أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
فها نحن مع سورة الإسراء المكية المشتملة على كثير من أخبار الرب تبارك وتعالى، وكلها صدق، فهيا بنا نسمع بعض آياتها ونتأملها، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بها، إنه أهل لذلك.
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:40-44].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!
علمنا مما سبق أن السور القرآنية المكية -التي نزلت بمكة- تعالج العقيدة، وتعمل على إيجاد عقيدة النفس البشرية، يصبح صاحبها حياً يسمع النداء ويجيب، يفعل المأمور ويترك المنهي، وذلك لكمال حياته.
هذه العقيدة مبناها: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن آمن بالله وحده رباً لا رب غيره، وإلهاً لا إله سواه، وعرف من صفات جلاله وكماله: أصبح حياً، ومن آمن بالله يطلب الإيمان برسول الله، ويبحث عنه؛ إذ لا واسطة لنا نتمكن بها من عبادة ربنا وحبه والخوف منه إلا نبوة ورسالة بين أيدينا؛ فرسول الله يبين لنا كيف نعبد الله، كيف نتقرب إليه، بما نصفه، عما ننزهه، فلا بد من أن: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من آمن بالله ولم يؤمن بالرسول ما آمن بالله، دعوى باطلة؛ إذ لو آمن بالله لطلب وبحث عمن يدله على محاب الله ومكارهه ليتقرب إليه ويتزلف، فكيف إذاً ينكر رسوله الذي علمه ما يعلم عباده من الهدى والخير والحق؟!
ها هو تعالى في هذه الآية الكريمة يقول: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا [الإسراء:40]، هذه الآية تقرر نفي تلك التهمة وذلك الباطل الذي راج بين قبائل في العرب، وهو أن لله بنات، هم الملائكة، شاع بينهم وانتشر بواسطة الشياطين أن الملائكة بنات الله، ومن سورة الصافات، يقول تعالى: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الصافات:153-157]، وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57] ، هم يحبون الذكور، والله يعطونه البنات، هبوط هذا في العقل أو لا؟ الذي تكرهونه تجعلونه لله.
أَفَأَصْفَاكُمْ [الإسراء:40]، هذا الاستفهام للتقريع، للتوبيخ، للتأديب، أَفَأَصْفَاكُمْ [الإسراء:40]، خلص لكم ربكم البنين وجعلها لكم، وجعل لنفسه هو البنات، كيف تفهمون هذا الفهم؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ [الإسراء:40]، والله، قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء:40]، بشعاً قبيحاً؛ إذ يصفون الله بما هو منزه عنه، تعالى الله أن يكون له ولد سواء كان ذكراً أو أنثى، كيف يكون له ولد وهو خالق كل شيء، ورب كل شيء ومليكه؟ إذاً: له زوجة حتى تنجب الولد الذكر أو الأنثى؟!
هذه بدعة شاعت في بعض القبائل العربية، وهي أن الملائكة بنات الله، فيها نتقرب بهم إلى الله، يعبدون الملائكة؛ ويتقربون بعبادتها إلى الله رب الملائكة، فجاءت آيات كثيرة أبطلت هذه الفرية ومسحتها مسحاً، وهي لا تعقل ولا تقبل، وليس بغريب أن المسيحيين يعتقدون أن عيسى ابن الله، معنى هذا: أن لله زوجة وعيسى ولده، والضلال يهدي إليه الشياطين، إبليس وذريته عزموا على أن يفسدوا قلوب بني آدم؛ حتى يدخلوا معهم دار الوبار، ويخلدوا معهم في جهنم، هم الذين يزينون الباطل ويحسنونه ويخترعونه اختراعات وافتراءات، فأبطل الله هذه الفرية بهذه الآية الكريمة: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء:40]، يخصكم أنتم بالذكور وهو يتخذ الإناث، فهذه الآية تستل تلك الفرية من قلوب أهلها.
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء:40]، فاحشاً كبيراً، ينسبون إلى الله ما هو منزه عنه ومقدس، الملائكة خلقهم الله ليسوا بذكور ولا بإناث أبداً، يعبدونه الليل والنهار طول الدهر بلا نهاية، فكيف يكون في حاجة إلى بنات؟ ثم جرت سنة الله في التوالد أن يكون من ذكر وأنثى، تعالى الله وهو خالق كل الذكور وخالق كل الإناث، هذا معنى قوله تعالى: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الإسراء:40]، يا من تعتقدون أن الملائكة بنات الله، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [الإسراء:40].
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ [الإسراء:41]، الذي بين أيدينا. كتاب لله.. صرف فيه، ضرب فيه الأمثال، وعظ فيه، ضرب، بين فيه الأحكام ما ترك شيئاً ينفع الناس إلا بينه في هذا القرآن، ويبقى الملائكة بنات الله مع هذا، وقد نفى هذا مرات عديدة وأبطله، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ [الصافات:153-154]، وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النحل:57].
إذاً: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [الإسراء:41]، هذه علة التصريف، وتنويع الخطاب في القرآن الكريم، حتى يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويهتدوا ويعبدوا الله وحده، ولكن: وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [الإسراء:41]، عجائب القرآن وما يحمل من هدى ما يزيدهم إلا نفوراً؛ لأنهم:
أولاً: قالوا: هذا سحر وكهانة، ليعموا أبصار الناس.
ثانياً: ليحافظوا على باطلهم الذي عاشوا عليه هم وآباؤهم، فيدفعون كل آية بما في نفوسهم من غريزة وشهوة لهذا الباطل، فهم لو تأملوا القرآن وتدبروه لاتضح لهم الحال وعرفوا الطريق وسلكوا سبيل الهداية، لكنهم لا يريدون أن يسمعوا ولا أن يفهموا من القرآن، يدفعونه: سحر، شعر، ما نريد أن نسمع، لماذا؟ للحفاظ على باطلهم، اعتادوا عبادة الأحجار والأصنام والتماثيل والتقرب إليها وعاشوا عليها، وانتفعوا بها في بعض مآكلهم ومشاربهم فما استطاعوا أن يتخلوا عنها فهم يردون الحق بالباطل، فترة معينة فقط، ثم تاب الله على أكثرهم ودخلوا في الإسلام. هذا معنى قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا [الإسراء:41].
الرب تعالى يتكلم ويقول: صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا [الإسراء:41]، من أجل أن يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويعبدوا الله ويوحدوه، ولكن وَمَا يَزِيدُهُمْ [الإسراء:41]، هذا الذي بيناه وفصلناه في القرآن إلا نفوراً عن التوحيد وبعداً عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالذين كتب الله شقاوتهم سوف يموتون على الشرك والكفر والعياذ بالله، والذين كتب الله سعادتهم وخلودهم في الجنة دار السلام، وآمن أكثر ممن كفر.
لو فرضنا أن هناك آلهة لكانوا يطلبون الطريق إلى الله، ويهتدون ويعبدون الله عز وجل. تأملوا! قُلْ [الإسراء:42] لهم يا رسولنا، لو كان فيهما، كذا السياق؟ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ [الإسراء:42]، مع الله، كَمَا يَقُولُونَ [الإسراء:42]، أو:(كما تقولون)، إِذًا لابْتَغَوْا [الإسراء:42]، أي: لطلبوا، إِلَى ذِي الْعَرْشِ [الإسراء:42]، طريقاً للوصول إلى رضوانه ومحبته وطاعته. هذا من باب الفرض.
ووجه آخر أيضاً: لو كان معه آلهة لحاربهم وحاربوه، وقتلهم أو قتلوه، كقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، هذا يقول نخلق، وهذا يقول: ما نخلق، هذا يقول: نعطي وهذا يقول: ما نعطي، فتحدث الحروب بينهما كما تحدث بين السلاطين والحكام، فهذا برهان قاطع على أنه لا إله إلا الله، وإن فرضنا أن هناك آلهة فإن الله يدمرهم ويهلكهم، وإلا ما كانت السماء سماء ولا الأرض أرض، ولا عاشت هذه البشرية، الفتنة تقع بين إلهين فيدمر أحدهما الآخر، يشهد لهذا الآية التي ذكرت لكم: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ [الأنبياء:22]، أي: في السماء والأرض، لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وتخرب، وها نحن نشاهد إذا تنازع اثنان يفسد ما بينهما.
أما مظاهر الآية هنا: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا [الإسراء:42]، أي: لطلبوا إلى ذي العرش جل جلاله طريقاً لطلب رضاه والوصول إلى محبته وعبادته، ولكن لا وجود لها.
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ [الإسراء:42]، سبحانه وتعالى، سَبِيلًا [الإسراء:42]، يتملقونه ويعبدونه ويتقربون إليه؛ ليرضى عنهم ويحبهم ويكرمهم، لكن لا وجود لآلهة أبداً، ليس إلا الله.
هل هناك فرق بين لسان القال ولسان الحال؟ لسان القال: الذي يقول بلسانه: سبحان الله، كما نقول نحن، لسان الحال: كاليهود والنصارى والمجوس والمشركين، هل يقولون سبحان الله؟ يسبحونه بلسان الحال، وجودهم دال على وجود الله، ضعفهم وعجزهم دال على قدرة وعظمة الله، فحالهم تقول: لا إله إلا الله؛ إذ نحن مخلوقون له وهو خالقنا، نحن فقراء إليه، وهو غني عنا، نحن في حاجة إليه وهو.. وهو.. جل جلاله وعظم سلطانه.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ [الإسراء:44]، يدخل في هذا الشجر والحجر، والطير والحيوان.
أولاً: ذوات الأرواح كما قدمنا الملائكة، الإنس، الجن، الحيوانات هذه تسبح بلسانه قالها، والكافرون يسبحون الله بلسان حالهم، هذا كافر واقف، ماذا تقول عنه؟ يقول: مخلوق، مربوب، موجود، له صانع، صانعه عليم، صانعه حكيم، قوي، قدير، لا إله إلا هو ولا رب سواه، لسان حاله يسبح، والمؤمنون يسبحون بالقال والحال معاً، تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ [الإسراء:44]، السماوات كم سماء؟ بلا خلاف أنها سبع سماوات طباقاً، سماء فوق سماء، وبين السماء والسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك السماء خمسمائة عام، كما علمنا هذا مرات عديدة.
وَالأَرْضُ [الإسراء:44]، الأرض تسبح أو لا؟ إي نعم، كل شيء موجود يدل على موجده، وأن موجده عظيم الشأن، قوي، قدير، عليم، حكيم، أو كيف يوجد هذا النبات أو العشب.
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]. وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحصى سبح في يده، وأن شجرة إذا مر بها تسلم عليه، والطعام يسبح في قصعة الآكلين، نعم. إذا أنت لك لسان، فلهذه الشجر أيضاً لسانها وحالها وكيف تنطق، وأنت ما الفرق بينك وبين هذا العمود؟ أنت موجود أو لا؟ والله موجدك والعمود أوجده الله، وهو موجده يسبح بما أعطاه، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، وباللفظ العامي التي قلت لكم: كل موجود يدل على موجده، أليس كذلك؟ كل مصنوع يدل على صانعه، ثم هذا المصنوع صانعه يجب أن يكون قوياً قديراً، وأن يكون عليماً حكيماً، وأن يكون غفوراً رحيماً، وإلا كيف يوجده؟! فكل الموجودات تقدس الله وتسبحه وتنزهه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما يسمع المؤذن شجر ولا حجر ولا وبر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة )، هذه فضيلة للمؤذنين لو ظفرنا بها، ( إذا أذن المؤذن ما سمع صوته -أي: صوت الأذان- إنس ولا جن ولا شجر ولا حجر ولا وبر ولا مدر -يعني: طين وتراب- ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ).
ومعنى هذا: أن كل شيء يسبح الله عز وجل حتى المدر -التراب والرمل- فضلاً عن الشجر، ولا شيء إلا ويسبح لله تعالى، وصدق الله العظيم أما قال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، فما بقي شيء لا يسبح الله عز وجل، أي: لا يقدسه عن المثيل والنظير والشبيه.
أولاً: سبحان الله وبحمده: هذه من قالها مائة مرة غفر له ما تقدم من ذنبه ولو كان ذنبه مثل زبد البحر، فاتخذوا هذا الورد فقد اتخذناه في الصباح والمساء، ولا يعجزك أبداً ولا يتعبك، بأصابعك أو بمسبحتك، مائة مرة في الصباح ومائة مرة في المساء.
هذا الورد الأول أخف الأوراد وأيسرها وأسهلها ولا يحرمه إلا محروم، وليس بأن تجهر وترفع صوتك بها، في نفسك، حرك شفتيك، لكن النطق بها أولى، سبحان الله وبحمده.. سبحان الله وبحمده.. مائة في الصباح ومائة في المساء، فلو توفي أحد وقد قال هذه فذنبه مغفور، وما يلاقي الله بذنب.
ثانياً: دبر كل صلاة نسبح الله مائة مرة، ثلاثاً وثلاثين سبحان الله، الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر ثلاثاً وثلاثين، هذه تسع وتسعون تسبيحة، نختمها بكلمة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، والله لا يترك هذا إلا محروم.
وهذا بداية شأنه: أن فقراء المهاجرين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في روضته واشتكوا إليه، قالوا: نحن المهاجرون نصوم كما يصوم الأنصار، ونحج كما يحجون ونجاهد.. ولكن لهم أموال يتصدقون بها ونحن ما عندنا أموال نتصدق بها، إذا تفوقوا علينا وفازوا وأصبحنا دونهم؛ فدلهم الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا التسبيح، ليتفوقوا عليهم إلا من قال مثلهم، قال: ( تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرون الله ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فتتفوقون عليهم إلا من فعل مثلكم وزاد )، وأنت مأمور بأن تسبح الليل والنهار أو لا؟
ثالثاً: ورد النوم: احتاجت فاطمة الزهراء رضي الله عنها إلى خادم يخدمها في البيت، كما عندكم أنتم الخدم؛ لأنها امرأة علي رضي الله عنها، وأنجبت الحسن والحسين .. تحتاج إلى من يساعدها، فوضعت حجابها على رأسها وأتت الرسول صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ذلك، فما وجدت عنده ما يعطيها؛ فتألم وتأملت، وعادت إلى بيتها، حتى إذا كان نصف الليل أو ثلث من الليل ونامت العيون، جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت علي وهو نائم مع فاطمة على فراش واحد، وجلس على الفراش بينهما، وأعطى علياً يده اليمنى وفاطمة يده اليسرى أو العكس. هذا الذي يملكه الرسول صلى الله عليه وسلم، لو كان عنده مال لأعطاهم، ثم قال لهما: ( ألا أدلكما على شيء إذا فعلتموهما خير لكما من كذا وكذا من الخوادم، ما هو يا رسول الله؟ -قال: إذا أويتما إلى فراشكما تسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدانه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرانه أربعاً وثلاثين -هذه مائة- يكون هذا عوناً لكما على أمور دنياكم ودينكم )، هذا الورد يسمعه مؤمن ويتركه؟ أسألكم بالله، إلا ميت الضمير غافل لا قيمة له، ما نتركه أبداً إذا أويت إلى فراشك قبل أن تجامع زوجتك، قبل أن تنام، ابدأ به، أو فيه مشقة وصعوبة؟
سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله.. ثلاثاً وثلاثين بأصابعك، الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.. بأصابعك، الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. فتلك مائة، يكون والله عوناً لنا على أمور دنيانا.
هذا الذكر والله يقول: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]، ما هي الباقيات الصالحات؟ يبينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الموطأ، وهي: ( سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله )، فهذا ورد ما يترك أبداً، أليس هذا من أعظم الذكر؟ سماه الله: الباقيات الصالحات، فلا تفوت مؤمناً أبداً عرف هذا النداء وعرف هذا التسبيح.
رابعاً: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أما قال: ( أكثروا من الصلاة علي )؟
أبشركم بأن القضية سهلة، وضعت ليلة الجمعة الساعة إلى جنبي وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم والله ألف مرة وما هي إلا ربع ساعة بالدقيقة، الحادية عشرة إلا ربعاً أخذت أصلي على النبي، اللهم صل على محمد وآله وسلم تسليماً. والله ألف مرة، عددتها بالقرآن، الفاتحة ألف، البقرة ألف، آل عمران ألف، النساء ألف، المائدة ألف، الأنعام ألف، الأعراف ألف، الأنفال ألف، التوبة ألف، يونس ألف. حتى ما تعجز، لما تسبح المائة قل هذه الفاتحة، تدخل في البقرة، تدخل في آل عمران، تدخل في النساء، تدخل في المائدة، تدخل في الأنعام، تدخل في الأعراف، تدخل في الأنفال، تدخل في التوبة مع يونس ألف مرة.
وأنتم تعرفون أن من صلى على نبينا مرة صلى الله بها عشراً، فإذا صليت ألفاً كم سيصلي عليك الرب؟ عشرات الآلاف.
وخلاصة القول: أننا ذاكرون، ما نفرغ أبداً إلا ونذكر الله عز وجل، فإن شغلنا بأكل أو شرب أو حديث مع الإخوان كنا معذورين، أما السكوت فلا.. كيف ما تذكره؟! لاسيما سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ماذا يقول الرسول فيهما؟ ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم )، نتملق بها الجبار عز وجل، ومن هنا ما عندنا مجالس لهو ولا باطل ولا أغاني ولا مزامير ولا كذب ولا خرافات والله لا وجود لها؛ لأننا أمة ممتازة أحياء غير أموات مع ربنا في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، لأننا ما عندنا قدرة على أن نفهم ما يقول البعير أو تقول البقرة أو تسبح الشجرة، فقط ما نفقه هذا لعجزنا عن ذلك، لكننا مؤمنون أنه ما من شيء إلا يسبح الله بلسان الحال ولسان المقال، قلنا: لسان الحال؛ لأن الكفار ما يسبحون، قد تقول: حالهم يسبح الله عز وجل، وجود العبد يدل على وجود الرب سمع العبد وبصره يدل على سمع الله وبصره، وجود الفهم يدل على عظمة الله وجلاله، فهو يسبح الله عز وجل.
وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44]، والله ولولا حلمه لعاقب كل من ينساه ويتركه، كل من يعرض عن ذكره وتسبيحه إذ خلقه ليذكر أو لا؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فإذا أعرض العبد عن ذكر الله أو الجن أو كذا.. لولا حلم الله يدمره ولا يبقي له وجود، ولكنه الحليم والغفور لعباده المؤمنين إذا نسوا أو أعرضوا أو غفلوا ثم تابوا ورجعوا فالله غفور رحيم.
أولاً: حرمة القول على الله تعالى بالباطل، ونسبة النقص إليه تعالى كاتخاذه ولداً أو شريكاً ].
حرمة القول على الله بدون علم، اعلموا أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة ولا لكافر ولا لكافرة ولا لإنسان أن يقول على الله شيئاً بدون علم، لا نقول فعل الله أو قال الله أو وصف الله كذا.. إلا عن علم، أما أن نقول بدون علم نكون قد افترينا الكذب على الله والعياذ بالله تعالى، من أين عرفنا هذا؟
لما قالوا الملائكة بنات الله، اعتبر هذا شركاً وظلماً وكفراً، قالوا بدون علم، آلله أعلمهم أن الملائكة بناته؟ حاش وكلا وتعالى الله، فهم قالوا بدون علم، فلا يحل القول على الله بدون علم أبداً، إن علمت عن الله شيئاً قله ما علمت قل: الله أعلم.
[ ثانياً: مشروعية الاستدلال بالعقليات، على إحقاق الحق وإبطال الباطل ].
مشروعية الاستدلال بالعقل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، من أين أخذنا هذا؟ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42]، لو كان هناك آلهة لحاربوا الله عز وجل وقاتلوه، لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء:42]، أي: لذلوا وهانوا وعبدوا الله عز وجل كما فسرنا الآيتين، لكن ما في آلهة مع الله قط، لو كان ثمة آلهة يحاربون الله يدمرهم، أليس كذلك؟
لو كان هناك آلهة حقيقة، لكانوا يتقربون إلى الله ويتملقونه ويتزلفونه، ولكن لا وجود لهم. هذا دليل عقلي.
[ ثالثاً: فضيلة التسبيح، وهو قول: سبحان الله وبحمده، حتى إن من قالها مائة غفرت ذنوبه ولو كانت في الكثرة مثل زبد البحر ].
سبحان الله وبحمده مائة مرة بعد صلاة الصبح، أو بين الأذان والإقامة، أو بعد طلوع الشمس في المساء بين المغرب والعشاء بعد المغرب بين الأذان، والله في الطريق نقولها هكذا.. خشية أن تفوت، فأي شيء يساوي هذا التسبيح؟ يغفر الذنب ولو كان مثل زبد البحر، كيف نترك هذا؟ والدليل دائماً عندكم هذه الآية، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].
[ رابعاً: كل المخلوقات في العوالم كلها تسبح الله تعالى، أي: تنزهه عن الشريك والولد والنقص والعجز ومشابهة الحوادث؛ إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ].
التسبيح معناه: التنزيه لله عز وجل عن كل نقص.
[ خامساً: حلم الله يتجلى في عدم تعجيل عقوبة من عصاه، ولولا حلمه لعجل عقوبة مشركي مكة ].
كل من عصاه يدمره بكلمة (كن) يصبح حجراً يمسخه ما هو إنسان، ولولا حلمه جل وعلا لعجل عقوبة مشركي مكة وأكابر مجرميها، ولكن الله أمهلهم حتى تاب أكثرهم.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر