إسلام ويب

تفسير سورة الانشقاق (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يقسم الله عز وجل بالشفق، وبالليل الذي يغطي كل شيء، وبالقمر الذي يبدأ هلالاً ثم يتكامل حتى يصير بدراً، فيقسم سبحانه بهذه الظواهر على أن البشرية جمعاء سترجع إلى ربها، فالمؤمنون الذين عملوا الصالحات سيدخلون الجنات، لهم فيها درجات بعضها فوق بعض، أما المكذبون فإلى نار جهنم يساقون، وفي دركاتها أشد العذاب يذوقون، فسبحان من بيده أمر كل شيء وإليه يرجعون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن السورة ما زالت كعهدنا بها يوم أمس سورة الانشقاق.

    وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تلاوتها.. هذه الآيات تضمنت سجدة، ألفت نظركم إلى أنا سنسجد فاسجدوا؛ لأن القارئ إمام المستمعين، إذا سجد فاسجدوا، وإذا لم يسجد لا تسجدوا، وهي من عزائم السجدات.

    وتلاوة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق:16-25].

    إقسام الله عز وجل بمخلوقاته

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَلا أُقْسِمُ [الانشقاق:16] هل معنى هذا أنه أخبرنا أنه لا يحلف؟ وجائز أن تفهم هذا، إذ الأمر لا يحتاج إلى إقسام ولا يمين، وجائز أن تكون (لا) نافية. ويبقى الخبر: أقسم وحق لي أن أقسم.

    وهذا النفي كما يقدره أهل العلم، أي: فليس الأمر كما تدعون أيها الملاحدة من أنه لا حياة بعد هذه الحياة.. ولا بعث.. ولا جزاء.. ولا حساب، فليس الأمر كذلك، بل لا بد من وقوف بين يدي الله في ساحة عظمى للقضاء العادل بينكم، من يعمل سوءاً يجز به، ومن يعمل حسنة يجز بها، وهذا أليق بالمقام.

    وهل الله تعالى يحلف؟ نعم. الله جل جلاله يحلف.

    وبم يحلف؟ بما يشاء، لا حجر عليه ولا حظر، يحلف بمخلوقاته، وقد حلف في القرآن الكريم عشرات المرات، حلف بالتين والزيتون وطور سينين وبالبلد الأمين.. حلف بالضحى والليل إذا سجى.. حلف بالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى.. حلف بالفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر.. حلف بالسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود.. حلف بالسماء والطارق.. حلف بحياة نبيه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].

    فاعلموا معاشر المؤمنين والمؤمنات! أن ربنا جل جلاله وعظم سلطانه يحلف بما يشاء من مخلوقاته.

    النهي عن الحلف بغير الله

    أما نحن العبيد والإماء لم يسمح لنا أبداً أن نحلف بغيره، ومن حلف بغير الله أغضب الله، والله ما أذن لنا أن نحلف بسواه قط.

    وإن قلتم: ما هي الآية التي تدل على هذا الذي تقول؟

    قلت لكم: هاهم أولياؤه وأنبياؤه في القرآن الكريم نتلو قصصهم، هل وجدنا أحداً منهم حلف بغير الله؟ وفوق ذلك رسوله ومصطفاه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أناط به أن يبين للناس ما أنزل إليه، على المنبر أعلنها صريحة واضحة بقوله: ( ألا إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ).

    ومرة أخرى قال كما في جامع السنن للترمذي : ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) أي: المحلوف به أشركه في تعظيم الله، إذ أصل الحلف بالشيء تعظيم له، فمن حلف بشيء عظمه، والله أكبر.

    إذاً: ومن كان من السامعين والسامعات يحلف بغير الله قبل اليوم فليتب إلى الله، فإن باب التوبة مفتوح، فلا تحلف برأسك.. ولا بعينك.. ولا بالطعام.. ولا باليوم.. ولا بالكعبة.. ولا بالمصحف.. ولا.. ولا، ليس عندك إله إلا الله، ألست الذي تقول: لا إله إلا الله؟ فكيف توجد آخر وتحلف به؟

    ولا تقلدوا العوام والجاهلين والمظللين، والله ما جاز لمؤمن ولا مؤمنة أن يحلف بغير ربه، ومن جرى على لسانه ما لا يقصد، تعود لكثرة ما يحلف، لا يشعر حتى يقول: وكذا..

    وعلى سبيل المثال: بعض إخواننا المصرين تعودوا الحلف بالنبي، يتحدث معك يقول: والنبي، يخبرك يقول: والنبي، يأتي يسألني فيقول: يا شيخ! والنبي حصل كذا.. فأقول له: لا تحلف بغير الله، يقول: والنبي لا أزيد!

    إذاً: فهذا الذي تعود علاجه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، الطبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذا المسجد، وهذه المدينة، وهذه الأمة.

    شاهد عليه الصلاة والسلام إخواناً لنا وله من المؤمنين يجري على ألسنتهم الحلف بغير الله؛ لأن الرجل عاش أربعين سنة يحلف بالعزى وأسلم اليوم، ممكن ينسى ذلك؟ لا يستطيع، عاش ستين سنة وهو يحلف باللات ودخل في الإسلام من أسابيع أو أشهر ينسى؟ لا يستطيع، تعود. فقال عليه الصلاة والسلام: ( من حلف باللات أو العزى فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لأخيه: تعال أقامرك؛ فليتصدق ) والحديث في الصحاح، في البخاري ومسلم وغيرهما.

    ما معنى: ( من حلف باللات أو العزى )؟ من قال: واللات ما أفعل -كما كانوا في الجاهلية يفعلون- والعزى، جرى على لسانهم هذا بدون قصد؛ لأنه أسلم.. وحد، ما أصبح مشركاً، فالعلاج لتلك الكلمة المنتنة العفنة كلمة الشرك والكفر تقضي عليها وتمحوها كلمة النور والتوحيد: لا إله إلا الله فتزيل أثرها على الفور.

    ما معنى: ( من قال لأخيه: تعال أقامرك؛ فليتصدق

    أهل مكة كانوا يعيشون على القمار -أستغفر الله- قمارهم شريف، نعم. كفار قريش أشراف الكفار يقامرون، لكن لا على طريقة هذه البشرية السافلة.

    كيف يقامرون؟ يجتمعون حول الكعبة، عند الصفا.. عند المروة اجتماع، وبعير -جزور- مربوط هناك، فالذي يغلب يسدد قيمة هذا البعير؛ ليذبح للفقراء والمساكين.

    هل جماعتنا يقامرون هكذا؟ لا. على براد الشاي. بعير كامل الذي ينهزم في اللعب يذبحه ويأكله فقراء الحرم.

    شريفة هذه أو لا؟ فهذه خصلة شريفة، ومع هذا نزل فيهم القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91] قالوا: انتهينا يا رب!

    لكن يبقى ذاك المعنى في الذهن، لا يشعر فيقول: تعال أقامرك كما كنا. هذه سيئة غير مقصودة، ذنب غير متعمد، والعلاج كما قال رسول الله: ( فليتصدق )، من قالها يتصدق بأية صدقة ولو حفنة تمر، بل ولو قطعة من خبز، المهم أن يتصدق، فينمحي ذلك الأثر الذي علق بالنفس بهذا الحلف أو بهذه الدعوة إلى القمار.

    والحمد لله! القمار انتهى بين المسلمين، فلا أدري هل هم أصيبوا بفقر أم عرفوا الطريق إلى الله!

    الحمد لله. عرفنا الطريق!

    ويبقى الحلف، ونسبة الذين كانوا يحلفون بغير الله في الأمة أكثر من خمسة وسبعين في المائة من إندونيسيا إلى المغرب، والآن هبطت النسبة ممكن نسبة خمسة وعشرين في المائة يحلفون بغير الله، خمسة وسبعين يحلفون بالله.

    احمدوا الله!

    علة إقسام الله عز وجل بمخلوقاته

    وربنا تعالى لما يقسم بالأشياء لاحظ: إما أنه بإقسامه بها يعلن عن شرفها ومكانتها، فهنيئاً لمن أقسم به، كما حلف برسول الله صلى الله عليه وسلم: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72].

    وقد يحلف بالشيء لما فيه من الخير والفوائد والمنافع لنحمد الله على ذلك ونشكره كما حلف بالتين والزيتون فقال: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1].

    قد يحلف بالشيء؛ لأنه من مظاهر علمه وقدرته وحكمته، كحلفه بالملكوت الأعلى.. بالسماء ذات البروج.. بالشمس وضحاها.. بمخلوقات عظيمة خالقها أعظم منها بلايين المرات، فهو يلفت نظرنا إلى قدرته التي لا يعجزها شيء، وإلى علمه الذي تغلغل في كل شيء، وإلى حكمته التي لا يخلو منها شيء، ارفعوا رءوسكم إلى السماء، وهكذا لا يحلف عبثاً تعالى الله علواً كبيراً.

    أما نحن نحلف من أجل أن نؤكد الخبر بأن القضية صحت وتمت، انزع من ذهنك الوسواس، الخبر صحيح، فليس لنا أن نحلف إلا بالله. فإن قلت: والنبي.. والحسين؛ والله ما يجوز، ما عندنا أبداً إلا بالله ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) لأننا عبيد.

    إقسام الله عز وجل بالشفق

    إذاً: وهنا أقسم الجبار جل جلاله بماذا؟ قال: بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:16-18] أقسم بثلاثة أشياء:

    الشيء الأول: الشفق. ما الشفق؟ حمرة تعقب غروب الشمس وتملأ الجو الغربي حمرة، يشاهدها كل ذي عينين، وتستمر شيئاً فشيئاً إلى أن ينقضي وقت صلاة المغرب فيدخل وقت صلاة العشاء. هذا الشفق، وليس من الإشفاق بمعنى: الرحمة بالمخلوق، هذا مظهر من مظاهر قدرة الله عز وجل، الآن الشمس نقية بيضاء، أليس كذلك؟ بلى. تسقط هكذا في البحر أمامنا، تغيب، وإذا بالحمرة تملأ المنطقة، وتزول شيئاً فشيئاً ساعة وربع أو ساعتين، هذا الشفق من أوجده؟ من أوجد الشمس ذات الشفق؟ من أوجد الأفق الحامل للشفق؟ انظر يا عبد الله! أفعال ربك العزيز الحكيم، آمن بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والليل وما وسق)

    ثم قال تعالى: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17] كأنما أقسم بالضياء والظلام، الليل وما وسق، الليل يسق ماذا يسق؟ تعرفون الوسق؟ التجار يعرفون الوسق، السفينة يملئونها، السيارات يسوقون البضائع. فالليل ماذا وسق؟ وسق كل شيء، كل طائر في السماء.. كسابح في الماء.. كماشي في الغبراء، الإنس والجن والمخلوقات كلها دخلت في الليل، حملها الليل العظيم، وسق شحنات لا حد لها منها نحن، يدخل فيه كل الموجودات: الإنس والجن والحيوانات على تنوعها كلها في جوف الليل، وسقها وإلا ما وسقها؟

    أقسم بالليل وما فيه، أي: بالكائنات كلها، إذ هو خالقها وربها يحلف بها؛ ليدلنا على عظمته وقدرته وحكمته وعلمه، فلهذا لا إله إلا هو رغم أنف الناكرين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والقمر إذا اتسق)

    ثم قال تعالى: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:18] نحن غافلون، ما تلذذنا بالنظر إلى الآفاق، من منكم نظر إلى الحمرة وبقي يفكر ساعة أو ربع ساعة؟ يد من أوجدت هذا الشفق؟ وقد لا يخطر ببالنا؛ لأننا بهائم.

    من منا أغمض عينيه وفكر في ليلة مظلمة كالآتية هذه وما تحمله من إنس وجن وحيوانات، كل هذه المخلوقات دخلت فيه، سبحان الله العظيم! ليس هذا كيس دقيق، القمر إذا اتسق وانتظم وأصبح دائرة تعجز آلات الدنيا أن تضعها، يبدو هلالاً صغيراً ثم يأخذ يتكامل كالطفل إذا بلغ الثالثة عشرة، الليالي البيض وإذا به قد اتسق وانتظم كأنه قرص من خبز، من فعل هذا؟ جدي؟ بنو مناف؟ أمريكا؟ من يفعل هذا؟ من أوجد هذا الكوكب العظيم؟ هذا القمر؟

    أستطرد أقول: لقد انفضحت كذبة أمريكا وروسيا في كونهم طلعوا إلى القمر، انكشفت سوأتهما، وظهر في أمريكا فلكي كوني عالم من هذا الجنس، فكتب وقال: كل هذه تمثيليات تمت فقط، والحمد لله! وقفنا هذا الموقف حتى انكشفت سوأتهم، واتضح الموقف.

    إذاً: قالوا: طلوعهم إلى القمر خرافة، عمليات تمثيلية جرت في جبال وفي أودية وعرضوها في التلفاز وكتبوا عليها: طلعوا إلى القمر، موقفنا كنا نعاني من عوام المؤمنين والغافلين، أخذوا يشكون في كل شيء، كيف طلعوا للقمر؟ نحن نقول: جائز، ممكن، وإذاعات العرب والعالم الإسلامي تتمدح بأمجاد أمريكا وروسيا، ونحن نستحي من الله، نتمدح بأمجاد أعداء الله ورسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فكلما أعدوا اخترعاً نغني فرحاً باختراعهم؟ ينبغي أن نبكي.. أن نحزن؛ لأننا لا نصنع إبرة والقوم طلعوا إلى القمر.

    كيف نتبجح بأنهم طلعوا؟! فإن قلنا: يا عباد الله! اتقوا الله في هذه الأمة؛ يضحك الغافلون. ونقول لهم: تعالوا إلى السياسة القرآنية، تعالوا! هذه بلقيس، هذه ملكة اليمن عليها السلام لما امتحنت بأشق من امتحان القمر، وقال سليمان: أَهَكَذَا عَرْشُكِ [النمل:42] وقد نصب عرشها بين يديها في القدس في فلسطين، كيف جاء من صنعاء من اليمن من سبأ ووضع بين يديها؟

    أَهَكَذَا عَرْشُكِ [النمل:42] لو كنا نحن: إي نعم هو. مجنونة هذه؟ كيف يجيء العرش؟

    أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ [النمل:42] قالت: ما أخبر الله به عنها: قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ [النمل:42] لو قالت: هو. قالوا: حمقاء. لو قالت: لا، مستحيل؛ قالوا: مجنونة، تنفي حتى عرشها. ماذا قالت؟ كَأَنَّهُ هُوَ [النمل:42].

    فقلنا لهم: يا قوم! قولوا: جائز، لا نقول: مستحيل.. مستحيل بدون علم؟! ولا نقول: نعم طلعوا، لا يحل لنا هذا؛ لأننا أمة مستقلة، ترجو أن تقود البشرية في يوم ما من الأيام، ويضحك الغافلون والغافلات!

    وأفاجأ بمجلة صينية، والصين تحاول أن تكون القوى الثالثة في العالم بدل المسلمين؛ لأن المسلمين عرضنا عليهم رفضوا، لسنا قادرين على أن نكون قوة ثالثة، قال: للأمريكية والروسية فقط، الصين ثبتت.

    ماذا كتبت تلك المجلة؟ تقول: هذه مناورة سياسية، خدعة لتضليل العالم، لن تطلع أمريكا ولا روسيا للقمر، مستحيل هذا. كيف؟ قلت للسامعين: أرادت أن تحفظ ماء وجه شعبها، أرادت أن تحفظ كرامة شعبها، لا تذوبه في أمجاد أعدائهم، علمت شعبها أنه ما زال هو هو، وأن أمريكا وروسيا دجالان يدجلان على البشر، ما طلعوا، وانتفع الشعب الصيني بهذه، ما انهارت وخارت قواهم، وما أصبحوا يتمدحون بأمريكا وروسيا، سياسة صينية رشيدة، أما العرب ما عرفوا هذا.. ما ذاقوه، من سنة فقط زعيم إسلامي كبير حفظه الله وأدام حياته، قال: أنا خائف أن يوم من الأيام يقوم سلفي على المنبر، ويقول: أمريكا ما طلعت القمر. عجب هذا! سوقنا مليء بالعجائب! وإذا بالصحف والجرائد وقرأنا عليكم، خرافة وحيلة فقط؛ للتنويم، ما طلعنا القمر ولا وصلنا إليها، ولو طلعوا إلى القمر لكانوا الآن يبيعون قطع الأرض، لكانت التذاكر الآن مكاتب في العالم بأسره؛ لأنهم يريدون الفلوس يعبدونها. تريد القمر؟ عشرة آلاف دولار واطلع، لم سكتوا؟ شبعوا؟ لأنهم يكذبون.

    يا معاشر المستمعين! هذا شأن أمة تعطى هذا النور وتعرض عنه، لن ترى الحياة أبداً. فقلت لهم: يا جماعة! قولوا كما قالت بلقيس : ممكن، جائز، لا تتمجدوا وتتمدحوا بأمجاد أعدائكم يا عقلاء! لا نقول: أنكروا، قولوا: ما طلعوا، يمكن يكون طلعوا نصبح واقفين موقف هابط جداً، لكن نقول: يمكن.. جائز.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لتركبن طبقاً عن طبق)

    قال تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] وهذا جواب القسم.

    لم حلف الله؟ قال: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19].

    قراءة شاذة: (لتَرْكَبَنَّ) ويكون الخطاب للحبيب صلى الله عليه وسلم. (لتَرْكَبَنَّ) يا رسولنا! طبقاً عن طبق إلى الملكوت الأعلى، كأنها تباشير برحلة الرسول إلى الملكوت الأعلى.

    لكن القراءة المشهورة والتي عليها الأمة: لَتَرْكَبُنَّ [الانشقاق:19] أنتم أيها البشر، يا بني الإنسان! لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] ما هذه الأطباق؟

    أولاً: لا بد وأن نموت، هذا طبق.. لا بد وأن نحيا مرة أخرى طبق ثان.. لا بد وأن نحشر في ساحة فصل القضاء طبق ثالث.. لا بد وأن توزن أعمالنا طبق رابع.. لا بد وأن نجتاز الصراط طبق خامس.. ثم أخيراً في عليين أو في سجين، لا بد وأن نركب هذه.

    هل هناك من يقول: لا؟ لأنهم قالوا: لا بعث ولا جزاء ولا حساب، قال: لا. أقسم بربي! لتركبن طبقاً عن طبق، لا بد من هذا المصير، سوف تموتون، وسوف تحيون وتبعثون، وسوف تحشرون، وسوف تحاسبون، ثم إما في نعيم وإما في جحيم.

    والنعيم أيضاً طبقات درجات نركبها، اسمع! أهل الجنة، سكان الجنة يتراءون منازلهم كما نتراءى الكوكب الغابر، درجات، وأهل سجين.. أهل النار دركات، طبقة فوق طبقة إلى أسفل الكون، ولك أن تفهم أيضاً من قوله: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] الفقر.. الغنى.. الصحة.. المرض.. الإعياء.. التعب.. الفرح.. الحزن.. هذه طبيعة حياتنا، لا بد منها.

    إذاً: وسلمنا لله ما أخبر به، وعلينا فقط أن نؤمن بتدبيره وقضائه، وأن نحمده على نعمه، وأن نصبر على بلائه، أما أمر الله نافذ، والله لتركبن طبقاً عن طبق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون)

    ثم قال تعالى: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق:20] أي: ما الداعي إلى عدم الإيمان؟ ما الصارف عن الإيمان؟ ما المانع من أن يؤمنوا؟

    نعم. ما المانع أن تؤمن يا ناصر؟ تريد أدلة؟ ألست مخلوقاً؟ بلى. من خلقك؟ فإذا قال: لا أدري، قل له: اسأل، ارحل إلى الشرق والغرب قل: أنا مخلوق أريد أن أعرف من خلقني، سوف تجد من يقول لك: خلقك الله. قل: من هو الله؟ يوصف لك بصفات تملأ قلبك فتصبح تحبه أكثر من نفسك، ما لهم لا يؤمنون بالبعث الآخر؟ أليس هذا بعث أول؟

    أيها المستمعون والمستمعات! قبل مائة وثلاثين سنة والله ما كان منكم أحد موجود. واهم أنا أو صحيح؟ قبل مائة وثلاثين سنة والله ما كان واحد موجود منكم أيها المستمعون، كنتم عدم، من أحياكم؟ الله.

    إذاً: كيف تنكرون أن يحييكم مرة ثانية؟ بعدما يعدمكم، أولاً يحيلكم إلى تراب كما كنتم، أين عقولكم؟ فلهذا تعجب تعالى: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق:20] ما المانع؟ ما الصارف؟ كيف لا يؤمنون؟ عملية البعث والجزاء أمامك، الآن في جزاء من يعمل سوءاً يجز به، من يعمل حسنة يأخذ أثرها الآن، أليس كذلك؟ بلى. تعال اصفع الشيخ وابصق على وجهه تبيت الليلة في السجن، جزاء عاجل، أليس كذلك؟ بلى. في الدنيا قبل الآخرة، فما المانع إذاً من الإيمان؟ لا شيء، فقط يأبون أن يفكروا، لكن جاءكم من يدعوكم إلى الإيمان آمنوا، لا داعي أبداً إلى الإعراض والتكذيب والعناد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون)

    ثم قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:21] المؤمنون ثبت أن بعضهم إذا قرئ عليه القرآن يلقى في الأرض كالخرقة البالية، يغمى عليه، ثم إذا قرأ عليهم القرآن.. ما هذا القرآن؟

    هذا كلام الرحمن، هذا كلام الله، ليس كلام البشر، هذا فيه العلوم والمعارف، فيه الحجج والبراهين والآيات، فيه ما فيه من الهدى!

    كيف يسمعه العبد ولا يخضع لله ولا يسجد ولا يتطامن ولا يذل ولا يقبل شرعه ودينه؟ أمر عجب!

    وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:21] وهذه إحدى عزائم السجدات في القرآن.

    والحكم أنها سنة مؤكدة، فمن كان يتلو وانتهى إليها من السنة أن يسجد، فإن كان ماشياً أو راكباً يسجد كما تهيأ، ومن كان في منزل يسجد على الأرض ويقول في السجود: الله أكبر -للهوي- ثم يسبح الله ويدعوه بما شاء، ثم يرفع رأسه قائلاً: الله أكبر، ولا يسلم، لا تحية ولا سلام، فقط هوي بالتكبير الله أكبر، وإن سبح سبحان ربي الأعلى سبحان ربي الأعلى فخير ذلك، وإن قال: ( سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته ).. وغيره من الروايات.

    الشاهد عندنا: ويدعو كما سمع من شجرة تدعو: اللهم اكتب لي بها أجراً، وارفع لي بها ذكراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك ورسولك داود، آثار طيبة، الذي يحفظها ويدعو بها ويسبح بها خير من الآخرين.

    سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين، اللهم اكتب لي بها أجراً، وامح بها عني وزراً، وارفع اللهم لي بها ذكراً، واكشف اللهم بها عن أهلي مرضاً أو ضراً.

    اطلب ما شئت، المهم إياك ألا تسجد وتقول: ليست بواجبة، الشيطان يوسوس لك.

    ثم إذا سجد القارئ فعلى المستمع أن يسجد.

    وفرق بين المستمع والسامع، المستمع: جلس ليستمع، أصغى بأذنيه ليستمع، هذا إذا سجد القارئ سجد معه، وإذا لم يسجد القارئ كما في الإذاعة فلا تسجد، وإن سجدت فخير لك، أنت مأموم، إمامك ما سجد لا تسجد.

    إذاً: لتكن على طهر متوضئاً ولو سجدت على غير وضوء لا حرج، إسلامك.. انقيادك.. إذعانك لربك ولا حرج، لكن الأكمل أن تكون على طهر.

    إذاً: فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ [الانشقاق:20-21].

    من يقرؤه؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أصحابه.. المؤمنون.

    إذا قرئ عليك القرآن يجب أن تخضع بجوارحك.. بقلبك.. بأحاسيسك.. بمشاعرك لله عز وجل، فالسجود انقياد وإذعان، تهيؤ لذلك، طاعة لله، كله هذا يدخل تحت السجود.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل الذين كفروا يكذبون)

    ثم قال تعالى مبيناً العلة، لم ما يسجدون؟ لم ما يؤمنون؟ قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ [الانشقاق:22] هذا الطابع الخاص، الكافر يكذب، هذه الحقيقة، والله إلى الآن كل كافر يكذب، لو صدق ما كفر.

    إذاً: الذين كفروا يكذبون دائماً، كل ما تعرض عليهم جديداً كذبوا، مستعدون للتكذيب، فلهذا يقرأ عليهم القرآن لا يسجدون، يدعون إلى الإيمان ما يؤمنون، هذا شأنهم؛ لأنهم مرضى بمرض خطير ألا إنه الكفر، ما بعد الكفر ذنب، ما بعد مرض الكفر مرض، هذه هي العلة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والله أعلم بما يوعون)

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ [الانشقاق:23] عندهم أوعية يملئونها؟ نعم. قلوبهم.. الحقد.. الحسد.. الشرك.. الكبر، كل الباطل يملئون أوعيتهم، والله أعلم بما يوعونه من سب للرسول وأصحابه، انتقاص لدين الله من مودة للكافرين، من حب للشرك والمشركين، من حسد وتغيظ على المؤمنين، هذه الأوساخ كلها يملئون بها قلوبهم، قلوبهم أوعية مملوءة، والله يعلم ذلك وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ [الانشقاق:23] ما سمى الذي يوعونه؟ قذر وأوساخ، ليس هناك حاجة إلى ذكرها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم)

    ثم قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق:24].

    فَبَشِّرْهُمْ [الانشقاق:24] يا رسولنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق:24] عجب! إني أعلم بما يوعون من الأوساخ الحسية والمعنوية.

    بشرهم إذاً بماذا؟ بعذاب موجع، مؤلم أليم.

    وهل الإخبار بالعذاب بشارة هذه؟!

    لكن هذا أسلوب تهكمي اعتاده العرب في كلامهم، إذا أراد أن يسخر منك: أبشر، والسياف عند الباب.

    إذاً: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق:24] هذا في الدنيا، في البرزخ، في الآخرة، وفعلاً نزل بهم وأحاط بهم وذاقوا مرارته وإلى اليوم، بشارة الله لا تزول.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون)

    ثم استثنى الله تعالى منهم من كانوا في قضائه وقدره يؤمنون: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الانشقاق:25] ونحن إن شاء الله منهم.

    أليس كذلك؟ بلى. ألستم الصائمون؟

    إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الانشقاق:25] ما لهم؟ أخبر عن الجائزة: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق:25] غير منقطع أبداً.

    وهنا قضيتان:

    الأولى: التقاعد! نظام التقاعد عند الله، اسمعوا! أيما امرأة كانت تصوم وتقوم الليل، كانت تصلي ثم تقدم بها السن وكبر سنها وأصبح البول لا يفارقها، ما أصبحت تقوم الليل، ما أصبحت تتلو القرآن العظيم، علموها أن أجرها ماض كما كانت في الأربعين، يجرى لها حسابها كما هو إلى أن تموت. فقولوا: الحمد لله، الحمد لله!

    لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق:25].

    لم قال: غير ممنون ولم يقل مقطوع؟

    معناها مقطوع؛ لأن المن قطع، من مَنّ قطع. سبحان الله العظيم! بشرهم بأنه لا يمن عليهم، الذي يعطيهم ويغدقه عليهم ويهبه لهم من نعيم لا يمنه، أجر غير ممنون.

    من المتفضل بهذا الإنعام؟ الله.

    من الله؟ رافع السماء، باسط الأرض، خالق الكائنات، اسمه الله.

    والآن من هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟ ولم كان أجرهم لا ينقطع؟

    نعم. هؤلاء أولياء الله، المؤمنون العاملون للصالحات أولياء الله، شغلوا وقتهم بالصالحات، ما عملوا الطالحات، مشغولون بالصيام والجهاد والعبادة، لا أغاني ولا لهو ولا باطل ولا سرقة ولا جريمة!

    ما تدنست أرواحهم! هؤلاء ينزلهم الله في الملكوت الأعلى الآن بأرواحهم في عليين، وبعد الآن لما يوجد لهم الأجسام الجديدة الكاملة الخلقة الغير قابلة للفناء يرسل تلك الأرواح تدخل تلك الأجسام ويجتمعون في ساحة فصل القضاء ويحكم الله ويقضي، ثم يساقون إلى دار السلام.

    وإليكم هذا المنظر: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر:73] إلى أين؟ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ [الزمر:73-74] أرض الجنة نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74] لا الكسالى والعاطلين، وإنما: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].

    اللهم احشرنا في زمرتهم.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952030