أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة المطففين، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها، سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها، إنه قريب مجيب سميع الدعاء.
قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:18-36].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمن والمؤمنات! القرآن الكريم كتاب هداية، ليس كتاب طب.. ولا تاريخ.. ولا فلسفة.. ولا قانون.. ولا.. ولا، إنه كتاب هداية، ومن مظاهر ذلك أنه يذكر مقتضيات الكمال والسعادة، ويذكر مقتضيات الشقاء والخسران، ويعرض معارض لأهل النعيم في نعيمهم تشويقاً لهم، ويعرض معارض أخرى لأهل الجحيم والعذاب تخويفاً منهم.
فبعد أن عرض علينا حال المجرمين.. حال الكاذبين الكافرين.. حال الفاسقين الظالمين، الآن عرض علينا عرضاً جميلاً لأهل الإيمان وصالح الأعمال.
قال عز وجل: كَلَّا [المطففين:18] وهذا رد على ما سبق إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18].
من هم الأبرار؟
سألنا سابقاً وقلنا: من هم الفجار؟ فعرفنا أنهم الذين فجروا عن الطريق وخرجوا عنها.. لا يحلون حلالاً ولا يحرمون حراماً.. لا ينهضون بواجب، ولا يتكلفون بتكليف.. خرجوا عن نظام وضعه الله للإسعاد والإكمال، أولئك المجرمون أولئك الفاجرون.
من هم الأبرار؟
فلان بار بوالديه، ما معنى بار بوالديه؟
أولاً: يطيعهما في المعروف.
ثانياً: يقدم لهم الخير متى طلبوه وأرادوه.
ثالثاً: لا يؤذيهما بأي أذى.
والبرور بالوالدين معروف عند المؤمنين، وهو أن يطيع الابن أبويه في المعروف، وأن يصل بالخير إليهما، وألا يؤذيهما بأدنى أذى، ويقال فيه: بار.
وهنا الأبرار: جمع بار، لا يعني البار بوالديه فقط، بل أولاً: يبر بربه، ثم يبر بوالديه.
فالبرور: الطاعة لله عز وجل ورسوله في صدق، فمن أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلم يعص أمرهما، ولم يخرج عن طاعتهما، وأحبهما، وعاش لهما ذلكم البار، وجمعه أبرار، المطيعون الصادقون.
وهؤلاء ما لهم؟ كتابهم في عليين الآن.
كتاب الفجار في سجين مع أرواحهم، إذا مات الفاجر هو -أي: روحه وكتبه التي سجلت عليه- أسفل في ذاك السجن العظيم الذي هو سجين.
أما الأبرار الصالحون من عباد الله إذا مات أحدهم فإن روحه وكتابه كلاهما في عليين: إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]، وأرواحهم في عليين.
وإذا ما زلت يا بار ما مت فإن كتابك في عليين، وسوف تلتحق روحك بعليين، وهذه فترة البرزخ، وبعد ذلك لما تنتهي هذه الدورة ويعيدنا الله من جديد بأجسام جديدة فإن الأرواح تحتل الأجسام، ونبعث لساحة فصل القضاء، أما الآن فإن أرواح الطيبين والطاهرين والله في عليين، وكتبهم التي أحصيت ودونت وكتبت في عليين، ومختوم عليها بأنهم سعداء لا يشقون.
ثم قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ [المطففين:19] هذا الاستفهام لتهويل شأن عليين.
و عِلِّيُّونَ مكان في السماء السابعة.. فيه منازل في السماء السابعة، حيث جنة المأوى، والتي فيها سدرة المنتهى. وأرواح المؤمنين والمؤمنات الآن في عليين، ما كتب عليهم وسجل من أعمالهم في عليين، انتظاراً ليوم القيامة.
ثم قال تعالى: كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:20-21]، من أهل كل سماء يشهدون شهادة حق لأولئك المؤمنين والمؤمنات، ومقربو كل سماء يوقعون على تلك الحصيلة من الصالحات، وتحفظ أخيراً في مكان والروح معها في هذا المكان الأقدس في عليين.
وهذه الآية تقابل إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين:7-17] .
فاطوِ هذه الصفحة، ودعك من أهل الشقاء وأحوالهم، وانتقل إلى أهل النعيم المقيم وأحوالهم، حيث قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:18-21]. فالذي يشهد ويوقع على كتابك هم المقربون من كل سماء.
قوله: الأَرَائِكِ جمع أريكة، وهو السرير بالحجال.. السرير بقبة.
قوله: يَنظُرُونَ ماذا؟ ينظرون ما أوتوا من نعيم، إذ المساحة التي تعطاها يا بني تزيد أو تقرب من مساحة ألفي عام، فانظر وسر مسافة ملكك التي تقطعها في ألفي سنة.
وقوله: يَنظُرُونَ أي: ينظر بعضهم إلى بعض، وهم يتحدثون، فينظرون إلى ذي الجلال والإكرام، ومنهم من ينظر إلى الله في اليوم مرتين، إذ هم متفاوتون ليسوا في مستوى واحد، بل بحسب إيمانهم اليوم وصالح أعمالهم، ومنهم من يرى الله مرتين في اليوم، وينظرون أيضاً -إذا أرادوا- أهل الشقاء في شقائهم، فيشاهدون أهل النار، وأهل سجين وهم على الأرائك.
والذي يتعجب الآن أو يقول: كيف؟ فقولوا له: أنت أحمق، إنك الآن وأنت في بيتك تشاهد عبر التلفاز القريب والبعيد، فهم معك.
سبحان الله العظيم! كيف كان إيمان أولئك المؤمنين؟ على الأرائك وينظرون أهل النار، والمسافات لا تقاس ولا تقدر، ويشاهدونهم.
فالآن الذي ينكر هذا ليس له عقل ولا قيمة، والذي يؤمن به الحمد لله، ولكن لن يكون إيمانه كإيمان الصديق أو الفاروق أو فاطمة أو الحسين ، إذ أصل الإيمان إيمان بالغيب المحض، ولهذا أنصح لكم ألا تتطاولوا وتغتروا، بل تطامنوا وتواضعوا، واعلموا أن إيمانكم ليس بذاك الإيمان، وأن يوماً سيأتي لا يقبل إيمان، إلا لمن كان مؤمناً؛ لأن السُتُر تتكشف.
إذاً: ينظرون ما سمعتم وغير ما سمعتم.
ومن قال: من أين لك أنهم ينظرون أهل النار؟
قلنا له: اصغ يا بني، سأقرأ عليك ما جاء من سورة اليقطين (وَالصَّافَّاتِ) فقد قال الله تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:51-55].
وأجريت المكالمة الآتية والمسجلة بالحرف الواحد، فاسمع ما جرى بين من في عليين وبين من في سجين من المكالمة وهو يشاهده: قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:56-57] أي: معك أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:58-62] الآيات. لما نزلت هذه الآيات في مكة هل قالت خديجة : هذا ليس معقولاً؟ هل قال أبو بكر : لا.. لا؟ كيف هذا، نحن لا نشاهد حتى الذي على الجبل من أهل الأرض؟ لا. بل قالوا: آمنا بالله، إذ لا يخبر الله بغير الواقع والحق، وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم بشر كيف يؤمن بهذا؟ آلله أمر؟ أمر، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً بين أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فجأة وإذا به يقول: ( آمنت به، آمنت به ) ما هذا؟ قال: ( كان رجل ممن كان قبلكم يركب على بقرة -فلاح- فرفعت البقرة رأسها إليه قائلة: ما لهذا خلقت ) أي: ما خلقني الله للركوب علي، بل للسني والحرث ( فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: آمنت به.. آمنت به.. آمنت به )؛ لأن البقرة سمعتموها تنطق وتقول لمن ركب: اهبط ما لهذا خلقت، فبلغ الخبر على الفور للرسول صلى الله عليه وسلم، فهل قال: ممكن، أو قال: جائز؟ لا، إنما قال: ( آمنت به ) فقد أخبر به الله عز وجل.
وكان الشيخان أبو بكر وعمر غائبين في أشغالهما وفي جهادهما، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( وآمن به
والشاهد عندنا: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:22-23]، فينظرون ما يسرهم.. ما يثلج صدورهم.. ما يزيدهم غبطة وفرحاً وحبوراً.
قوله: يُسْقَوْنَ من يسقيهم؟ يسقيهم الخدم.
من أي نوع هؤلاء الخدم؟ من نوع خاص، خلق خاص خلقه الله لخدمة أهل دار السلام، واقرءوا قوله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور:24]، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا [الإنسان:19]، وقد عرفتم كلمة السر في دار السلام، والذين طلبوا العلم وصلوا إليه، والمحرومون محرومون.
ما هي الكلمة التي تطلب بها حاجاتك في الجنة؟ تعلَّمها.. احفظها.. مت عليها؛ لأنك بحاجة إليها، ولو أنك مسافر إلى لندن يعطونك شيكاً حتى تصرفه وتنفق، فكذلك وأنت ذاهب إلى دار السلام خذ هذه الكلمة، ما هي؟ (سبحانك اللهم) يحضر كل شيء؛ لأنك إن قلت: ناولوني لحماً طرياً.. ناولوني فاكهة.. ناولوني كذا.. كذا، هذا شقاء، فيكفيك أن تقول عندما تشتهي: سبحانك اللهم، فيحضر كل شيء.
وإذا أردت أن تبعث الصحاف والأباريق والأكواب والكئوس وفضلات الطعام ماذا تقول؟ يا خدم! شيلوا ارفعوا؟ لا. هذا شقاء، لكن بكلمة واحدة فتقول: الحمد لله رب العالمين، وما يبقى شيء أمامك، وقد جاء هذا من سورة يونس عليه السلام، والسورة لا تقرأ على الأموات، فلهذا لا يعرفها المسلمون، جاء فيها قول الله تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا أي: ما يدعونه كيف يطلبون، دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].
قوله: مِنْ رَحِيقٍ [المطففين:25] الرحيق هو الخمر المعتقة، وما معنى المعتقة؟ كالبيت العتيق، يعني: مخبأة من قرون، أو من أعوام، حتى يعظم شرابها، والعرب كانوا يتغنون بالخمر المعتقة، أما المصنوعة من يومين وثلاثة أيام فإنها لا تنفع.
وهل في الجنة خمر؟ نعم. واقرءوا قوله تعالى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [محمد:15] وعد من؟ بنو سالم؟! لا، وُعِدَ الْمُتَّقُونَ يا رب اجعلنا منهم! هل نحن منهم؟ من هم المتقون هؤلاء؟ إنهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي فسموا بالمتقين، وعرفوا بالأبرار.
قال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد:15] الماء الآسن الذي علاه الطحلب الأخضر، وتغير طعمه لكثرة وجوده وطول زمانه وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [محمد:15].
يا جماعة! خفوا.. اطلعوا.. أو لا تستطيعون؟
قالوا: ربطونا بالأرض وشدونا بالحبال فلا نستطيع.
لكن كيف نطلع للسماء؟ نحتاج إلى طاقة قوية ترفعنا، وهي طاقة الإيمان.
إذاً: الرحيق خمر معتقة يسقونها في كؤوس هي عجب.
قوله: مَخْتُومٍ أي: أن هذه الأواني التي بها الرحيق مختومة، فلا يدخلها هواء ولا غبار ولا رائحة.
أما خمر الآخرة فاسمع! خِتَامُهُ مِسْكٌ [المطففين:26] والمسك هو الأذفر، وهذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أيام ما كان هناك الغش، أما الآن فالعطورات كلها مغشوشة، حيث تعلم الناس الغش وعلقوا به، وحتى اللبن يغشونه.
إذاً: مِسْكٌ [المطففين:26] والمسك عندنا هو دم الغزال، وليس هو الدم في الحقيقة، والغزال يوجد في جبال التبت بالهند، وهذا الغزال يعيش في تلك الغابات في الجبال، فيصاب في بطنه بدملة، ولما تكبر تلك الدملة وتأكله، كيف يفعل؟ ليس له يد أو أصابع يهرش بها، فيرتمي على الصخرة ويتمرغ عليها، فتنفقع، ولما تنفقع يأتي الهندي يلتقط ذلك، وهذا أجود أنواع المسك، ولحاجة الناس أصبحوا يصيدون الغزال ويأخذونه ويخرجون الدملة قبل استوائها فيكون المسك ناقصاً؛ لأنه ما استوى، وفي هذا يقول الشاعر:
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
(وإن تفق الأنام وأنت منهم) أي: لا عجب! (فإن المسك بعض دم الغزال).
فإن قيل: أين المتنافسون يا شيخ؟
أقول: ليس عندنا.
قد يقول قائل: لا، عندنا، نتنافس في الدنيا، كم عندك أنت من عمارة؟ كم من أموال؟ أما في هذا الباب لا تنافس.
فإن قيل: استغفر الله يا شيخ! أما رأيتهم ينامون على الحصر ويبيتون ركعاً سجداً؟ نعم، أولئك المتنافسون.
أما رأيتهم صائمين قائمين؟ أما رأيتهم مرابطين مجاهدين؟ أما رأيتهم يبكون فتبل دموعهم لحاهم؟ أما رأيتهم؟ نعم، أولئك المتنافسون، ولا يخلو منهم زمان ولا مكان، فليتنافس الذين عرفوا التنافس في الخير، يقال: نفس الشيء ينفسه إذا أحبه له، وأراد الحصول عليه وحده، فكل يريد أن يكون هو صاحب هذا المقام.
فلتتنافسوا أيها المتنافسون.
واقرءوا من سورة الواقعة: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً [الواقعة:1-7] ما هي الأصناف الثلاثة؟ وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:7-11].
فأصحاب المشأمة والشمال واليسار هم العلمانيون والملاحدة والمشركون في جهنم، ولا سلام عليهم، لكن أصحاب الميمنة صنفان: مقربون وأصحاب يمين.
ونحن لما نبعث نبعث على ثلاثة أصناف، وبالصورة العامة نكون صنفان: سعداء وأشقياء، فالسعداء أصحاب يمين وسابقون مقربون، ولهذا أهل الجنة منهم المقربون ومنهم أصحاب اليمين، فالرحيق المختوم الذي ختامه مسك يشربه المقربون صرفاً خالصاً بلا مزج ولا خلط، وأصحاب اليمين يمزج لهم.. يخلط لهم بماء عذب من عين تسمى التسنيم، وجاء هذا من سورة الإنسان أيضاً موضحاً: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:6] .
هل طلبوا القرب هم؟ إي والله طلبوه بكل ما أوتوا من قوة، فعاشوا يطلبون القرب من الله، يتملقونه حتى بذكر اسمه، حتى أصبحوا مقربين قربهم وأدناهم.
يا أيها الأبرار! كيف حالكم؟! قولوا: الحمد لله. الرجاء محمود، الحمد لله، ألستم متقين؟ بلى. أما تركتم الفساد لوجه الله؟ نعم، فالحمد لله.
قوله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [المطففين:29] أجرموا على أنفسهم، فخبثوها ولوثوها ولطخوها بأوضار الذنوب والآثام، وأجرموا على أنفسهم بارتكابهم المعاصي، وبغشيانهم الكبائر والذنوب.
ما لهم؟ قال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29].
عودة بنا إلى مكة والقرآن ينزل، وهذه الآية مكية من آخر سورة مدنية، وفي نفس الوقت انتبهوا إلى مصير المجرمين، كيف صاروا إلى ما صاروا إليه؟ وانظروا إلى أعمالهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29]، يضحكون من بلال وصهيب وعمار وياسر وفلان.. وفلان؛ لأنهم آمنوا بالله واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ أي: في الشوارع.. في الأزقة.. في الأسواق.
وقوله: يَتَغَامَزُونَ الغمز يكون بالجفن والحاجب.
هل تعرفون الغمز؟ لا أراكم الله إياه.
فإذا مروا بالمؤمنين الفقراء.. المحتاجين.. الموحدين.. المؤمنين.. المضطهدين، المبعدين من دورهم ومن أهليهم يَتَغَامَزُونَ .
قوله: فَكِهِينَ أي: متعجبين من حالهم وما هم فيه من النعيم، وهم يذكرون الفقراء والمساكين كيف حالهم.
والآن هذا النغم وهذا الصوت موجود، وأهله والله موجودون، تعرفون الأصوليين والمتزمتين والمتنطعين، هذه كلها محبوكة في نتيجة واحدة: سخرية من أهل اللحى.. سخرية من أهل الصلاة.. سخرية من أهل التوحيد.. سخرية من أهل التقوى والإيمان، كل هذا موجود، أليس البشر هم البشر؟ ليس هناك فرق، لسنا بخلق جديد أبداً، نحن نحن.
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين:32] إذاً هم المهتدون، فالضال يقول: المهتدي ضال؛ حسب تصوره وفهمه، نعم. يأتي بعض هذا النوع الذين عاشوا في الترف وكذا.. والرأس عالٍ، والخرافات في عنقه والخاتم في يديه ما زال إلا السوار، فيسخر من أصحاب اللحى والثياب والعمائم، والله يسخرون منهم، فيفهمون أنهم هم في الكمال، والحمد لله أن هناك داراً للجزاء، واسمع ما نقول لهم!
ومعنى (ثُوِّبَ): جوزي وأثيب، أثابه وثوبه أعطاه ثواب عمله، والآن أهل الجنة في الجنة يقولون: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:36].
قال تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:34-36]، ولهذا قلت لكم: فذلكة في السورة.
قوله: فَالْيَوْمَ أي: يوم استقرار أهل النعيم في نعيمهم، وأهل الجحيم في جحيمهم.
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34] مقابل ما كانوا يضحكون عليهم، أما كانوا يضحكون عليهم في الدنيا ويسخرون منهم؟ بلى.
إذاً: في ذلك اليوم أهل النعيم والله يضحكون من أهل النار. إذاً يشاهدونهم، ويتكلمون معهم، ويؤذونهم بالكلام انتقاماً منهم، فالله أذن لهم.
ثم قال تعالى: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:35-36] إي نعم. أين هم؟ في أتون الجحيم.. في سجين.. في لظى.. في سعير.. في سقر.. في الدركات السفلى.. في عالم نسبته إلى عالمنا هذا كقطرة ماء انسبها إلى المحيط الهندي ولا تساويه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مثل الدنيا في الآخرة كمثل أن يغمس أحدكم أصبعه في اليم -في البحر- فلينظر بم يرجع )، كم مليجرام إلى المحيط الهندي أو الأطلسي.. الأحمر، كيف هذه؟ هذه هي النسبة.
والنور نور الإيمان إذا غشى وغطى يصبح أخونا لا يستطيع أن يسمع الباطل ولا يقوى على أن ينظر الحرام، ولا يقدر على أن يفعل باطلاً وسوءاً.
لكن هل هناك تجار يبيعونها؟ هل هناك آلة تولد النور؟
نعم يا شيخ! والله عشرات الآلاف.
أقول: ولكني أرشدكم إلى أعظم آلة، هي فوق كل الآلات، واشترها ولو بعمرك، وهذه التي تولد أعظم نور، ما هي؟ إنها إقام الصلاة، فبإقامتك الصلاة تحصل على أعظم آلة لتوليد الطاقة النورانية، فأقم الصلاة فقط، ومتى أقمتها ولَّدت لك ملايين الكيلوات من النور، وتصبح والله لا تستطيع أن تعصي الله، لا تستطيع أبداً.
فإن قيل: من أين لك يا شيخ هذه المبالغة؟
أقول: أنا سمعت الله تعالى يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، هذا كلام الله عز وجل، كيف تنهى؟
سمعتموها تقول: يا فلان! اصرف وجهك، يا فلان! قم، سمعتموها؟ الجواب: لا.
وإنما تولد كمية كبيرة من النور، فذاك النور إذا غشاك وغطاك لا تصبح معه ترى الباطل ولا المنكر، ولا تأتي سوءاً ولا منكراً، ومن شك نقيم له الدليل دائماً.
ولكن مع الأسف عشرات السنين بفضل الله نذكر حقائق علمية ما جربها أحد، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن أمتنا ميتة، وليست مستعدة للخير.
ما هذه القضية؟
أقول: يجب على الدولة إذا استقلت وأصبحت متمكنة، وطردت بريطانيا أو فرنسا أو إيطاليا، يجب أن تقيم الصلاة إجبارياً وإلزاماً، المدني كالعسكري، فلا يبقى مواطن لا يقيم الصلاة إلا يهودي ذمي أو نصراني، والنساء والرجال على حدٍ سواء، وأعظم كسب وأعظم مغنم هو فتح المجال لنا لأن نعبد الله.
فتصدر مراسيم ملكية.. جمهورية.. سلطانية أنه لا يسمح لمواطن أن يرى في الشارع أو في العمل والصلاة قائمة.
أسألكم بالله: هل هذا يعجز عنه الناس.. فيه مشقة؟ والله لا. لا عجز في هذا.
وهل جرب؟ جرب في هذه المملكة وأفاد.
إذاً: إذا أقيمت الصلاة استغنينا عن البوليس والدرك والجند والشرطة والجواسيس فلسنا بحاجة إلى هذا، واسترحنا.
فإن قيل: كيف يا شيخ؟
نقول: لأن الصلاة إذا أقيمت أضاءت الحياة للمؤمن، وأشرق لها قلبه وحواسه، وما أصبح يسرق ولا يكذب.. لا يفجر ولا يزني.
إذاً فنقول: أبوا أن يجربوا هذه العملية، وعاشت لنا ثلاث وأربعون دولة ما أقدمت واحدة على عملية كهذه، كأنهم مسحورون، ممكن؛ لأن اليهود سحرة ممتازون في السحر، ومن الجائز أن يسحروا حكام العرب والمسلمين ولو في قهوة، فلهذا معرضون، لم نعرض عن هذا؟ لماذا خلقنا؟ لم استقللنا؟ ما سبب وجودنا؟ ما حياتنا؟ ماذا نريد؟ إذا لم نعبد الله لنرقى إلى السماء وننزل الملكوت الأعلى.
الشاهد عندنا فنبرهن لهم ونقول: هذا الله تعالى يقول في توجيه رسوله وأمته: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] لم يا ألله؟ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
فنقول: لنتأكد من صحة هذه الحقيقة العلمية نذهب إلى المحافظ أو مدير الشرطة أو مدير الأمن في أي بلد، ونقول: يا سيد! أعطنا قائمة بأسماء المجرمين هذا الأسبوع، أو نقول: أسماء المخالفين للنظام، أو أسماء العصاة، فيعطينا قائمة؛ لأنهم يدونون بالساعة: الساعة الفلانية جيء بفلان سارق.. الساعة الفلانية جيء بفلان ضرب فلاناً، هل تعرفون هذا؟ فيعطونا قائمة نجد فيها مائة شخص أو ألف شخص.
ثم نقول لهم: إن وجدتم نسبة المجرمين أكثر من (5%) من المقيمين الصلاة اذبحوني.
ما جرب واحد وقال: تعال نذبحك، تفضلوا! مائة جريمة لا يوجد بين فاعليها ومرتكبيها أكثر من (5%) من المقيمين للصلاة، والخمسة والتسعون ما بين تارك صلاة ومصلٍ لا يقيم الصلاة.
أنتم لم لا تنقلون هذا الخبر؟ هم لا يظهرون هذه؛ حتى لا يفضح أمرهم، فحينئذٍ يلزمون الناس بالصلاة، الصلاة فقط، وإذا صلى الشعب استقام؛ لأن الذي يناجي ربه خمس مرات وأكثر يتكلم مع الله وجهاً لوجه بلا واسطة، هل هذا يخرج من المسجد يسرق.. يزني.. يفجر.. يكذب؟ لا يمكن.
وإنما يقع في المخالفات والجرائم والموبقات شخص مقطوع الصلة بالله، إما ما يصلي كافر، وإما يصلي لاهياً ما أقامها ولا استقام فيها، ولا ولدت له ولا كيلو وات، ولهذا كان لقمان يقول لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ [لقمان:17] وما قال: يا بني! صل، والله تعالى في كتابه يقول: أَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، ما قال: صلوا؛ لأنها عملية كما علمتم آلة لتوليد الطاقة، فإن كان الجهاز سليماً وكل الأدوات في مكانها أنتج، وإذا اختل لا ينتج، والآلة المولدة للكهرباء الآن إذا اختلت تولد؟ لا. صحح الخطأ الذي فيها، لكن إذا كانت سليمة الأجزاء تولد، وهذا سر الاستقامة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر