وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، وها نحن مع قصة صالح مع قومه ثمود، فهيا نستمع إلى الآيات الواردة فيها أولاً، ثم نشرع في تفسيرها وبيان مراد الله تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:73-76].
فقول ربنا حكاية عن صالح أو عن هود أو عن نوح : اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ، ترجمته: لا إله إلا الله، وإن شئت قل: ما معنى لا إله إلا الله؟ معناها: أن لا نعبد إلا الله، ما لنا من إله غيره، والله! ما للبشرية إله سوى الله، والله لا يوجد للبشرية منذ أن كانت إلى يوم القيامة إله حق يستحق أن تعبده إلا الله، إذ لا يوجد في العالم من خالق مدبر للكون إلا الله، والخليقة كلها هو الذي يتصرف فيها يحيي ويميت، يعطي ويمنع، يعز ويذل، يرفع ويضع وحده، هذا الذي يجب أن يحب، هذا الذي يجب أن يتقرب إليه، هذا الذي يجب أن يعبد، هذا الذي يجب أن يسأل عنه من أجل أن يعرف، أما أهواء وشياطين تتمثل في أصنام وأحجار وشهوات وتؤله مع الله وتعبد فكلها باطلة، فهل الذي خلق ورزق تترك عبادته، والذي لم يخلق ولم يرزق يعبد؟ أي ظلم أفحش من هذا! ولكن الشيطان عدو الإنسان هو الذي يزين للبشرية انصرافها عن ربها ويحسن لها عبادتها من أجل أن تشقى الشقاء الأبدي معه في عالم الشقاء.
وقد قلت غير ما مرة: فكرة الملاحدة العلمانيين هذه أنشأها اليهود من عهد قريب، أقل من مائتي سنة، والبشرية كانت تؤمن بأن لها خالقاً رازقاً مدبراً هو الله، لكن هؤلاء نفخوا روح الإلحاد حتى ينكر الإنسان خالقه ويصبح كالبهيمة، بل كالحجر، مع أن نسيان وجود الله لا يعقل أبداً ولا يقبل، إذ مستحيل أن يوجد موجود بدون موجد، كيف يوجد هذا العالم بدون موجد؟ ونحن نبحث عن أدنى شيء فلا نجده موجوداً بدون موجد، خاتم في أصبعك أتستطيع أن تقول: هذا الخاتم وجد هكذا؟ كاس مملوء من ماء على طاولة أتستطيع أن تقول: هذا وجد هكذا؟ ما تقدر أبداً، أو أنك مجنون، ثم تنظر إلى الكون كله وتقول: هذا لا موجد له! فكرة يهودية من أجل إفساد العقول البشرية حتى يتمكنوا من الركوب عليهم وسيادتهم.
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73]، أي: ما لكم من معبود يستحق أن يعبد غير الله عز وجل، إذ كانوا يعبدون أصناماً وتماثيل يستشفعون بها إلى الله ويتوسلون.
فثمود لفظ لعله مأخوذ من الثمد الذي هو قلة الماء، وهي قبيلة، هذه القبيلة ديارها ما بين الشام والحجاز.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا [الشمس:11-12]، هذا الشقي الذي قتل الناقة، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كـعقبة بن أبي معيط ، واسمه غدار بن سالف ، غدار من الغدر، وكيف عرف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والزمان طويل؟ عرفه بالوحي، فهو يشبه عقبة بن أبي معيط لعنه الله الذي قتل في بدر، فـغدار بن سالف هو الذي عقر الناقة.
إذاً: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ [الشمس:11-13] من هذا الرسول؟ صالح عليه السلام، قال: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13] احذروها واحذروا الماء الذي تشربه.
والمراد من الماء -معاشر المستمعين والمستمعات- أن هناك مياهاً وآباراً ملحة لا تصلح للشرب يسقون بها الزروع والنخيل والأشجار، لكن العين التي يشربونها حلوة عذبة بئر واحدة، فاشترط عليهم الله عز وجل بواسطة عبده ورسوله أن هذا الماء يبقى يوماً للناقة وحدها تشربه واليوم الثاني أهل المدينة يشربونه، يوم لها ويوم لهم.
ومن عجائب القدرة الإلهية والمعجزات أن الماء الذي تشربه ذلك اليوم وحدها يتحول إلى لبن في ضرعها، فكل امرأة كل خادم كل عبد يأتي بإنائه بقعبه ويحلب ما شاء أن يحلب، أية معجزة أكثر من هذا؟ الأولى كون ناقة تخرج من جبل، والثانية كون ناقة تشرب ماء يوم كامل وحدها ثم يتحول إلى لبن خالص فيأتي أهل البلاد يحلبون ويشربون.
ومع هذا فـغدار بن سالف عليه لعائن الله زين له الشيطان، وكان له عصابة من المجرمين قالوا: هيا نجرب قتل الناقة فما الذي سيحدث؟ ومن العجيب أنه قبل أن يقدم على قتلها كان يأتي الناس في مجالسهم وفي بيوتهم ويعلمهم ويأخذ موافقتهم على قتلها، فلما أخذ إذن عامة أهل البلاد عقرها وقتلها.
فلما قتلوا الناقة ماذا فعل الله بهم؟ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس:14-15]، فقوله تعالى: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ [الشمس:14] لا بظلم من الله حاشاه، لا يظلم ربنا أحداً من عباده، فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، الظلم هو السبب في الهلاك والدمار اليوم وإلى يوم القيامة.
ما الظلم؟ الشرك والكفر واستبدال الحق بالباطل واستبدال العدل بالسوء والجور؛ إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، بدل أن يحمدوا الله ويؤمنوا برسوله ويعبدوا الله لما تجلت لهم الآية عقروها وذبحوها وقتلوها، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ [الشمس:14] لا بظلم منه، تعالى الله أن يظلم، وما هي إلا ثلاثة أيام، قال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]، في اليوم الأول يوم الأربعاء اصفرت وجوههم رجالاً ونساءً، ويوم الخميس احمرت وجوههم، ويوم الجمعة اسودت وصباح يوم السبت أخذهم الله بصيحة واحدة خرجت قلوبهم فخروا على ركبهم جاثمين.
والقصة موضحة مبينة في عدة سور منها الأعراف، منها سورة هود، منها الشعراء، منها آخر سورة الشمس، وهنا موجزة لذكرها في مواطن أخرى.
قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73] أي: قولوا لا إله إلا الله.
وقوله: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:73] ما هذه البينة؟ قال: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الأعراف:73]، ما معنى: آية؟
علامة من أعظم العلامات، كآية الشمس الدالة على وجود الله عز وجل، هل الشمس موجودة أم لا؟ هل لها موجد أم أوجدت نفسها؟ مستحيل! إذاً: موجدها هو الله عز وجل.
وكلامي أنا آية على وجود الله، لولا الله ما تكلمت أنا ولا سمعتم أنتم ولا مشيتم ولا قعدتم، كل هذه آيات دالة على الله رباً وإلهاً لا إله غيره ولا رب سواه، فكل الكائنات آيات تدل على علم الله قدرته وحكمته ورحمته وتثبت ربوبيته وألوهيته للخلق.
قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:73] البينة ما يتبين به الشيء، كما لو قلنا لشخص: ما اسمك؟ فقال: عبد الله. قلنا: بين لنا ذلك؟ قال: هذا يشهد وهذا يشهد أني عبد الله. فالبينة ما يتبين به الشيء ويثبت ويصح، فالدعوى في المحكمة يقال فيها: هات بينة على ما تقول، أي: من يشهد ويقول: إنك كذا وكذا.
قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [الأعراف:73] ذروها: اتركوها، هذا الفعل يا طلبة العلم لا يوجد له ماض، ذروها بمعنى: اتركوها.
فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [الأعراف:73] ما هو في بساتينكم ولا زروعكم، اتركوها في المروج تأكل حتى لا تقولوا: آذتنا وأكلت زروعنا، دعوها تأكل في أرض الله.
وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف:73] المس يكون باليد ويكون باللسان، أليس السب والشتم والتعيير والتقبيح إساءة؟ ولا تمسوها بأي سوء، لا تقولوا: أكلت أو كذا تكذبون، ولا تضربوها لا بعصا ولا بحجر ولا تمنعوها من شرب الماء ولا من أكلها من الأرض التي هي لله، فإن فعلتم يأخذكم عذاب أليم، أي: إن مسستموها بسوء يأخذكم عذاب أليم، وجاء من سورة الشعراء: عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء:135].
ومع هذا الطعام والشراب، هذا الماء من خلقه؟ من أعذبه وحلاه؟ من جاء به؟ من أهدى إليك أنواع الأطعمة على اختلافها؟ كل هذه النعم يعيش الجاهلون ثمانين سنة لا يذكرون الله فيها ولا يعرفون كلمة (الحمد لله)، وإلى الآن توضع السفر على الطعام فيأكل ويشرب ويبتسم ويضحك ولا يعرف: الحمد لله، وإن قالها من الغفلة بكلمة باردة ما هي حارة وما هي خارجة من صميم قلبه، ما ذكر نعمة الله، وما قال: الحمد لله.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف:74] أين عاد تلك الأمة العظيمة الجبارة التي قالت: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]؟ كانت منازلهم في حضرموت ممتدة إلى عمان في تلك الجبال الرملية كانت لهم القوة العجب، وحسبنا أن نقرأ قول الله تعالى من سورة الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8].
من دمرهم؟ لا هيدروجين ولا ذرة ولا جيوش ولا جحافل، ما هي إلا ريح عاصف دامت سبع ليال متتالية، والأيام ثمانية، لأنها بدأت باليوم وانتهت باليوم، سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7]، ثم نجاكم أنتم واستلكم استلال الشعرة من العجين من ذلك البلاء والعذاب المهين، وها أنتم الآن أمة تعمرون شمال الحجاز وأنتم في نعمة وخير، فلم ما تذكرون هذه النعمة حتى تستحوا من الله وتخجلوا إن أنتم نسيتم ذكره وعبادته؟ فكيف تعبدون غيره وتعرضون عن رسالته ورسوله وما جاءكم به؟
فصالح يذكرهم فيقول: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف:74] خلفاء يعني: خلفتموهم، كانوا يعمرون تلك البلاد وانتهوا فعمرتم أنتم هذه البلاد فخلفتموهم في العمران.
فالنعمة تستوجب شكر المنعم، ناولك كأس ماء فقل: جزاك الله خيراً، أصلح حذاءك أو ربط لك دابتك أو أوقف سيارتك فأنعم عليك بنعمة، إذاً: فاحمده على ذلك ادع له بخير أثن عليه أمام الناس، أما أن تجحد وتجحف وتبتلع وتسكت فهذا نوع من صنيع البهائم.
أنا أكرمتك وأنعمت عليك فهل تكتفي بالشكر والثناء علي ولا تتقيني فتعبث وتسرق وتكذب؟ إذاً: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [الأعراف:74] فإن ذكركم يحملكم على شكرها، فاشكروه واحذروا أن تفسدوا في الأرض، وأي إفساد في الأرض أعظم من أن يعبد فيها غير الله؟
إذاً: احذروا أن تتركوا شكر الله واحذروا أن تفسدوا في الأرض التي أوجدكم الله فيها وهيأها لكم وأسكنكم فيها وبارك لكم في أموالكم وأرزاقكم.
والفساد في الأرض بم يكون؟ بالرماح والسيوف؟ يكون بمعصية الله ورسوله، أقسم بالله على أن كل من عصى الله ورسوله قد أفسد في البلاد أو في البيت، إذ الفساد معناه ترك ما أوجب الله وفعل ما نهى الله، لأن ما أوجب الله به تتم الحياة الطاهرة الكاملة السعيدة، ولأن ما نهى الله عنه به تخرب الدنيا وتفسد البلاد والعباد.
إذاً: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [الأعراف:74] فاشكروه عليها، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74]، كما قال تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، وهذه آية من سورة الأعراف تقدمت: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، فإذا كان البلد قد صلح بالدعوة الربانية والسيادة الإلهية فإياك أن تحدث فيه معصية من المعاصي.
وقد بينا هذا، فكونك تفجر في إيطاليا أو تسرق في إيطاليا ويا ويلك، لكن أقبح منه أن تفجر في بلد إسلامي، وكونك تعصي الله تعالى في جدة أو في الطائف أهون من أن تعصيه في مكة أو المدينة، وقلت لكم: الأرض تصلح والبشرية تسعد وتكمل في الدنيا على طاعة الله ورسوله؛ إذ طاعة الله ورسوله هي أوامر، فالعدل الحق الفضيلة الصدق الوفاء هذه أوامر الله والرسول أم لا؟ هذه كلها تهيئ للسعادة والكمال، وما نهى الله عنه ورسوله كالربا الزنا الكذب الخيانة الغش الخداع الغرور الشرك الكفر فهذه كلها مفسدات، فالفساد في الأرض معناه: ترك طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فـأبو سفيان رضي الله عنه لما كان في الشام وسأله ملك الروم قال: من أتباع محمد: الفقراء أم الأغنياء؟ قال: الفقراء. قال: هذه علامة أنه رسول الله. لم؟ لأن الأغنياء ما هم في حاجة إلى دعوة جديدة، المنازل عامرة والأموال في الجيوب والثروات وكذا، فما هم في حاجة إلى أن يتبعوه، بل هذه الدعوة قد تجعلهم في ظنهم يهبطون ويخرجون من أموالهم، إذ يصبحون أتباعاً، فكيف يتنازلون عن سلطتهم؟! فطبعهم ما يقبل هذا، فاسمع: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [الأعراف:75] لمن قالوا؟ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا [الأعراف:75] لفقرهم وعجزهم لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف:75]، ما كل المستضعفين آمنوا، فيهم من يتملقون الأغنياء.
قالوا لهؤلاء المستضعفين لمن آمن منهم: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ [الأعراف:75]؟ إما توبيخ لهم أو تعجب أو استفهام حقيقي، أي: هل أنتم تعلمون أن صالحاً مرسل من ربه حتى آمنتم به واتبعتموه؟ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ [الأعراف:75] من قال هذا؟ قاله المستكبرون، فبم أجابهم المؤمنون؟ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف:75]، إنا نحن بما أرسل به صالح مؤمنون، فاسخطوا أنتم وإلا فافرحوا.
قال المستكبرون لما سمعوا دعوة الله وتجلت أنوارها، قالوا للمؤمنين من المستضعفين ما حكى الله تعالى عنهم: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:76] ومن ثم عقروا الناقة كما سيأتي في الدرس الآتي.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: اتحاد دعوة الرسل في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، أي: في عبادة الله وحده ]، اتحدت دعوة الرسل إلى يوم القيامة في أنه لا يعبد إلا الله، أي: لا إله إلا الله، ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً يبدءون قومهم بلا إله إلا الله. أي: لا يستحق أن يعبد إلا الله، فاعبدوا الله واتركوا عبادة غيره.
[ ثانياً: تقرير إرسال الرسل بالآيات وهي المعجزات، وآية صالح أعجب آية وهي الناقة ]، الآيات يؤيد الله تعالى بها رسله ليؤمن الناس بها وبالذي جاءت على يديه فيعبدوا الله وحده.
ولهذا فالذين يسمون الأولياء أقطاباً وأبدالاً وانتهت حالهم كانوا يدجلون على الناس ويقولون: ادع يا فلان، ويطلعون الناس على كرامات موهومة ليقرروا بذلك أن هذا من الأقطاب ومن الأبدال.
فالمعجزات خاصة بأنبياء الله ورسله لأنها تؤيد أن الله أرسلهم؛ أما كوني ولي الله فتؤيدني لماذا؟ أنا كسائر المؤمنين، وكل مؤمن تقي هو لله ولي، وقد يقع بدون قصد أن تكونوا في جماعة تحتاجون إلى شيء فيرفع أحدكم يديه يسأل ويبكي فيستجيب الله له كرامة له، أما أن تكون الكرامة علامة على أنه ولي الله ليعبد مع الله فهذا من عمل الشيطان وتزيينه وتحسينه.
[ ثالثاً: وجوب التذكير بنعم الله إذ هو الباعث على الشكر، والشكر هو الطاعة ]، ما شكر الله من عصاه أبداً ولا حمد الله ولا أثنى عليه من عصاه، فلا بد من حمد الله والثناء عليه وطاعته في أمره ونهيه في حدود طاقتك يا ابن آدم. فمن أين أخذنا وجوب التذكير؟ من قوله تعالى: فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [الأعراف:74].
[ رابعاً: النهي عن الفساد في الأرض والشرك وارتكاب المعاصي ]، أما قال: وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74]؟ وقد علم السامعون كل من يرتكب معصية في بيته قد أفسد وعاث فساداً في بيته في مدينته في إقليمه، قد عثا وأفسد في الأرض، فعليه أن يصلح على الفور ويصحح ما أخطأ فيه.
[ خامساً: الضعفة هم غالباً أتباع الأنبياء، وذلك لخلوهم من الموانع كالمحافظة على المنصب أو الجاه أو المال، وعدم انغماسهم في اللذات والشهوات ]، أما الأغنياء وأصحاب الدولة فيعز عليهم أن يتنازلوا ليتبعوا نبياً أو داعية من الدعاة.
ولهذا فحين يعلن عن المذهب الشيوعي والاشتراكي من يصفق له؟ الفقراء والضعفة، وبالفعل حصل ذلك، أما الأغنياء فيترددون، يقولون: ما فائدة هذا المذهب؟ وإلى الآن في أي مكان إذا دعوت إلى الله فأول من يقبل عليك ويجيب دعوتك الضعفة من أهل البلاد.
والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر