إسلام ويب

تفسير سورة الأنفال (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كانت معركة بدر أول معركة حقيقية بين أهل الإيمان وأهل الكفر، وقد كانت معركة على غير ميعاد بين الفريقين، فلم يخرج فيها مع رسول الله إلا نفر قليل ليس معهم كثير سلاح، ولكن الله عز وجل هيأ هذا الأمر ليستيقن الذين آمنوا أنهم إنما ينتصرون بنصر الله لهم وتأييده، حيث أمد المؤمنين بالملائكة يقاتلون معهم المشركين، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، وأمن عباده المؤمنين حتى إن أحدهم كان ينام فيسقط السيف من يده ثم يتناوله ويقاتل به من جديد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنفال المدنية المباركة الميمونة، ومع أحداث غزوة بدر، فلنصغ مستمعين لتلاوة هذه الآيات التي سندرسها إن شاء الله مرتلة مجودة أولاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [الأنفال:9-14].

    سبب غزوة بدر

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بالأمس في مثل هذا الوقت كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انتدب بعض أصحابه؛ ليخرجوا معه لاستقبال عير قريش؛ لعلهم يظفرون بها، وهم أحوج ما يكونون إلى الطعام في حصارهم في هذه المدينة، فخرجوا ولما وصلوا وادي ذفران بلغهم أن العير قد نجت، وأن قريشاً قد بعثت برجالها لقتالهم، فاستشار أصحابه، وكان آخر من تكلم المقداد بن عمرو، وقد قال: امض يا رسول الله! فلو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك. فساروا حتى انتهوا إلى وادي بدر، وبدر اسم ماء، وجاء المشركون فعسكروا في الطرف المقابل، كما قال تعالى: أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الأنفال:42].

    مناشدة الرسول صلى الله عليه وسلم لربه قبل غزوة بدر

    الآن هيا ننظر بعيون قلوبنا موقفاً وقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بداية المعركة، وكأننا والله حاضرون: روى مسلم في صحيحه - ولا كذب فيه- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر )، أي: في ذلك المكان الذي تجمعت فيه القوات. ( نظر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر ). فقد كان أصحابه بين يديه، والعدو أمامه، والرايات ترفرف، وجيش العدو مكون من ألف مقاتل من صناديد قريش وأبطالها. ( فاستقبل القبلة ) صلى الله عليه وسلم. ( ثم مد يديه إلى ربه ) سائلاً ضارعاً. ( فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ). وهذه حقيقة، فلو هلكت هذه العصابة لم يبق من يعبده؛ لأن الإسلام سينتهى. ( فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر الصديق - وزيره الأول- فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ [الأنفال:9] ). ... الآيات على التو والفور.

    إمداد الله للمؤمنين في بدر بالملائكة

    هيا نجلس مع هذه الآيات التي نزلت استجابة من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

    قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9]، أي: اذكر يا رسولنا! واذكروا أيها المؤمنون! إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال:9]، أي: تطلبون الغوث؛ لينقذكم من تلك الحرب، ولينصركم على أعدائكم وأنتم أقلية ثلاثمائة، والعدو ألف، أي: ثلاثة أضعاف، فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]. والذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رفع كفيه إلى الله، وكان يكرر الدعاء قائلاً: ( أنجز لي ربي! ما وعدتني ). فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]. وفي قراءة: (مُرْدَفين).

    وقوله: أَنِّي مُمِدُّكُمْ [الأنفال:9] أي: بنصرتكم والوقوف إلى جنبكم عوناً لكم. بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، أي: ملك بعد آخر، أتباعاً لبعضهم البعض. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم)

    قال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى [الأنفال:10]، أي: وهذا التبشير بإنزال ألفاً من الملائكة مردفين ما هو إلا بشرى لكم. وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [الأنفال:10]. فقد كانت القلوب ترتعش، وتكاد تطير من شدة الخوف والفزع، فهم حفنة أمام جيش، وليس معهم إلا فرس واحد، وهو فرس المقداد . فأنزل الله هذا العدد من الملائكة لتطمين القلوب وتسكينها، كما قال تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ [الأنفال:10] أيها المؤمنون! وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10]. فلو أراد الله أن ينصركم فلن يحول بينكم وبين نصره شيء، لا ملائكة ولا غير ملائكة، ولكن من رحمته بكم أنزل الملائكة عليكم، تلامس أرواحكم وقلوبكم، وقد تشاهدون أفرادها؛ لتسكن قلوبكم، وتطمئن نفوسكم، وتنشرح صدوركم، وتعلموا أنكم منصورون من قبل ربكم.

    وقوله: وَمَا النَّصْرُ [الأنفال:10] أي: دائماً وأبداً في كل معركة في الحياة إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10]. فهو عزيز أي: غالب لا يقهر، وغالب لا يحال بينه وبين مراده. ولو اجتمعت الخليقة كلها فلن تنفذ شيئاً ما أراده الله. وهو كذلك حكيم يضع كل شيء في موضعه. وأنتم أولياؤه عندما تقاتلون أعداءه تقتضي حكمته أن ينصركم؛ لأن أولئك المشركون به كافرون به، فحكمته تقتضي أن يهزمهم، وأن يكسر وجودهم؛ لأنه عزيز وحكيم. ولو كان عزيزاً غير حكيم فإنه يخبط ويخلط، وقد ينصر من لا يستحق النصر، أو يهزم من لا يستحق الهزيمة. ولو كان حكيماً ولا قوة له لما نفع أيضاً. ولكنه جمع بين الصفتين العظيمتين، أي: كونه تعالى عزيزاً غالباً لا يقهر، ولا يحال بينه وبين مراده، وكونه تعالى حكيماً يضع كل شيء في موضعه، ولذلك فهو يضع النصر حيث يستحق أهله النصر، ويضع الهزيمة حيث يستحق أهلها الهزيمة. فهذا التعليل عجيب، أي: قوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ...)

    اذكروا أيضاً: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11]، أي: يغشيكم الله عز وجل بالنعاس، أي: سلط عليهم النعاس وغطاهم به. وفائده النعاس: أن تزول عنهم الرعديدة والقشعريرة، والخوف والفزع، فالنوم من شأنه أن يسكن صاحبه، ولا أحد يقدر على هذا سوى الله، فالجيش ثلاثمائة ومع ذلك ينزل عليهم النعاس. ووالله لقد رءوا رءوسهم تخفق من النعاس. وهذا كلكم قد جربتموه في أنفسكم، فالذي يغلب عليه النعاس لا يفكر في شيء، حتى إنه لا يفكر في الموت ولا في الحياة.

    والذي غطاهم بالنعاس هو الله جل جلاله؛ من أجل الأمن، أي: حتى تطمئن وتسكن نفوسهم بهذا الأمن.

    إنزال الله المطر على المؤمنين في بدر والحكمة من ذلك

    قال تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [الأنفال:11]. هذه نعمة أخرى أيضاً، فقد كانت الأرض رملية، وإذا قاتلوا على أرض رملية فستغوص أرجلهم في الرمال، ولن يستطيعوا الكر ولا الفر أيضاً. وكانوا أيضاً قد انقطع الماء عنهم، ومنهم من أجنب بالاحتلام، فكرهوا أن يقاتلوا وهم على جنابة، فأنزل الله تعالى لهم ماء من السماء مطراً خاصاً، كما قال تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]. وهذه أربع فوائد لهذا الماء وهذا المطر، وهي:

    أولاً: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11]. لأنهم عدموا الماء، ولم يجدوا ما يغتسلون به.

    ثانياً: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]. لأن الأرض لما تصب عليها الماء تيبس، ولا تبقى رمالاً، بل تثبت لما ترش بالماء. إذا: من فوائد هذا المطر: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]. وأولاً: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11].

    ثالثاً: وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [الأنفال:11]. ورجز الشيطان هو تلك العبارات التي يلقيها في النفوس، مثل: لماذا نقاتل؟ وما الفائدة من هذا؟ وكيف نقاتل هذه الأمة؟ ونحن هلكنا؟ ومثل هذه الأمراض. فقد كانت عندهم وساوس وهواجس، وكان الذي يمليها وينفخها معروفاً، وهو معكم.

    فمن فائدة هذا المطر كما قال تعالى: وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [الأنفال:11]، أي: وسخه من الألفاظ التي يلقيها في أذهانكم، مثل أن يلقي في قلب أحدهم: ما الفائدة من هذا القتال؟ وفي آخر: كيف نقاتل؟ فهيا نصالحهم، أو هيا كذا. فقد كان يلقي هذا الرجز وهذا الوسخ، ويمحوه الله ويذهبه بهذا الماء.

    رابعاً: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ [الأنفال:11]، أي: يربط عليها برباط رباني؛ حتى لا يتزعزعوا ولا يتخلخلوا ولا يتضعضعوا، بل يثبتوا. وَيُثَبِّتَ بِهِ [الأنفال:11]، أي: بالمطر الأَقْدَامَ [الأنفال:11] في المعركة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ...)

    قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]. فقد أوحى الله إلى الملائكة وأعلمهم، والإيحاء: الإعلام الخفي السريع. فالله فوق عرشه وفوق سماواته ويوحي إلى ملائكته وهم في هذه العوالم: أَنِّي مَعَكُمْ الأنفال:12] يا ملائكة! فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]. وقد شوهد بعض الملائكة وهم مسومون، وما إن رآهم المؤمنون حتى ثبتت قلوبهم، واطمأنت نفوسهم، وعلموا أن النصر لهم، وأنه لا خوف عليهم، كما قال تعالى: وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11].

    فهذه هي النعمة الثانية، وهي: اذكروا إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12] في المعركة؛ حتى لا ينهزموا بالخوف والهلع والفزع.

    إلقاء الله الرعب في قلوب الكافرين

    قال تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12]. فقوله: سَأُلْقِي [الأنفال:12] الذي سيلقي هو الله. فهو ألقى الخوف في قلوب صناديد قريش، حى أصبحوا يرتعدون من شدة الهلع والخوف بعد أن ألقى الله هذا الرعب في نفوسهم. وقد أذهب الله أولاً الرعب من قلوب المؤمنين، ومسح ذلك الذي كان يلقيه الشيطان في قلوبهم، ثم سلطه على المشركين، كما قال تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12]. والرعب هو: الفزع والخوف والهلع.

    تعليم الله لعباده المؤمنين كيفية ضرب الكفار في القتال

    قال تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]. فبعد أن قال: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:12] الفزع والخوف قال: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ [الأنفال:12]. إما في المذابح، أي: أماكن الذبح، وإما في هامات الرأس. وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]. وهي الأصابع التي تحمل السيف أو الرمح، فاضربوا أيديهم؛ حتى تسقط الحراب أو السيوف من أيديهم. وكذلك اضربوا أرجلهم حتى ينهزموا ويقفوا، فلا يكرون ولا يفرون. والذي علمهم هذا هو الله. فهو الذي علمهم كيف يقتلون، فقال: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ...)

    قال تعالى: ذَلِكَ [الأنفال:13]، أي سبب هذا التدبير الإلهي بنصر أولياءه وهزيمة أعدائه ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13]، أي: ذلك بأن هؤلاء الذين سلطنا عليهم الملائكة وسلطنا عليهم أولياءنا ليكسروهم ويقتلوهم، ويضربوا أصابعهم ورءوسهم بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13].

    وحتى تعرف المشاقة أقول: الآن جدار هذا المسجد شق أمامنا، والجدار الثاني شق ثانٍ، وهما لم يتحدا ولم يتصلا. والمشركون بكفرهم وشركهم وحربهم للرسول والمؤمنين في شق، والله ورسوله والمؤمنون في شق، فالكفار قد شاقوا الله ورسوله، ولو قالوا : آمنا بالله والتحقوا بالرسول وأصحابه لما بقيت مشاقة، بل لتم الاتحاد والاتفاق.

    وهم لما شاقوا الله ورسوله، ورفضوا التوحيد، ورفضوا عبادة الله، ورفضوا الإيمان برسوله، ورفضوا الإيمان باليوم الآخر، ورفضوا الشرائع والقوانين الإلهية؛ ليبقوا على شركهم وباطلهم وكفرهم، فهناك ومن أجل ذلك سلط الله عليهم رسوله والمؤمنين. فقد فعلنا ذلك بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13]. واسمعوا! فهذه لم تنتهِ بانتهاء قريش فقط، بل إنها باقية إلى يوم القيامة، كما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13] ينزل الله به نكبته وعذابه وهوانه، كما قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:13].

    وأضرب لكم مثلاً حياً: لما تكونت دولة إسرائيل في فلسطين أرض القدس غضب العرب والمسلمون غضبة، ولم يكونوا مائة ألف، بل ألف ألف، وهزمهم الله، وإياك أن تفهم أن اليهود هزموهم! بل الله فقط؛ وذلك لأنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13].

    وقد شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13] لما عطلوا شريعته، وأعرضوا عن ذكره، ولما كونوا مذاهب ومبادئ لا صلة لها به، ولما أهانوا أولياء الله، ولما انتشر فيهم الشرك والباطل، ولم يوجد فيهم من يقول: هذا شرك أو منكر، ولما تركوا الصلاة، ومنعوا جباية الزكاة، وغير ذلك، وكل هذه مشاقة، فهم والله لقد شاقوا، ولهذا هزمهم اليهود، وجيش اليهود والله لا يساوي مليوناً، بل إنه أقل من مائة ألف، وكانت جيوش المسلمين تحيط بهم من الشرق والغرب والجنوب، ولكن الله أبى أن ينصر من شاقه وحاربه في دينه.

    سبب هزيمة الله للعرب أمام اليهود في حروبهم معهم

    هنا لطيفة بلِّغوها، وهي: لولا أن الله هزم العرب في فلسطين لانتهى الإسلام، والله لم يهزمهم في حرب واحدة، ولا اثنتين، ولا ثلاث، بل هزمهم في كل معركة، ولو كان الله قد نصر العرب في تلك الأيام، أيام الاشتراكية، عندما كنا نوالي من يواليها، ونعادي من يعاديها، وأيام الافتخار العروبة، فلو انتصر أولئك الذين كانوا في تلك الأيام لانتهى الإسلام، ولأصبحوا يركلون بأرجلهم كل من يتكلم ويقول: الإسلام، ولقالوا له: اسكت يا رجعي! يا متخلف! فكان هذا تدبير الله؛ ليبقى نوره، ولتبقى شريعته؛ حتى ينتفع بها من أراد أن ينفعه بها. فكانت هزيمتهم آية من آياته. فافهموا هذه اللطيفة. فوالله لو انتصر أؤلئك العرب -وقد عايشناهم وكنا معهم، فقد كانوا ينادون بغير الله- لأذلوا كل من يقول: لا إله إلا الله. ولكن حماية الله لدينه وحفاظاً عليه لينتفع به الخلق جيلاً بعد جيل دفع ذلك وهزمهم. وهذه آية من آيات الله عز وجل. وهم وإلى الآن مهزومون، ولا يستطيعون أن يقاتلوا اليهود، بل يفروا.

    ولن يستطيعوا حتى يعلنوا عن كلمة: لا إله إلا الله، أي: لا يعبد في الأرض إلا الله، ولا يطاع إلا رسول الله، ويجتمعوا في روضة رسول الله، ويبايعوا خليفة المسلمين، ويطبقوا شريعة الله في العالم الإسلامي تطبيقاً حرفياً في يوم واحد، ويومها تتزلزل الأرض باليهود، ووالله ليرحلون. ولكن هذا لم يتم إلى الآن، ويمكن أن يتم في يوم من الأيام، وهناك بشريات من النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: سيبلغ هذا الدين ما طلعت الشمس، أو بمعناه.

    وهنا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال:13]. ثم قال: وَمَنْ يُشَاقِقِ [الأنفال:13]. ومن من ألفاظ العموم، أي: في أي جيل .. في أي وقت .. في أي مكان. وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:13]، أي: يعاقبه أشد عقوبة؛ لأنه شديد العقاب، ولو كان عقابه خفيفاً وليس شديداً لتفلتت هذه الجماعات، ولكنه شديد العقاب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار)

    قال تعالى: ذَلِكُمْ [الأنفال:14] يا معشر الكفار من قريش! ويا من جئتم تقاتلون رسولنا وأولياءنا! ذلكم الذي أصابكم فَذُوقُوهُ [الأنفال:14]. إهانة لهم. ومع هذا: وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [الأنفال:14]. وليست هزيمة بدر فقط، بل وراء ذلك عذاب النار، وعذاب الخلد في الدار الآخرة.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    أسمعكم الآيات مرة ثانية، قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [الأنفال:9-11]. ويا أبنائي! رجز الشيطان موجود، فإذا وسوس لك العدو وأراد أن يحملك على باطل، أو أراد أن يُضعف عقيدتك فانفث عن يسارك وقل: أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله التامة. وهذه حصلت للرسول صلى الله عليه وسلم في الروضة، وهو يصلي نافلة أو فريضة، فجاء العدو وبيده شهاب من نار، يريد أن يحرق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عطل دعوته، ووقف في وجهها، فما إن رآه الرسول حتى قال: ( أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله التامة، ألعنك بلعنة الله التامة ). حتى انهار وانكسر. وقال الرسول: ( لولا أنني ذكرت قول أخينا سليمان: وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص:35] لكنت ربطته في سارية المسجد، يلعب عليه ولدان المدينة ).

    فاستعملوا هذه الأداة، فإذا وسوس لك الشيطان بخاطر، كأن يجيء يمنعك من التوكل على الله، أو يريد أن ينفخ فيك روح الهزيمة، أو يخوفك من الفقر والجوع؛ ليحملك على الربا أو الزنا أو كذا فلما تشعر بهذا الرجز امسحه، واغسله بقول: أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك، أعوذ بالله منك، ألعنك بلعنة الله التامة. فإنه والله ليفارقنك، ولا يبقى معك.

    ثم قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]. وهذه هي الاستجابة. والذي دعا الله وسأله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [الأنفال:10-14]. وهكذا يتدارس القرآن، لا أن نقرأه على الموتى، بل نتلوا كتاب الله ونتدارسه بيننا؛ لتتجلى لنا أنوار الله في كتابه، فنهتدي بها.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    الآن مع هداية الآيات وهي خمس هدايات، ولكل آية هداية. والآية معناها العلامة، أي: علامة على شيء تهدي إليه. وهذا هو شأن القرآن، فهو ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل واحدة منها تدل دلالة قطعية على أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم والله العظيم.

    وإن استغربت هذا نقول: هذه الآية الذي أنزلها وجاء بها وكونها هو الله. إذاً: فالله موجود، وهذا كلامه، وهو يحمل أنوار الهداية والعلم والمعرفة. إذاً: فالله لا إله إلا هو. ومن نزلت عليه هو رسول، ولن تنزل أو توحى إلى من ليس برسول. إذاً: كل آية تدل دلالة منطقية على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    قال: [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: مشروعية الاستغاثة بالله تعالى، وهي عبادة، فلا يصح أن يستغاث بغير الله تعالى ] بل أن تستغيث: يا الله! يا رحمن! يا رحيم! يا رب! فرج كربنا، يا رب! اقض حوائجنا، يا رب! اكفنا الفتنة التي في ديارنا. هذه هي الاستغاثة المشروعة. ولا يجوز أن تقول يا سيدي عبد القادر ! يا مولاي إدريس ! يا رسول الله! يا فاطمة ! يا حسين ! وغير ذلك. فهذا والله لا يجوز، وهو والله لكفر وشرك بالله، ولن ينجو صاحبه من عذاب الله.

    وكان في الروضة الشريفة جماعة من المؤمنين أيام الهجرة الأولى خائفين من بعض المنافقين وبعض اليهود فقالوا: هيا نشتكي إلى رسول الله، وهيا نستغيث برسول الله، فسمع كلامهم وهو في الحجرة، ولم تكن الحجرة من حديد وإسمنت، بل من خشب، فسمعهم، فقال: ( إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9] ).

    [ ثانياً: تقرير عقيدة أن الملائكة عباد الله، يسخرهم في فعل ما يشاء، وقد سخرهم للقتال مع المؤمنين، فقاتلوا ونصروا وثبتوا، وذلك بأمر الله تعالى لهم بذلك ] وقد أخذنا هذه الهداية من قوله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12].

    [ ثالثاً: تعداد نعم الله تعالى على المؤمنين في غزوة بدر، وهي كثيرة ] وهي في هذه الآيات الثلاث: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ [الأنفال:9]، إِذْ يُوحِي رَبُّكَ [الأنفال:12]، إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ [الأنفال:11].

    [ رابعاً: مشاقة الله ورسوله كفر ] فالذي يريد أن يقف في الشق الثاني، ولا يؤمن بالله ولا بلقائه، ولا يأخذ بشرعه ولا بكتابه فهو مشاق، والذين يشاقون المؤمنين، ويكونون جماعة أو حزباً، ويبتعدون عن المؤمنين، ويعلنون الحرب عليهم فإنهم والله مشاقون. وهذه هي المشاقة؛ إذ يجب أن يكون المؤمنون جماعة واحدة في القرية، وليس بينهم خلاف، بل كلهم مسلمون، يعبدون الله بما شرع. فلا تقل: أنا مالكي، ولا أنا كذا ولا كذا، بل علينا أن نعبد الله بما شرع في بيت الله، ونتعاون على الخير، ونتعاون على إبعاد الشر، وتطهير القرية منه. وهكذا في المدن، وهكذا في الجبال والسهول. فالمسلمون أمرهم واحد، ومن جاء ليشقهم فالعنوه؛ فإنه ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا فرقة ولا خلاف بيننا أبداً. فمشاقة الله ورسوله كفر [ يستوجب صاحبها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ] وهو أشد وأمر.

    [ خامساً: تعليم الله تعالى عباده كيف يقاتلون، ويضربون أعداءهم. وهذا شرف كبير للمؤمنين ] فالله علمهم كيف يضربون، وأين يضربون، فعلمهم أن يضربوا الأعناق والأيدي والأرجل؛ لينهزم العدو. وهذا تعليم الله.

    والله أكبر، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767950295