفاً وطمعاً ] والتهجد هو القيام للصلاة في آخر الليل أو في أوله. وقد قلت لكم: إن ما بين المغرب والعشاء يسمى تهجداً، وصلاة الصبح في جماعة تهجد؛ لأنك قمت من فراشك، والفاسقون والكافرون لا يقومون الفجر أبداً، وإنما يقومون الضحى أو الساعة التاسعة. جعلنا الله وإياكم من أهل التهجد.
قال الشيخ في النهر غفر الله له ولنا ولوالدينا أجمعين: [ روى الترمذي بسند صحيح عن معاذ بن جبل قال: ( قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار ) ] ومن دخل الجنة فقد تباعد عن النار [ ( قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه ) ] اللهم يسره لنا وأعنا عليه [ ( تعبد الله لا تشرك به شيئاً ) ] فأولاً: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، لا في الدعاء، ولا في السجود ولا الركوع، ولا غيرها، بل تخص العبادة بربك تعالى [ ( وتقيم الصلاة ) ] إقامة كاملة دائمة [ ( وتؤتي الزكاة ) ] المفروضة من مالك [ ( وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ) ] أي: وقاية من الذنوب والآثام ووقاية من النار [ ( والصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار ) ] فإذا صببت الماء على النار فإنها تنطفئ، وكذلك الصدقة حين تتصدق بها لوجه الله تطفئ خطاياك وذنوبك [ ( وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ [السجدة:16] الآية ) ] هذا هو الشاهد.
[ رابعاً : بشرى المؤمنين الصادقين من ذوي الصفات المذكورة في الآيات، وهو أنه تعالى أعد لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما جاء في الحديث: ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ) ] وإنا لنرجو من ربنا ألا يخيبنا، وأن يجمعنا مع أوليائه وصالحي عباده في مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر