وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
الحمد لله على إفضاله وإنعامه.
وها نحن مع سورة الأعراف المكية، والتي تعالج أصول الملة الإسلامية: التوحيد، والنبوة المحمدية، والبعث والجزاء، والتشريع والتقنين اللذان هما من حق الله عز وجل، وليس من حق أحد سواه.
وها نحن مع هذه الآيات الثلاث فلنصغي إلى تلاوتها مجودة مرتلة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:29-31].
قُلْ أخبر قومك مشركي العرب الجاحدين والمعاندين، والعادلين بربهم، والمشرعين للباطل، قل: أمرني ربي بالقسط، والقسط: هو الاعتدال والوسطية، فأمرني أن أكون من المقسطين دائماً في القول والعمل والعبادة، وفي كل الحركات، فلا حيف وجور، ولا ضياع وإهمال، ولكن الاعتدال، فهذا مبدأ رسول الله الذي أمره الله أن يعيش عليه، ونحن أتباعه مأمورون بأمره بألا نقول إلا الحق، ولا نعمل إلا ما كان حق، ولا نعتقد ولا نعبد إلا بحق، ولا نفارق أبداً العدل إلى الحيف والظلم، أو إلى الإفراط والتفريط، ولكن القسط فقط.
قل: أمرني ربي بالقسط الذي هو العدل، فهذا هو نظام حياة المؤمنين، فلا حيف ولا جور، ولا إهمال ولا تضييع، ولكن العدل.
ومن القسط أن يقول الحق، وأن يعبد رب الحق، ولا يلتفت إلى أوثان المشركين وأصنامهم، ولا إلى أباطيلهم وترهاتهم في التحليل والتحريم بغير ما أمر الله، ولا نهى الله عز وجل.
معشر المستمعين والمستمعات! ما منا إلا وهو مأمور بأن يعيش على القسط الذي هو العدل، فإذا قال، أو حكم، أو أعطى، أو منع، فلا يخرج عن دائرة الاعتدال.
أولاً: أمرني بالقسط، وأمركم أنتم أن تقيموا وجوهكم عند كل مسجد، فإذا قمنا للصلاة لنسجد لله ونعبده نتجه إلى بيته التي هي الكعبة المشرفة.
ثانياً: لا نلتفت بقلوبنا إلى غير الله عز وجل، لا خائفين راهبين، ولا طامعين راغبين، فالوجه يكون بالقلب والوجه.
فينبغي أن نقيم وجوهنا عند كل مسجد يعبد فيه الله عز وجل، وفي هذا وجوب استقبال الكعبة حيثما كنت في الشرق أو الغرب، فحيثما كنت فوجه وجهك إلى الكعبة التي هي القبلة، هذا هو الوجه الظاهر، أما الوجه الباطن فقلبك لا يلتفت إلى غير ربك عز وجل، فلا ترغب وتطمع في غير الله، ولا تخف ولا ترهب غير الله؛ إذ هو الملك الحق، والذي بيده كل شيء، وإليه المصير، أما غيره تعالى من الملائكة، أو الرسل، أو الصالحين، أو الأقوياء، أو الشياطين، أو كائن من كان فلا يملكون لك ضراً ولا نفعاً؛ إذ الكل عبد لله مسخر لله عز وجل يسخره كيف شاء.
وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:29].
يفهم من الآية الأمر باستقبال الكعبة، فلا تصح صلاة امرئ وهو قادر على أن يستقبل الكعبة ويستقبل غيرها، لا بيت المقدس، ولا الحجرة النبوية، اللهم إلا إذا كان ظل وما عرف الطريق، فيجتهد في استقبال الكعبة ويستقبل، فإن أصابها هنيئاً له، وإن أخطأ فلا شيء عليه، أو يكون مقيداً مكتوفاً بالحبال لا يستطيع أن يتزحزح يميناً ولا شمالاً، فهو معذور أيضاً يصلي حيث اتجه، هذا في الفرائض.
أما النوافل فإذا كنت على سيارتك أو طائرتك أو دابتك فاستقبل وكبر، وأنت ناوٍ عبادة الله عز وجل، ولا يضرك حيث اتجهت دابتك أو سيارتك؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي النافلة وهو على دابته، وكذلك ابن عمر وغيره من الصالحين، ولا حرج في هذا، أما الفريضة فيجب أن ننزل من على الطائرة أو السيارة لنصلي الفريضة متجهين إلى القبلة المشرفة.
هناك عذر مقبول، وهو أن أحدنا على متن الطائرة، ويخاف إذا ما صلى الظهر والعصر أن تغرب الشمس عليه وهو في الطائرة، ففي هذه الحالة يصلي على الطائرة الفريضة ولا حرج، وكيفما أمكنه صلى؛ خشية أن تغرب الشمس ولم يصل الظهرين، أي: الظهر والعصر، أما إذا كان يعلم من طريق ربان الطائرة أن الطائرة ستنزل قبل غروب الشمس بعشر دقائق أو بربع ساعة، فإنه لا يحل له أن يصلي الفريضة إلا على الأرض، وكذلك بالنسبة إلى المغرب والعشاء، فإذا علم يقيناً أنه لا ينزل إلا بعد طلوع الفجر، فإنه يصلهما على الطائرة كيفما أمكن، وأقرب الأوقات لهذه الصبح، ففي الغالب أن الرحلة لا تدوم أكثر من ساعة ونصف، وقد تطلع الشمس وهو ما صلى الصبح، ففي هذه الحال يصلي الصبح حيثما اتجهت الطائرة، وإن أمكن أن يسأل عن اتجاه القبلة فذلك أفضل، أما النوافل فصلها على الطائرة وعلى الدابة حيث اتجهت.
إذاً: فاستقبال القبلة شرط في صحة الصلاة؛ لقول الله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144] أي: اتجاه المسجد الحرام. وقد رخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم في النافلة؛ إذ صلى على راحلته وصلى أصحابه من بعده على رواحلهم ودوابهم، فقط من باب أن الطائرة قد لا توافق ما نريد فقلنا: إذا كنت موقناً أن الطائرة تنزل قبل خروج الوقت فلا تصل الفريضة حتى تنزل وتصلها على الأرض، وإذا كنت تعلم أن الطائرة لا تقف إلا بعد غروب الشمس فصل على ظهر الطائرة حيثما اتجهت إذا لم تعرف القبلة صل الظهر والعصر، وأيضاً المغرب والعشاء إذا خاف طلوع الفجر عليهما صلاهما، أيضاً الصبح إذا خاف أن تطلع الشمس ولم تنزل الطائرة بعد فيصلي الصبح على الطائرة، فيستقبل القبلة ولو كان جالساً وكيفما استطاع أن يصلي ولا يتركها حتى تنزل الطائرة وتطلع الشمس.
العبادة هي الدعاء، وقد أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ( الدعاء هو العبادة )، فلهذا من دعاء غير الله فكأنما انتحر وقتل نفسه، ومن سأل غير الله حاجة فقد هلك؛ لأنه محا العبادة محواً كاملاً.
فـ ( الدعاء هو العبادة )، وقد بينت للصالحين سر هذه الكلمة النبوية: ( الدعاء هو العبادة )؛ لأن الداعي عندما يرفع كفيه إلى السماء علم يقيناً أن ربه فوق سماواته وفوق عرشه فهو يرفع كفيه إليه معلناً عن فقره وحاجته متكففاً، وفي نفس الوقت لو كان يعلم أن هناك من يعطيه سؤله فيقضي حاجته لقال هكذا عن يمينه أو عن شماله، عرف أنه لا يقضي حاجته إلا الله، ولا يحقق سؤاله ولا يعطيه مراده إلا هو؛ فلهذا لم يعترف أبداً بكائن من كان أنه يعطي أو ينفع أو يضر حتى يقبل عليه بقلبه ووجهه، ويرفع كفيه إليه، فلهذا من دعا غير الله، أي: من سأل حاجته من غير الله فقد أشرك والعياذ بالله تعالى، والشرك من مضاره أنه يحبط العمل، فلا يبقي لصاحب الدعاء لغير الله عمل قط، فصلاته، وصيامه، وحجه، واعتماره، ورباطه، وجهاده كله يمحى.
ولذلك فلنقرأ قول الله تعالى وهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، فيا ويل للذين يدعون الأولياء والصالحين ويتوسلون بدعائهم إلى الله، ويدعون النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته كـفاطمة والحسين ، ومن إلى ذلك، يا ويلهم فقد حبط عملهم وهم لا يشعرون، فلا يحل لمؤمن أن يسأل غير الله؛ إذ لا يقدر على قضاء حاجته إلا الله، فإذا لم يشأ الله شيئاً والله ما كان.
إذاً: هذه الآية فيما نزلت؟ وَادْعُوهُ [الأعراف:29] يا عباد الله، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف:29]، ويدخل في هذا كل عبادة يجب ألا نريد بها إلا الله عز وجل، من الصلاة .. إلى الصيام .. إلى الرباط .. إلى الجهاد .. إلى الصدقات .. إلى قول المعروف والنهي عن المنكر، فلا بد وأن يكون وجهك وقلبك متجه نحو الله عز وجل، وإلا أشركت المخلوقين بعبادة الخالق عز وجل، وهذا هو الخسران المبين.
وَادْعُوهُ [الأعراف:29] فالدعاء هو العبادة، فلو قال شخص: أنا لست في حاجة إلى الدعاء، فالمال متوفر، والأمن حاصل، وأنا في خير فلا أدع الله، فقد كفر، فمن يستغني عن الله، وأنفاسنا التي نرددها لولا الله لانتهت وتوقفت؟ كيف نستغني عن دعاء الله، والدعاء مخ العبادة؟ ولكن لا ندع غير الله في أي حال من الأحوال، فنحن نسمع الجهال وهم يدعون رسول الله وفاطمة والحسين وعبد القادر وفلان وفلان، فكل هذا والله ظلم وباطل وشرك بالله، والعياذ بالله تعالى.
والذين قد نرحمهم هم الجهلة، ولكن لماذا لا يسألون؟ ولماذا لا يتعلمون؟ ولماذا لا يقرعون أبواب العلماء ويسألونهم؟ فقد كان عبد الله بن عباس وهو غلام يأتي إلى باب أبي بكر الصديق أو إلى باب عمر يريد أن يسأل فيغلبه النوم لصغر سنه وحداثته، فتأتي الرياح فتذروا على وجهه التراب، ويستحي أن يقرع الباب حتى يخرج الصديق أو عمر أو فلان أو فلان.
أما نحن فنبحث عن دنيانا الليل والنهار، وعن الأرباح وعن الخسران في التجارة وغيرها، ولا نسأل عن ديننا أبداً، وقل من يسأل في صدق أيضاً، فقد يسأل وهو لا يريد أن يعمل مجرد سؤال فقط.
هذه مظاهر الضعف والهبوط في أمتنا بعد أن حولها العدو إلى هذا الضياع، وأنه لا يجوز تفسير القرآن، ولا حضور مجالس التفسير أبداً، فقالوا: إن تفسير القرآن صوابه خطأ وخطأه كفر، فتفسير القرآن إن أصبت وأنت تفسر فأنت مخطئ، وإن أخطأت في التفسير فأنت كافر والعياذ بالله، فهل بقي من يقول: قال الله؟ من يقوى على ذلك، فالذي يقول: قال الله. قالوا له: أنت تفسر كلام الله. ومن ثم ماذا نصنع بالقرآن؟ وماذا نعمل به؟ قالوا: حولوه إلى الموتى، فأسألكم بالله أما يقرأ القرآن على الموتى من إندونيسيا إلى بريطانيا؟ فهل القرآن نزل ليقرأ على الموتى، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70] فالحي مقابل الميت لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70] أي: ليس بميت.
ما زلت أقول: إن الثالوث الأسود عدو الإسلام المكون من المجوسية واليهودية والنصرانية، هم الذين احتالوا على أمة الإسلام وصرفوها عن القرآن، أحببنا أم كرهنا.
فهيا نعد إلى الطريق من جديد فنجتمع في بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا كل ليلة طول الحياة، ليلة قال الله وليلة قال رسوله إن كنا صادقين في أن نصل إلى مستوى المؤمنين الصالحين، فنحن مشغولون بالفيديو والتلفاز والراديو والأغاني ونكمل ونتعب بالأوهام والخيالات.
وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29] هذه الجملة فيها إيجاز واختصار عجيب.
إذاً سيعيدنا رغم أنوفنا، عجيب هذا القرآن فقط: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]، فمن يجادل؟ ومن يحاج أو يتكلم؟ وهذه أمام رجالات قريش، ودعاة الإلحاد، ومنكري البعث والجزاء، والعياذ بالله.
كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]، والله الذي لا إله غيره.
(فريقاً) الفريق: هو قطعة من الموجودين، وهم قسمان: فريق هداهم، وفريق حقت عليهم الضلالة فأضلهم، وهنا نعلم أن الهداية بيد الله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الأعراف:178] ولا يملكها إلا هو، فعلينا إن كنا صادقين أن نلزم باب الله ليل ونهار نسأله الهداية؛ إذ هو الذي يملكها، ولولا هدايته لنا والله ما اهتدينا ولا صمنا ولا صلينا.
فَرِيقًا هَدَى [الأعراف:30] هداهم لأنهم قرعوا بابه، وطلبوا هدايته، ومشوا وراء ظل أوليائه ورسله، يطلبون الهداية فهداهم.
وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:30]؛ لأنهم أعرضوا، وكذبوا، وكفروا، وحاربوا الهدى والمهتدين، فحق عليهم الضلالة فأضلهم.
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:30] والعلة: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30].
فهؤلاء الضلال الذين تعمدوا طلب الضلال ومشوا وراءه، واتخذوا الشياطين أولياء لهم، وظنوا أنهم مهتدون، هذا هو الفريق الذي أضله الله عز وجل حسب حكمته، وعلمه، وقدرته.
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30] فالآن ومنذ ألف سنة من عهد القرون الثلاثة والضلال من هذه الأمة يحسبون أنهم مهتدون، فلا تجد ضالاً في هذه الأمة لا يحسب أنه مهتدي؛ إذ لو علم أنه ضال وأيقن والله لطلب الهداية، ولكن حسبه ظنه ويقينه أنه هو المهتدي.
على سبيل المثال هذه الطوائف التي خرجت عن أهل السنة والجماعة من الرافضة .. إلى الإباضية .. إلى الزيدية .. إلى الخوارج، هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون، وأصحاب البدع والخرافات والضلالات التي جرها صوت التصوف الباطل، فأصبحوا يعبدون الأولياء ويتقربون إليهم، ويسوقون إليهم قطعان الغنم والبقر، ويحلفون بهم، ويعكفون على قبورهم من المشرق إلى الغرب، فهؤلاء لو عرفوا أنهم ضلال لتابوا ورجعوا.
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30].
هكذا يقول تعالى: فَرِيقًا هَدَى [الأعراف:30].
فالفريق الذي هداهم الله هم الذين قرعوا بابه وطلبوا هدايته، فما إن لاح لهم نور الهداية في الشرق أو الغرب إلا نزلوا عليه وطلبوه، ليس لأنهم معرضون ومتكبرون ويهديهم، فوالله ما كان هذا.
فالله يهدي من يشاء، والذي يشاء الله هدايتهم هم الذين طلبوها، ورغبوا فيها، واتبعوا سبلها، ونهجوها نهجها، والذين أضلهم الله حسب سنته هم المعرضون والمتكبرون والمعاندون والجاهلون.
أما أن نفهم أن الله العليم الحكيم يضل زيداً ويهدي عمراً بلا سبب، فلا والله ما كان هذا، فلو كان هذا فمن أول مرة كان سيخلقنا للجنة كلنا أبيضنا وأسودنا، ولا كلفنا ولا أمرنا، أو خلقنا للنار، أو لم يخلقنا أساساً، فهو تعالى يدخل في رحمته من يشاء، أي: ذلك الذي طلب الرحمة ورغب فيها وسأل الله إياها، ويضل من يشاء أي: ذلك الذي يرفض البينات والهدى، ويعرض عنها، ويتكبر، ويؤثر هواه وشهوته على رضا ربه فيضله الله.
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:30] لماذا؟ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأعراف:30]، وهل يعرفون الشياطين حتى يتخذونهم أولياء؟ نعم الشياطين من الإنس يعرفونهم، لكنهم لا يتصورون أنهم شياطين، فيقولون عنهم: ربانيون وأولياء، ويتوسلون بهم ويعبدونهم، لكن الشيطان هو الذي يلقي تلك المسحة عليهم؛ حتى يفهموا هذا الفهم، فاتخذوهم من دون الله، وأصبح الشياطين أولياء لهم.
فالله يأمر بالإيمان والطاعة، فمن أجابه والاه، والشياطين تأمر بالكفر والمعصية، فمن أجابهم والوه، وأصبحوا أولياءه.
إِنَّهُمُ [الأعراف:30]، هذا التعليل، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]، بينت لكم من قبل أنه لا يوجد في الملايين من هو ضال ويحسب أنه هالك إلا نادراً، يمكن في العشرين مليون واحد من أجل المادة أو الشهوة أو كذا، فيعرف أنه ضال ويحافظ على تلك المادة، وهذا في النادر.
فالله عز وجل ينادينا وهو ولينا ومولانا لنقبل عليه، فنقول: يا رب مرنا ونحن سنأتمر، وانهنا ونحن سننته، فإنا أولياؤك.
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].
سبق أن علمتم أن المشركين قبيل البعثة النبوية وأثناءها كانوا لا يطوفون بالبيت إلا عراة؛ بحجة: أن الثوب الذي عصى فيه الله لا يصح أن يطوف به، سبحان الله! فهم يعرفون المعصية والطاعة، اللهم إلا ثوب الأحمسي، والأحمسي هو القرشي، فهذا إذا أعارك ثوبه، أو استأجرت منه ثوبه، وطفت به لا بأس، ومن ثم فمن قبل دخول الحرم ضعوا ثيابكم، وقبل دخول المسجد من جبل أبي قبيس ضعوا الثياب هناك وادخلوه رأساً، وطوفوا يغفر لكم، ومن حصل أو ظفر بثوب أحمسي لا بأس؛ لأن هذا الأحمسي ولي الله، وهو حامي بيت الله، فكانت المرأة تطوف بالبيت، فإن وجدت ما تغطي به فرجها، وإلا تطوف عريانة، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله، أي: اليوم يبدو بعض فرجها أو كله، وما بدا منه فلا تحله، وهي تطوف وتبكي.
فناداهم الله تبارك وتعالى بقوله: يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:31] لم يقل: يا بني هاشم، ولا يا بني تميم، ولا ولا، ليكون الحكم عاماً إلى يوم القيامة؛ ولهذا ستر العورة واجب من الواجبات في الصلاة وخارج الصلاة، ولا يحل لمؤمن أبداً أن يمشي وهو مكشوف السوأتين.
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] لأن العلة هو المسجد الحرام، لكن الآية عامة، فلا تصل -يا عبد الله- إلا وأنت مستور العورة، ومن صلى مكشوف العورة فصلاته باطلة، إلا إذا سلب ثوبه وما وجد ثوب آخر فيصلي وهو قاعد، وإذا كانوا جماعة فدخلوا البحر يستحمون وجاء لص فأخذ ثيابهم، فكيف يصلون؟ قال الفقهاء: يصفون وإمامهم وسطهم، فلا يصلي أمامهم حتى لا يشاهدون سوأته؛ لأن عورته مكشوفة، فهذا من باب الفرض، وقد يقع في التاريخ.
قال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ [الأعراف:31] والمراد من الزينة ما نتزين به من الثياب وما فوقها، وأخبرنا تعالى من قبل أنه أنزل علينا اللباس العادي الذي نستر به عوراتنا، والريش: وهو اللباس الحسن الجميل المزين كريش الطائر في جماله.
إذاً: هنا قال: خُذُوا زِينَتَكُمْ [الأعراف:31].
أي: ما تتزينون به عند كل مسجد، والآية تدل أيضاً على أن من أتى المسجد فعليه أن يأتي وثياب نظيفة. فهذا بيت الله عز وجل، فإن أمكن أن يلبس ثياباً ليس فيها أوساخ كان أفضل، لكن المقصود هنا أن الصلاة لا بد وأن تكون فيها مستور العورة.
وعورة الرجل في الصلاة من السرة إلى الركبة، وهي قسمان: عورة مغلظة، وعورة مخففة، فالمغلظة: هي السوأتان الدبر والقبل والمخففة هي الفخذين، ومن السرة إلى منابت الشعر، فعلى كل مؤمن أن يصلي مستور العورة: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، والمرأة عورتها كلها عورة، لا تصل مكشوفة لا الساق ولا الفخذ ولا الذراع ولا الصدر ولا العنق، لا يبدو منها إلا وجهها وكفاها، المؤمنة إذا قامت بين يدي الله تصلي له ذاكرة شاكرة داعية مكبرة مهللة يجب أن تكون على أكمل حالاتها وهو الستر الكامل من قمة رأسها إلى أخمص قدمها، اللهم إلا وجهها وكفاها؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم باستثناء الوجه والكفين.
صحيح نعوذ بالله أن نكون من المسرفين، اعلموا والله أن الله لا يحب المسرفين، يا عباد الله ما الإسراف؟ هل نحن مسرفون أو غير مسرفين؟ هذا الموضوع يحتاج إلى يوم كامل، أما سمعتم أن الله لا يحب المسرفين وإلا لا؟ ومن لا يحبه الله كيف يسعد؟ كيف ينزله بجواره؟ كيف ينزل إليه ملائكة النور يأخذون نفسه وهو مبغوض لله متروك؟ الإسراف، وسبحان الله! وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، أذن الله تعالى لنا في الأكل منها الطيب، سواء كان لحماً أو كان حبوباً أو كان ثماراً أو فاكهة، على شرط أن يكون هذا من الطيب، إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، والذي يأكل مال الناس ويسرق ويختطف ما رزقه الله ذلك، كل من الطيب الحلال الذي رزقك الله إياه.
إذاً: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [الأعراف:31].
ماذا نشرب؟ كل حلال: الماء العذب البارد العصير، إلا ما كان فيه مادة التخدير أو الإسكار فهذا محرم، ولا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يشرب شراباً فيه مادة التخدير أو التسكير، كل مسكر حرام، حتى ولو كان لبناً.
إذاً: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31].
أي: في الأكل وفي الشرب، هل نحن ملتزمين بهذا المبدأ؟
لطيفة مذكورة في الكتاب: أحد الخلفاء العباسيين عنده طبيب نصراني، فالطبيب النصراني تبجح وقال للخليفة أو لرجاله: كتابكم ما فيه طب، مع أن الدنيا تتحمس تريد الصحة للبدن وللروح، القرآن ما فيه طب، فنطق أحد العلماء وقال: بلى، الطب كله في بعض آية، القرآن فيه كم آية؟ أربعة آلاف وأربعمائة ومائتين، أو ستة آلاف، في بعض الآية فقط الطب بكامله وهي قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31].
فكل الأمراض والأسقام تأتي غالباً من طريق الإسراف بالأكل والشرب، والحبيب يقول: ( ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، فإن كان ولا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس )، ( ما ملأ ابن آدم وعاء ) بالماء أو الطعام أو كذا، شراً من ملء بطنه، هذا لا خلاف فيه.
الإسراف معناه: الإكثار مجاوزة الحد في الأكل.. في الشرب.. في اللباس.. في السكن، هذا الموضوع نرجئه إلى غد إن شاء الله علنا نصبح ممن يحبهم الله عز وجل.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر