إسلام ويب

تفسير سورة الأعلى (1)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اشتملت الآيات الأولى من سورة الأعلى على جملة من الظواهر الكونية المتنوعة ابتداءً بخلق الإنسان، ووضع المقادير، وهداية كل مخلوق بحسبه، وإخراج المرعى، وتبديل الخلق بخلق غيره على مدى السنين والأعوام، ألا يدل هذا كله على ربوبية الله وحده واستحقاقه التنزيه الكامل.

    1.   

    بين يدي سورة الأعلى

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة الأعلى جل جلاله وعظم سلطانه، والسورة مكية تعالج العقيدة، وآيها تسع عشرة آية.

    وتلاوة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى * سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:1-19].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! لما نزلت هذه السورة بعد فرضية الصلاة ومشروعيتها قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( اجعلوها في سجودكم ) أي: من سجد في فريضة أو نافلة فليقل: سبحان ربي الأعلى.. ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو تسعاً بحسب حالك، لكن لا تقل التسبيحات عن ثلاث، وإياك أن يهزأ منك العدو وتسبح بكلمات لا معنى لها كأن يقول: هو هو. وإنما تقول: سبحان ربي الأعلى.. أخرجها من فؤادك حارة تراعي معناها وتشاهد آثارها.

    وأيضاً بعد مشروعية الصلاة نزل قول الله تعالى من سورة الواقعة المكية: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74] فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ( اجعلوها في ركوعكم ). فمن ركع في نافلة أو فريضة فليقل: سبحان ربي العظيم.. إن شاء ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة إلا أن يكون إماماً يصلي بغيره فإن السنة أن يخفف ولا يطل عليهم. وليس معنى هذا أنه لا يسبح، وإنما المقصود أن يكتفي بـ(سبحان ربي العظيم) ثلاث مرات.

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة، وسبب حبه لها: أنه نزل فيها قول الله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] فهي بشرى تفرح بها نفس المؤمن، فما إن أخبر بهذا الخبر وأعطي هذا الوعد الصادق: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] حتى أثلج صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرح، وكان يصلي بها أحياناً في اليوم ثلاث مرات، فقد كان يصلي بها العيد والجمعة والشفع، وغالب الأيام يصلي بها الشفع. هذه هي سورة الأعلى جل جلاله وعظم سلطانه.

    ومن هنا انفعل لها وأصبح صلى الله عليه وسلم لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فتخبر عنه أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها وأرضاها فتقول: ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ). فاقتدوا بنبيكم إن أردتم النجاة.

    اختر أيسر الأمور، لا أصعبها ولا أشدها ولا أقساها، فليس هناك حاجة إلى ذلك، فإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.

    وحسبك أن تفهم أن الله بشر نبيه بهذه البشرى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] فكان يحب هذه السورة لما حملته إليه من هذه البشرى العظيمة.

    والذين لم يعرفوا الهدي المحمدي يرتكبون صعاب الأمور، وأحياناً يتمزقون ولا ينتجون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما كان اليسر في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه ) ومن وصاياه وتعاليمه لرجاله عندما يبعث بهم إلى الأقاليم قضاة أو دعاة يقول لهم: ( يسروا ولا تعسروا ). يا معاذ! يا فلان! يا فلان! ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا ).

    فهل أخذنا بهذا؟ ما أخذنا، ما عرفناه حتى نأخذه، وما رأينا من أخذ به فنقتدي به، فقد ضاعت موازين الحياة عندنا بسبب الجهل.

    وقال صلى الله عليه وسلم: ( إنما بعثتم مبشرين لا منفرين ). هذا يقوله لرجاله الذين يبعث بهم ليحكموا الناس ويسودوهم، وكما قالت عائشة رضي الله عنها: ( ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)

    وبسم الله نبدأ دراسة آيات هذه السورة الكريمة، قال تعالى جل ذكره: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1].

    من القائل سبح؟ الله تعالى، هو الآمر، والمأمور هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: محمد رسول الله. كيف لا والله يخاطبه ويقول: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]؟!

    كيف لا يكون رسولاً إذاً؟!

    وهل هذا خاص بالقائد صلى الله عليه وسلم أم هو عام بكل مؤمن ومؤمنة وينبغي أن يمشي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتمر بأمر الله له؟

    كل واحد منا مأمور أن يسبح باسم ربه الأعلى؛ لأننا نريد أن ندخل الجنة، والطريق هو المشي وراء رسول الله، أما أن الرسول يجاهد وينفق ويسبح ونحن لا نفعل ذلك فكيف إذاً نريد أن ندخل الجنة معه؟! لا بد من متابعته والسير وراءه إلا ما ورد في الدليل أن هذا خاص به لا تقدرون عليه أنتم ولا تستطيعونه أيها المؤمنون فذاك نعم، أما ما كان عاماً فأمته تابعة له تقول بما يقول، وتعتقد ما يعتقد، وتأخذ ما يأخذ، وتعطي ما يعطي.

    معنى التسبيح

    يقول تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الأعلى:1] فما معنى التسبيح؟

    التسبيح لغة: مصدر سبح يسبح تسبيحاً.والتسبيح معناه: التنزيه. سبحه: نزهه. أي: قدسه وطهره وأبعده عما لا يليق.

    تقول: يا عبد الله! نزه لسانك عن هذا القول، بمعنى: لا تقله، طهر لسانك منه؛ لأنه قول خبيث. والعامة تقول هذا.

    فـ(سبح) بمعنى: نزه وقدس وطهر اسم ربك.

    تنزيه الله تعالى عن النقائص

    من أي شيء تنزه اسم ربك؟

    أولاً: من أن يسمى به غيره، فلا ترضى ولا تسمح أن يسمى باسم الله غير الله، فلا يحل أن تسمي ولدك: الرحمن أو تسميه الله أو الجبار أو العزيز أو الرحمن الرحيم، لا، فهذه أسماء الله ينبغي أن يوحد الله تعالى فيها فلا يشاركه فيها سواه.

    ثانياً: نزهه عن أن يُسخر به ويستهزأ به، فلا تسمح أن يذكر اسم الله من يسخر به ويستهزئ به، بل قدسه عن هذا.

    ثالثاً: نزهه وقدسه أن تدخل باسمه المراحيض وأماكن الخبث، أو تذكره بلسانك في مكان نجس. وهذه سهلة وميسورة، فلا نسمح لمن يذكر اسم الله ساخراً ومستهزئاً، ولا نفعل ذلك نحن، بل لا بد وأن نجل اسم الله الأعظم وأن نعظمه، وأن نذكره بإجلال وإكبار لا بسخرية واستهزاء كما يفعل المبطلون.

    رابعاً: لا نسمح لأحد أن يسمي مخلوقاً بأسماء الله، فلا بد من توحيد الله في أسمائه وصفاته.

    خامساً: ننزهه عن الأماكن القذرة، فلا نقول وسط الحمام: الله، أو باسم الله، ولا ندخل باسم الله في المرحاض أو في مكان نجس.

    ومن نزه اسم الله نزه الله من باب أولى، وتنزيه الله وتقديسه عن أن يكون له شبيه أو نظير أو مثيل!

    ننزهه أن تكون صفاته كصفات المحدثين والمخلوقين!

    ننزهه أن يكون له ولد كما ادعى اليهود والنصارى ومشركو العرب!

    ننزهه أن يكون له شريك في ملكه أو في خلقه وتدبيره في ملكوته!

    ننزهه أن يكون له من يعبد معه بعبادته ويطاع بطاعته!

    هذا كله واجب كل مؤمن ومؤمنة.

    معنى (الرب)

    سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الأعلى:1] ومعنى (ربك): خالقك، رازقك، مدبر أمرك، مالكك، سيدك، معبودك.

    وكلمة الرب تتضمن هذه المعاني: الرب والسيد المالك، كما قال الشاعر:

    أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب

    هذا أعرابي ذكي ليس بليد مثلي، كان له إله يعبده. أي: صنم وتمثال وضعه في واد أو على رأس جبل ويأتي لعبادته بالعكوف حوله.. بدعائه.. بأن يذبح عنده شاة يتقرب إليه، فجاء يوماً يزوره وإذا بثعلب من ثعالب الصحراء قد رفع رجله ووضعها على كتف الصنم يبول عليه، فتعجب فقال:

    أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب

    وما رجع إليه إلى يوم القيامة!

    معبود يبول الثعلبان على رأسه كيف يعبد هذا؟!

    إذاً: سبح باسم ربك، خالقك، رازقك، مدبر أمرك، مالك أمرك، معبودك، إلهك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذي خلق فسوى)

    ثم قال تعالى لبيان من هو: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2] من عنده شريك في اليابان أو في الصين أو في الروس، في الدهر كله فليبرزه.

    من هو الذي يخلق مع الله؟ مولاي فلان؟ سيدي فلان؟ الزعيم؟ من؟

    هو وحده لا شريك له رغم أنوفنا، فلا خالق إلا هو، ورضي الله عنك يا ابن الخطاب ! لما سمع قول الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] قال: من بقي له شيء فليطلبه؟ ما بقي شيء، الخلق له والأمر له. وأنت ماذا بقي لك؟ لا شيء، كل شيء لله، الخلق هو خالقه، وهو الآمر، وإذا لم تخلق ولم تأمر ماذا بقي لك؟ لا شيء والذي لم يخلق لا يأمر.

    وهنا والأيام تمر والموت قريب وما نجحنا في دعوتنا، أربعين سنة، تأتي المناسبة ونقول: -تفهموا أيها السياسيون!- يا سيد! يا زعيم! يا حاكم! أنت تحكم شعباً مسلماً؟ قال: نعم. وعربي أيضاً.

    إذاً: احكمه بشريعة ربه، فلست مسئولاً عن كماله ونقصانه وسعادته وشقائه لا.. لا، أنت فقط مسئول عن تطبيق قانونه وشرعه الذي يؤمن به، وجزاك الله ألف خير. فإن قال: لا. قلت له: لم لا؟ أنت عاقل؟

    لكن لا أدري هل بلغهم هذا؟ ما أدري، الغالب أنه لا يبلغهم هذا الكلام.

    إذاً: نقول: يا عبد الله! يا سيد! يا صاحب كذا..! أنت تحكم شعباً مسلماً ليس فيه يهود ولا نصارى، وهذا الشعب عنده شريعة، وهي أجمل الشرائع وأقواها وأعظمها فاحكمه بهذه الشريعة.

    أما إذا كنت لا تعلم فلا بأس، ادع العالمين، واختر عشرين أو ثلاثين من العالم الإسلامي وقل لهم: تعالوا! بينوا لي كيف أحكم هذا الشعب المسلم بشرع ربه فلا أظلمه أبداً!

    قل لهم: أنا لا أعرف وها أنا دعوتكم يا جماعة الفقه والعلم أن تبينوا لي كيف أحكم هذا الشعب المؤمن، وإلا فسوف أترك وأهرب، لم أتحمل مسئولية لا أقدر عليها؟

    وبعد ذلك على العلماء أن يبينوا له، افعل كذا.. اضرب كذا.. خذ كذا.. أعط كذا.. وتمشي المسيرة إلى دار السلام.

    لكن لسان حالهم أن قالوا: لا نريد إسلام، وليس هذا وقته، وما هو زمانه وما هو كذا..

    فأقول لهم: أنا أنصفكم يا أبنائي؟! لا تريدون أن يطبق شرع الله على عباده هناك حل آخر؟

    فإن قالوا: ما هو؟ قلت لهم: اخلقوا من البلاستيك أو من العاج أو من الخشب أو من الطين، كونوا لكم أمة، وابحثوا عن مادة الروح، والآن يصنعون تماثيل كأنه رجل بالبرنيطة على رأسه، اصنع لك شعباً من هذا النوع واجلس على كرسي الملك وسريره وقل: افعلوا.. لا تفعلوا.. قوموا.. اقعدوا.. لا تأكلوا.. هاتوا.. فإن لامك أحد فافلق رأسه.

    هو أحمق مجنون يلومك لماذا؟ خلقك.. عبيدك.. وأنت الصانع فكيف تلام؟!

    وإذا لامك أحد فاضرب رأسه ولا حق له أن يلومك.

    ألست الخالق؟ بلى. إذاً: فافعل.

    فإن قالوا: هذا مستحيل، كيف نخلق؟ قل لهم: قالت روسيا: لا. أبشروا، سوف نكتشف سر الحياة وسوف نصنع لكم شعوباً من البلاستيك تزحف على البشرية تطهرها، واشتغلت مصانع الكيمياء ثمانية عشر سنة والعلماء في طمع ورجاء أن يحصلوا على مادة الحياة، إذا حصلوا عليها المصانع في اليوم تصدر ألف سيارة يصدرون مليون عبد، انفخ فيه الروح وسلطه على الأرض، لكن بعدما انتهت هذه الفترة اعتذر المركز اعتذاراً أدبياً حاراً؛ لعظمة خروتشوف ، وقالوا: مادة الحياة هذه جاءت من السماء وليست من الأرض. هذه من كواكب من السماء ولا توجد في الأرض. فقلنا: الحمد لله! أصبحت روسيا تؤمن إيمان جدتي العجوز!

    عجائزنا في القرية لو سألتهن: يا أماه! من أين الروح؟ لقالت: من الله.. من السماء، تنزل في الجنين وتؤخذ بالموت، لا تنبت في الأرض ولا توجد في مادة الحديد أو الزنك!

    عملوا ثمانية عشر سنة وعادوا إلى أنه لا إله إلا الله لو كانوا يعقلون.

    عرفتم هذه اللطيفة؟!

    بلغوها إلى حكام المسلمين! لا بد أن تحكموا الشعوب بشرع ربهم وإن افتقروا.. إن مرضوا.. إن ذلوا؛ غير مهم، أنتم بريئون وجزاكم الله خيراً.

    أما إذا كنت لا تريد فعيب عليك، اتركهم وارحل يحكم بعضهم بعضاً إذا كنت لا تستطيع، وجزاك الله خيراً، لا تتحمل المسئولية.

    وإذا كنت لا تعرف فاطلب العلماء من السند والهند والشرق والغرب واجمعهم وقل لهم: لن تبرحوا ديارنا حتى تضعوا لنا دستوراً من الكتاب والسنة، وإلا سجن عام كامل. فيضعونه، وطبّقه يا سيدي الحاكم.

    أما إذا قال: لا ذا ولا ذا، قلنا له: هيئ لك شعباً من صناعتك، اصنع شعباً واجلس على كرسي الحكم وطبق شرعك وقانونك، والذي يلومك أدبه.

    إذاً: من الذي خلق فسوى؟ الله. سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] الذي لا علو فوقه، كل الكون الله فوقه والكون تحته، وهو القاهر فوق عباده.

    الَّذِي [الأعلى:2] هذا من بيان صفاته الَّذِي خَلَقَ [الأعلى:2] الخلق كله، خلق الآدمي وسوى خلقه، خلق النحلة وخلق البقرة وخلق كل المخلوقات وسوى خلقها.

    معنى تسوية الله للخلق

    ما معنى سوى خلقها؟

    انظروا إلى شيخكم! أذناه هل أذن في مكان وأخرى في مكان آخر؟ لا. بل مساوية لها.

    شفتاه هل واحدة في مكان والأخرى في مكان آخر؟

    يداه! هل يد على رأسه وأخرى على كتفه؟

    أصابعه؟ كيف هي؟

    تسوية .. عيناه .. شفتاه، كل شيء بنظام، فهذه تسوية وهي تحتاج إلى علم وقدرة وحكمة، ومن هنا وجب أن يعبد وحده فلا إله إلا الله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2].

    إن عثرت يا عبد الله على خالق لك وقالت أمك: يا ولدي! هذا الذي خلقك، وأشهدت اثنين، وقالوا: نشهد أنه الذي خلقك فاعبده؛ لأنك معذور، ولا يلومك أحد أبداً. أطعه، اركع، اسجد، قل له: مر أفعل؛ لأنه خالقك، منته عليك، نعمة خلقه، نعمته.

    ولكن لا يوجد خالق غير الله: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3]؟ اللهم لا.. لا.

    خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]: لم يخلق عبث والعجيب هو تمايزنا، فها نحن في هذا المجلس المبارك قم يا عبد الله! وانظر إلينا، فينا الشرقي والغربي والعربي والأعجمي و.. و.. لا يوجد اثنين لا يميز بينهما ولا يفرق بينهما، فهذا يدخل على امرأة هذا وهذا يدخل على امرأة هذا.

    كيف لو جمعت البشرية كلها في صعيد واحد وما استطعت أن تجد اثنين لا يميز بينهما فكل واحد له خاصية مع أن الأنوف والشفاه والأفواه والجباه وكل العظام واحدة .. جنس واحد، لكن لكل ميزة، عجب هذا! والله لو عرفنا الله لخررنا ساجدين، لكننا لم نعرفه، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22] لا للجاهلين.

    خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2] إذاً: فلا معبود إلا هو.

    وكما قلت لكم: الخلق يحتاج إلى قدرة تفوق كل قدرة، وتعجز كل قدرة.

    والمسوي يحتاج إلى علم يتغلغل في كل شيء، ويحتاج إلى حكمة.

    لم لا يسوي بيننا كسيارات المرسيدس؟ لأن حياتنا تتطلب أن يكون لي زوجة وأولاد وأنت كذلك، أنا لي ملك وأنت لك ملك، فإذا كنا على رجل واحد فكيف إذاً نعمل؟ وهذه حكمة. فمن هو الحكيم؟ الله.

    هذا الحكيم العليم يسوونه بالفروج! عبدة الفروج سووها به سبحانه .. بالقبور.. بالأضرحة.. بالبشر، سووه بالشياطين .. بالجن؛ لأنهم ما عرفوه، وضللهم العدو والعياذ بالله تعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذي قدر فهدى)

    ثم قال تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] قفوا عند هذه الآية يا أولي العلم! قدر فهدى، عجب!

    أضرب لكم مثلاً بـ قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]: أنت تنشئ اسطبلاً أو حظيرة غنم أو بقر وتوجدها وتنظمها ثم تشتري البقر أو الغنم أو النحل وتتركه فهل بعلمك وقدرتك كل بقرة تدخل في حظيرتها، وكل شاة تدخل في زريبتها، وكل نحلة تدخل في مكانها؟ هذا مستحيل ولا نستطيع، ولا نقوى على هذا، فالله عز وجل قدر الأمور كلها قبل أن تكون أرض أو سماء، ولا جنة ولا نار، ولا إنس ولا جن، قدره في كتاب المقادير، اللوح المحفوظ، الإمام المبين، كتب فيه كل ما أراد أن يخلقه منذ بدء الخليقة إلى استقرارها في عالم السعادة أو الشقاء.

    ثم ليكن الشيخ مثالاً لكم: أنا لي ملف في الأرشيف الإلهي منذ عشرات الآلاف من السنين أو مئات الآلاف، فيه شخصيتي، سلوكي، أعمالي، لكنتي، دمامتي كما هي لما انتهت تلك الآلاف من القرون وجاء الوقت المحدد لا بد وأن يوجد هذا، فخرج من بطن أمه.

    ويبقى كل أعمالي صالحها وسيئها، خبيثها وطيبها لا بد وأن آتيها بإرادتي وحريتي واختياري، وأنا في نفس الوقت مهدي إلى ذلك، لا بد وأن نصل إليها.

    قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] من قدر له شيئاً هداه لإتيانه، ولا بد وأن يفعله خيراً كان أو شراً.. وهذه عظمة الرب فقولوا: لا إله إلا الله.

    حتى لا تفهم أنك إله صغير تفعل ما تشاء اعلم أنك مربوب ومسوق ومدبر لا يقع منك إلا ما كتب لك أو عليك؛ حتى لا تشارك الله عز وجل في تدبير.

    افهموا هذا المعنى من قوله تعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] أي: هدى من قدر عليه شيء أو له هداه لأن يأتيه!

    قد يرحل إلى الهند من أجله! قد يبني في صحراء منزلاً حتى يأتي الذئب يأكله؛ لأن ذلك مكتوب، وهو الذي ينفذ.

    وَالَّذِي قَدَّرَ [الأعلى:3] المقادير فَهَدَى [الأعلى:3] أهلها حتى يأتوها فتتم كما كتبها في الزمان، والمكان، والكمية، والكيفية، والصورة. هذا أمر عظيم.

    والمفروض إذا ذكر أن توجل القلوب، وإذا تحدث عنه المتحدث يجب أن تذرف الدموع، ولكن قلوبنا ران عليها وغشاها الإثم فلا تستجيب ولا تتحرك!

    والحمد لله أنكم لا تضحكون فقط وإلا الغافلون يضحكون إذا ذكر الله يضحكون، وقد سمعتم الله يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].

    وإن قال قائل: إذاً لم يعذبنا إذا كتب هذا علينا؟ هذا هو السؤال: لم يعذبنا إذا كتب علينا المعصية والإثم والذنب؟ ما ذنبنا وقد كتبه علينا؟

    أول جواب لصعاليك العوام: اسكت، ما هو شأنك، هو خالقك، إن شاء عذبك وإن شاء أسعدك، وانتهينا.

    صاحب الهراوة لا منطق ولا ذوق، وهو الحق، يقول: تعترض على من؟ خلقك للنار أو خلقك للجنة؟ أي كلام تتكلم أنت؟ بأي منطق؟

    فهذا الجواب جواب الهراوة، عامي، اسكت يا هذا، ما شأنك؟ أليس هو خالقك؟ بلى. إن شاء عذبك وإن شاء..

    تسأله لم؟ تعترض عليه؟ إذا أخذت شاتك أنت وذبحتها وسلختها وأكلتها هل هناك من يقول: لم؟

    هل هناك من يعترض عليك؟

    تأخذ ثوبك أنت وتعطيه لآخر فهل هناك من يقول: لا.. لا؟ شأنك أنت، وهذا الجواب عامي ويريح الإراحة التامة، ولا تشقى في التفكير أبداً، وهو حق.

    والجواب العلمي الذي يحتاج إلى بصيرة هو يا أبناء الإسلام: أن الله عز وجل لما كتب المقادير وخلقنا من أجل أن نذكره ونشكره، ومن أجل أن نعبده فإن نحن عبدناه أكرمنا، وإن تمردنا عنه وعصيناه عذبنا وأشقانا. هذا حقه.

    يبقى أولاً: يعطينا أجساماً قادرة على الطاعة .. سمع، بصر، عقل، قلب.

    ثانياً: يبعث فينا الرسول المعلم المبين.

    ثالثاً: ينزل الكتاب.

    رابعاً: يعلمنا أن من سلك هذا السبيل نجا، ومن سلك هذا السبيل هلك، ويحلف لك، وأنت في وضعية قادر على أن تسلك هذا وقادر على أن تسلك هذا، واختر، ولا يقع اختيارك إلا على الذي كتب لك، اختر، أنت حر، إن شئت صم أو أفطر، صل أو غني، ولن يقع اختيارك إلا على الذي كتب ربك، ولكن بإرادتك الحرة واختيارك مع علمك قامت الحجة عليك. إذاً: تعذب بحكم أنك ظلمت لا أن الله ظلمك.

    يقول تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] ليس من شأن الله الرحمن الرحيم أن يأتي أمة ما عرفته ولا بعث إليها من دلها عليه وعرفها به ثم ينزل بها نقمة من وباء.. حرب تأتي عليها.. صواعق، لا.. لا، حاشاه، وإنما يعذب الأمة إذا هي عرفت وعلمت وتنكرت للحق وآثرت الباطل عليه .. هذه سنته، فمن هنا المجنون، المعتوه لا يحاسب، لا يعذب؛ لأنه غير مكلف.

    وكذلك الغلام الذي لم يبلغ لا يحاسب ولا يعذب؛ لأنه غير مكلف. ومن ولد في زمن لم تبلغه فيه دعوة الله؛ هذا يمتحن امتحان آخر يوم القيامة فلا يدخل النار هكذا مظلوماً، فالذي يحاسب ويجزى ذو العقل والقدرة البدنية والسمع والبصر مع وجود الوحي الإلهي والرسالات النبوية، ولهذا يقول أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ).

    اعملوا يا أيها المسلمون ويا أيتها المسلمات! العمل لا بد منه، ولكن اعلموا أن كل واحد منا ميسر لما خلق له، شخص مخلوق للجنة يمر في الشارع يسمع قارئاً يقرأ فينجذب لتلك الآية، ويطرح بين يدي الله يصرخ، يغتسل ويصلي ويتوب حتى الموت. من دفعه لهذا؟ من يسره؟ الله. فهو مخلوق للجنة .. يسير للطريق.

    وآخر يسمع كلام الحق بأذنيه ويكفر به، ويخرج يعربد ليموت على الفسق والشرك، فهو -إذاً- مسوق ميسر لما خلق له.

    وأخيراً: لا يسعك يا ابن آدم إلا أن تطرح بين يدي الله، وتفوض أمرك له، وتعلن عن أوبتك وتوبتك وطاعتك، واعلم أنه لن يضيعك، وحاشاه أن تقبل عليه فيصرف وجهه عنك!

    حاشاه أن تقرع بابه فيغلقه في وجهك!

    وإنما هلك المعرضون أما من أقبل أقبل الله عليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذي أخرج المرعى)

    ثم قال تعالى: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:4] يا أهل البادية! يا بدو! تعالوا، يا منكري البعث والجزاء! يا من يقولون: لا حياة بعد الموت وما هي إلا هذه الأيام فقط فكيف نحيا؟!

    تعالوا ننظر إلى قطعة أرض ينزل بها المطر في هذه الأيام والجو حار، خمسة عشر يوماً وإذا بها زاهية!

    والله عجب! الزهور والأعشاب و.. أما إذا بذرت قمحاً أو شعيراً أو ذرة فكذلك، ثم بعد فترة فإذا هي غثاء وعيدان!

    تفكر! أولاً: من أنبت هذا الزرع؟ أمي؟ خالتي؟ جدك؟ الله.

    كيف نبت؟ ولولا أن الله أراده كيف ينبت؟ قولوا لي!

    كيف ييبس حتى يكون ذلك الحطام ثم بعد ذلك ينبت نباتاً آخر لدوابكم ولأنفسكم؟!

    هذه وحدها فقط من آيات الله التي تقرر مبدأ البعث والجزاء، وأنه لا معبود إلا الله، والذين لا يفكرون لا يهتدون!

    فكر من هو الذي أخرج المرعى من الأرض وما ترعاه البهائم والنباتات؟ أليس الله؟ بلى.

    ليس هو سيدي عبد القادر أبداً ولا الحسين ، ثم لم لا يبق ذلك العشب دائماً هكذا؟!

    لا بد وأن يزول حتى ينبت نبات آخر في عام آخر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فجعله غثاءً أحوى)

    ثم قال تعالى: فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:5] هذا هو الله، وهذه إشارة إلى البدء والعودة.

    الذي أنبته ثم أماته قادر العام المقبل إذا نزل المطر أن ينبت نباتاً آخر!

    الذي خلقنا اليوم ويميتنا غداً سوف يعيدنا بعد غد!

    وتقرر بهذا مبدأ الحياة الثانية .. عقيدة البعث الآخر .. عقيدة الجزاء الأخروي .. عقيدة يوم القيامة .. عقيدة اليوم الآخر، كلها تتقرر بهذه اللفتة.

    فالعاقل الذي يعبده يلام ويقال له: أنت مجنون؟ لا. إذا قيل له تعبد من؟! يقول: أنا أعبد الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى [الأعلى:2-5]، أنا ما عبدت الهوى، ولا الدنيا، ولا الفروج، ولا المال، ولا عبد القادر، ولا الحسين ، أنا عبدت هذا الذي صفاته تبهر العقول فاعتزوا بدينكم وعقيدتكم.

    أما الذي يعبد مريم اسأله: من تعبد؟ تعبد مريم بنت عمران مؤمنة صالحة.. فهل تصبح إلهاً؟!

    والذي يعبد عيسى كيف يعبد عيسى؟! عيسى كان بكلمة التكوين: كن فكان .. من كونه؟ الله. الله الذي خلق عيسى وأمه.

    الله الذي قدر فهدى، قدر لهم جهنم وهداهم لسلوك طريقها وإلا فأي عقل يقبل أن يكون مخلوق مع الخالق؟ أن يسوى الإنسان مع خالق الإنسان؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سنقرئك فلا تنسى ...)

    ثم قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى:6-7] هذا الخطاب لمن؟ للرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    سَنُقْرِئُكَ [الأعلى:6] ما معنى نقرئك؟ نقريك كما تقول العامة، يبعث جبريل ويملي عليه القرآن والرسول يقرأ.

    سَنُقْرِئُكَ [الأعلى:6] بواسطة من؟ عبدنا ورسولنا جبريل، وهذا سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه وخوفه من أن ينسى شيئاً من القرآن؛ لأن جبريل يملي والرسول عربي، وجبريل ينطق بلسان عربي، وقد كان يقرأ بسورة الأنعام وفيها حزبان ونصف.

    إذاً: فالرسول يخاف أن يسقط شيء أو ينسى شيء، فكان ينفعل ويتعب.

    قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6]، أي: لا تخف أبداً فالذي يقوله جبريل ويتركك لا تنسى منه آية، حتى ولو كانت سورة الأعراف دفعة واحدة.

    ثم استثنى سبحانه وقال: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:7] إذا شاء الله أن ينسيك آية؛ لأنها حكم الله وأراد الله نسخ هذا الحكم ينسخ الآية معه. هذا شأنه.

    أما الضمانة الأولى فلك أنك لا تنسى أبداً، ولا تخف من الآن، اترك جبريل يقرأ ما شاء، واخرج المسجد: يا علي ! يا معاوية ! تعالوا خذوا، وتملي عليهم الآيات والسور، وقد كان له صلى الله عليه وسلم ثلاثون كاتباً.

    ويوضح هذا المعنى: آية سورة القيامة إذ قال لهم تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة:16] جبريل يقرأ وهو يقرأ معه، لا.. لا، لا تتعب نفسك.

    لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:16-18] فكان في تمام الراحة وإلا كان يشقى.

    وتعرفون مدة نزول القرآن ليست عاماً واحداً ولا عشر سنوات بل استمرت ثلاثاً وعشرين سنة، والسورة المكية هي التي بينت هذا.

    إذاً: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:6-7] نسيانه فينسيكه من أجل حكمة أرادها. وما هي هذه الحكمة؟ آية تضمنت حكماً فأراد الله نسخه وإيقافه فينسخ الآية بما فيها، وأحياناً ينسخ فقط الحكم وتبقى الآية تتلى.

    أضف إلى هذا المعنى أيضاً: أن الله تعالى ذو الإرادة المطلقة، فقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] مثل هذا المقام يحصل فيه الاستثناء، فلسنا عاجزين على أن ننسيك ولا أنت بالمعصوم الذي لا تنسى، فإن شئنا أن ننسيك تنسى.

    ونظير هذا في آية أهل الجنة والنار: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] هل علمنا أن الله يخرج أحداً من الجنة؟ لا والله، لكن لتبقى إرادتك يا عبد الله تحت إرادة الله، لتعلم أن إرادة الله لا يحدها حد، ولا يصدها صاد مطلقاً، فليس شيء يلزم الله به أبداً، ولو أراد أن يخرج أهل الجنة والله لأخرجهم.

    إذاً: تبقى إرادة الله حرة، فهذا الاستثناء من ألطف ما يكون وأجمل ما يكون إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:7-8] وموعدنا مع هذا إن شاء الله غداً.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952484