وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، وهي كغيرها من السور المكية تعالج أعظم القضايا وأهمها وأجلها، إنها عقيدة التوحيد بألا يعبد إلا الله، تلك القاعدة التي قامت على مبدأ لا إله إلا الله.
ثانياً: إثبات النبوة وتقريرها لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: مبدأ المعاد والحياة الثانية للجزاء على الكسب في هذه الدنيا، عقيدة البعث والنشور والحياة الآخرة.
رابعاً: التشريع حق الله لا يشاركه فيه سواه، وعلة ذلك: أن الله هو الرب الخالق المدبر عالم الغيب والشهادة الذي يعطي ويمنع ويعز ويذل، هو الذي له أن يشرع الكلمة نقولها أو ينهانا عنها ويحرمها، أما غير الله فلا حق له في التشريع، والرسول نفسه يشرع بوحي الله وإذنه، فهذه القواعد الأربع تعالجها السور المكية.
وها نحن الآن مع هذه الآيات في قصة هود عليه السلام، فلنستمع إليها مجودة مرتلة ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد الله فيها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف:65-69].
عاد قبيلة من أشد القبائل وأقواها، وكانت ديارهم بالأحقاف، ما بين حضرموت وعمان إلى الشحر، هذه الأمة كانت من أقوى الأمم في الأرض ومن أشدها قوة، وشاهده قوله تعالى: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف:69]، حتى إن الرجل منهم كان يزيد على الستين ذراعاً طولاً، في ثلاثين متراً وزيادة، ويشهد لهذا ويقرره قول الله تعالى -وقوله الحق- حكاية عنهم: وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، فتحداهم الله بقوته لما قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15]، ما دمت قوياً فخالقك أقوى منك، فهذه الأمة طغت، ولنذكر قول الله تعالى أيضاً من سورة الفجر: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، فوالله! ما كان مثلها في الأرض، ومع هذا أين هم؟ واقرءوا: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:16]، سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ [الحاقة:7]، فلم يبق من تلك الأمة الكافرة أحد.
وهذه الآية دليل واضح: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف:65]، أخوهم ابن أمهم وأبيهم ليس أخوهم في الدين، هم مشركون وهو رسول الله.
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ [الأعراف:65] ما معنى: (اعبدوا)؟ ذلوا له وانقادوا وأطيعوا وادعوه ولا تدعوا معه سواه، والعبادة: الطاعة في ذلة وانكسار ورهبة وخوف وطمع ورجاء وحب.
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65] لا يوجد لكم إله غير الله، وهو -والله- كذلك، هل هناك من شارك الله في خلقهم؟ هل هناك من شارك الله في خلق الأرض وفي خلق السماء وما فيهما من منافع لهم؟ من شارك الله في هذا الوجود؟ لا أحد، فكيف إذاً يوجد إله معه؟ والله! لا يوجد.
أو يقول: لا إله، فنقول: هل أنت موجود أو غير موجود؟ فإن قال: موجود قلنا: من أوجدك؟ فإن قال: هاه هاه لا أدري، قلنا: أنت موجود، والذي أوجدك هو الله الذي لا إله غيره، عرفت هذا أو تنكرت له.
والشاهد عندنا: أن هذه الجملة -لا إله إلا الله- والله! ما ينقضها العقلاء بحال من الأحوال، ما تنقض؛ لأنها تنقض إما بالعدم، أي: لا وجود لله، وهذه خرافة وضلال وعمى، فانظر إلى الشمس فقط من كوكبها وأضاء نورها؟ كيف تنفي وجود الله؟ أنت موجود، فمن أوجدك وأمك وأباك؟ أو تنقض بتعدد الآلهة وهي ضلالة أكثر من الأولى، فأين الآلهة الذين مع الله؟ فعيسى رفع وكان غير موجود، وأمه ماتت، فكيف بغير ذلك من الأصنام والتماثيل؟
فهي قضية لا تنقض بحال من الأحول، قلها وارفع رأسك وصوتك: لا إله إلا الله، من أراد أن يثبت إلهية لأي كائن فليتفضل؛ لأنه لا يكون إلهاً إلا إذا كان خلق ورزق ودبر الحياة وأوجد الكون بكامله، وهل هذا الوصف يوجد في كائن من الكائنات؟
فلم يبق إلا أن نقول: لا إله إلا الله، وهذا الجملة قالها نوح لقومه وأعادها هود.
أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف:65]، ماذا يتقون؟ عذاب الله ونقمه وسخطه في الدنيا قبل الآخرة؛ لأنكم مصرون على عبادة غيره، أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف:65]، يوبخهم ويقرعهم، هذه كلمته هنا ومثلها كلمات في سور أخرى؛ لأنه عاش معهم دهراً، فتذكر القصص موزعة في القرآن؛ حتى تشمل أكثر ما حدث، ففي سورة هود: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:50-54]، قالوا: بعض الآلهة غضب؛ لأنك آذيتها ونددت بها وحولت الناس عنها، غضب أحد الآلهة وأصابك في عقلك. إلى هذا الحد! إِنْ نَقُولُ [هود:54]، ما نقول فيك إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ... [هود:54-56]، الآيات.
وهنا قال لهم: أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف:65] عذاب الله وسخطه في الدنيا والآخرة؟
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66]، إنا لنراك يا هود في حمق أو طيش أو سفه وعدم رشد، وإلا فكيف تواجه إخوانك وأمتك بهذه المواجهة وتكفرهم وتضللهم، وتحاربهم في آلهتهم وما يتقربون به إلى الله ويعبدون به الله؟ فهذا دال على سفاهة أم على رشد وعقل؟!
إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [الأعراف:66]، ما أنت حقيقة برسول من الله عز وجل، وإنما لك أمثال يدعون الدعوى الباطلة، وما هم بصادقين. وهذا الكلام يقال الآن في كل مكان، كل من واجه الأمة بدعوة سليمة يقال له: هذا أحمق، أو خيالي وهكذا، والبشرية هي البشرية، الطباع هي الطباع، ما هناك جديد أبداً، بيننا وبين هود آلاف السنين ومع هذا فهذه الكلمة تقال اليوم، كل من دعا إلى الله يقال فيه كذا وكذا.
قالوا: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66]، ما هناك رشد عندك ولا وعي ولا بصيرة، كيف تحارب أمة بكاملها تريد أن تصرفها عن عبادتها وآلهتها التي تتقرب بها إلى الله؟ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [الأعراف:66]، ما أنت من الصادقين في دعوتك، ومعنى هذا أنهم يبررون موقفهم حتى لا يستجيبوا لدعوة هود ولا يقبلوها؛ للإصرار على أهواء وبدع وضلالات اعتادوها وألفوها وعرفوها من زمان طويل، لا أقل ولا أكثر.
وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:67]، وهنا لطيفة: كان الله عز وجل يبعث الرسل إلى أممهم، كل أهل منطقة يبعث فيهم رسولاً، ثم يموت الرسول وتمضي قرون فيجدد الرسالة وهكذا، ما هناك رسالة عامة جامعة للبشرية إلا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، كل رسول يقول: يا قوم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، كل رسول في قبيلة في أمة في منطقة في العالم يقول: إني رسول الله إليكم، إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فقال: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الأعراف:158]، هذا اللفظ يشمل الأبيض والأسود، والقريب والبعيد، والآتي واللاحق، أليس كذلك؟ ما قال: يا قوم، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].
وانظر تدبير الله عز وجل حيث علم ما سيتم من الاتصالات البحرية والجوية والأرضية، وأن البشرية تصبح كأنها في مدينة واحدة، ووالله! لقد وقع هذا، فالآن تتكلم في مذياع تسمع العالم بكامله، أليس كذلك؟
الآن تطير إلى أمريكا في ست ساعة وإلى الهند في خمس ساعات؛ لعلم الله تعالى بما سيوجده من اتصالات البشرية وارتباطها ببعضها، فما جدد لها الرسالات بل ختمها برسالة ختامية.
في بداية الدعوة قد يخطر ببال الناس: من يستطيع أن يبلغ هذه الدعوة للأبيض والأسود في العالم؟ وإن كانوا التزموا بها وحملوا رايتها، ولكن الآن عرفنا سر عموم هذه الرسالة، فلهذا يجب أن يتعلم العربية كل إنسان، الآن يجب على الأمريكاني والصيني والياباني والبربري أن يتعلموا لسان دينهم، إذ دينهم الإسلام ونبيهم محمد العربي يكلمهم بكلامه، فيجب أن يتعلموها.
وأكثر الضلالات وأكثر البدع نتجت عن عدم فهم اللغة العربية، العجمي ما يستطيع أن يفهم أسرار هذه اللغة ولا أسرار الشريعة إلا إذا تعلمها وأصبح كالإمام البخاري أو أبي حنيفة ، أما إذا لم يعرف العربية فما يستطيع أن يصل إلى أعماق الشريعة ويفقه أسرارها.
وثانياً: لما كانت الرسالة عامة للبشرية كلها إذاً: يجب أن يكون لسان القرآن عاماً في الناس كلها، أو تقولون: هذا مستحيل؟ لماذا لما حكمت بريطانيا الهند حولتهم إلى أن ينطقوا بلغتها ويفصحون بها؟ ولما حكمت فرنسا شمال إفريقيا أما أصبحوا يتكلمون بلغتها؟ وقل ما شئت في العالم.
فهل عرفتم هذه اللطيفة؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم رسول البشرية كلها ناداه ربه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:158]، وأما باقي الرسل فكل رسول يقول: يا قوم إني رسول من رب العالمين، وتعددت الرسل، وتعددت المناطق والبشرية متباعدة، من يصل إلى الهند إلا بكذا، من يصل إلى كذا وكذا، فلما علم الله ما سيحدثه من هذا الاتصال والارتباط في البشرية وحد الرسالة في رسول واحد فقط.
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ [الأعراف:67] عظيم مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:67]، مرسل من قبل رب العالمين، من رب العالمين؟ ما هناك إلا أن تقول: الله؛ لأنك تقول: من خالق العالمين؟ فتقول: الله. من خالق العالم؟ ما هناك إلا الله.
وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، والناصح: الذي لا يغش، يقدم لك الكلمة ما فيها زيادة ولا نقصان، يقدم لك الثوب أو الطعام سليماً نقياً ما يريد غشك ولا أذاك أبداً، هذا الناصح في كلامه في معاملاته بعيد عن الغش ولا يغش بحال من الأحوال.
وأمين على ما أقول لكم، لا أزيد ولا أنقص ولا أقدم ولا أؤخر، هذه رسالتي وهذه مهمتي، وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين -الحكام- ولعامتهم )، هل عرف المسلمون هذا؟ والله ما عرفوا، كيف يعرفونه وهم لا يجتمعون على آية من كتاب الله يذكرونها بين يدي الله، وعلى سنة من سنن رسول الله، ويعيشون أربعين أو ثمانين سنة ما يحاول أحدهم أن يسأل عن آية، أو عن حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف يعلمون؟ مستحيل.
كيف تعلم أولئك الأطهار والأصفياء من المهاجرين والأنصار؟ هل تعلموا بالمدارس بالكليات بالجامعات؟ كيف تعلموا؟ لقد تعلموا قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإن قلت: كيف؟ فالجواب: دولكم نيف وأربعون دولة ما يطبقون شرع الله، كل شيء مباح وعلني، أين الإسلام؟ ما سبب هذا؟ الجهل، فالذي ما عرف الله معرفة يقينية لا يحبه، الذي ما عرف الله لا يخافه، والذي لا يخاف الله ولا يحبه كيف يستقيم لك؟ هل سيعيش خمسين سنة ما يكذب كذبة ولا يمد يده لظلم أو شر؟ كيف يمكن هذا؟ مستحيل.
ولهذا نقول: ينبغي أن نعود من جديد، وإن قالوا: هذه سفاهة عقل، أو قالوا: هذه خيالات، وقالوا: هذه أوهام، فأسألكم بالله: أي وهم أو خيال في أنه إذا دقت الساعة السادسة ومالت الشمس إلى الغروب أغلق كل باب فيه متجر ودكان ومقهى، وأهل القرية أو أهل الحي في المدينة يقومون يغلقون دكاكينهم وأعمالهم ويتوضئون ويحملون أطفالهم ونساءهم إلى بيوت ربهم، يصلون المغرب ثم النساء وراء الستارة، والأطفال يصفونهم كالملائكة والفحول أمامهم، ويتلون آية من كتاب الله القرآن العظيم ويتغنون بها في أنفسهم حتى تحفظ، ثم تشرح لهم وتفسر ويبين لهم مراد الله منها، فإن كان عقيدة عقدوها من ثم بقلوبهم، وإن كان واجباً عرفوه، وعزموا على القيام به، وإن كان محرماً تركوه وعزموا على تركه، وإن كان أدباً أو خلقاً تخلقوا به، ويصلون العشاء ويعودون إلى بيوتهم وكلهم شباع بالنور الإلهي؛ لأن هذا المجلس الآن يخفف آلامنا أم لا؟ ننسى الجوع وننسى العري، هذه سنة الله عز وجل، ويعودون مطمئنين في بيوتهم وينامون، ما هم في حاجة إلى تلفاز ولا شاشة ولا لهو ولا باطل ولا أغان، ويستطيعون أن يستيقظوا قبل الفجر فينطلق رجالهم للعمل بعد صلاة الصبح مباشرة، فما تأتي الساعة العاشرة إلا وقد دوخوا الأرض وأنتجوا ما أنتجوا.
والليلة الثانية سنة من سنن أبي القاسم، كحديث: ( الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )، في ربع ساعة يحفظونه نساءً ورجالاً وأطفالاً، وفي نصف ساعة أخرى يشرح لهم ويبين، فيفقهون ويفهمون ويعودون إلى بيوتهم مملوئين بالنور الإلهي، وهكذا طول العالم، فهل يبقى فاسق بينهم؟ هل يبقى فاجر أو ظالم معتد شرير؟ والله ما يبقى إلا ما ندر، هل يبقى بينهم بخيل وشحيح ومعتد ومعجب؟ كل تلك الأمارات تزول بهذا العلاج الرباني، يزكيهم ويطهرهم، فما المانع أن نعمل هذا؟ فليصدر وزير الداخلية أمره بهذا، ودع الناس تصرخ فلا قيمة لصراخهم، فعام فقط من هذا الحال والأمة كلها نور، ووالله! ليفضلن المال ويزيد، وقد يبحثون عمن يأخذه فلا يجدون، إذا زكت النفوس وارتقت الأخلاق، فإن قالوا: ولكن ما نستطيع، فهذا فهم بعيد عن الواقع، قلنا لهم: الله يشهد وسوف يذكرون في قبورهم ويوم القيامة، ألستم تقلدون أوروبا وأمريكا؟ والله! لقد قلدتموهم، قوانين تطبقونها في بلادكم وتقولون: ما قلدناهم؟ هيا بنا إلى باريس، فإذا دقت الساعة السادسة هل يبقى العمل؟ ما هناك عمل، فإلى أين؟ إلى المقاصف المراقص الملاهي الملاعب بأطفالهم ونسائهم؛ يخففون آلام الدنيا المتمكنة من نفوسهم، يطلبون راحة لنفوسهم، ونحن أهل لا إله إلا الله أهل القرآن الرباني وكلام الله لا نروح على أنفسنا في بيوت الله ونصر على العمل في الدكاكين حتى لا نشهد الصلاة ولا نشهد كلمة حق، فهل هناك من يرد علي؟ لم يبق إلا أن نقول: هذا قضاء الله وقدره لنبقى هابطين إلى زوالنا.
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:69]، ما هو من شخص آخر أو رجل آخر أو إنسان آخر، بل من خالقكم ورازقكم لينذركم، ينذرهم من أي شيء؟ من عواقب شركهم وعنادهم وكفرهم وباطلهم وفسقهم وفجورهم، فهل سنن الله تتبدل؟ هل الطعام يشبع أم بطل فلا يشبع الآن؟ هل الماء يروي أم أصبح لا يروي العطشان؟ هل النار تحرق أم بطل ذلك؟ هل الحديد يقطع؟ سنن لا تتبدل، والفسق والفجور وكفران النعم وعدم شكرها نهايته الخراب والدمار، لن تتبدل سنة الله عز وجل.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف:69]، الرجل طوله أكثر من ستين ذراعاً، وحسبكم قول ربنا: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفجر:6] يا محمد بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:6-8]، وما هي إلا ريح عاصفة في سبع ليال وثمانية أيام فلم يبق منهم أحد، ونجى الله المؤمنين مع نبيه ورسوله هود، ونزحوا إلى الشمال فتكونت ثمود.
قال تعالى: وَاذْكُرُوا [الأعراف:69]، هذه كلمات هود: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [الأعراف:69]، نحن أحق بها من قوم هود، فهيا نذكر آلاء الله: أما كنا نمشي على أرجلنا فأصبحنا نطير في السماء؟ أما كنا نعيش على حفنة التمر وقرص العيش فأصبحنا نتقلب في الطعام والشراب؟ اذكر هذه الالآء، ولكن ما هناك من يذكر إلا واحد في الألف يقول: الحمد لله، الحمد لله.
فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [الأعراف:69]؛ لأن ذكركم لها يحملكم على شكرها بحب الله وطاعته وحب ما يحب وطاعة من أمر بطاعته من عباده وأوليائه.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف:69]، أي: من أجل أن تفلحوا، والفلاح: النجاة من العذاب والسلامة ثم السعادة الكاملة في الدار الآخرة، الفلاح: هو الفوز، وهو أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة، واقرءوا لذلك قول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هذا بيان رسمي: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، هذا إعلان، فمن أعلنه؟ إنه الله. يحمل لنا حكماً من أقصى الأحكام وأشدها وهو الموت، والله! ما منا أحد إلا يموت، هل هناك من ينقض هذا الحكم؟ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، اعملوا الصلاح أو الفساد، والثواب ما هو هنا، اعملوا وستوفون أجوركم يوم القيامة، ولهذا ذكرنا سر هذه الحياة وسر الحياة الثانية، ولو تكلمت مع فلاسفة الدنيا في الشرق والغرب وعلماء النفس وقلت لهم: ما سر هذه الحياة؟ ما علتها؟ لم أوجدها الله؟ فوالله! ما يعرفون، أبقار لا يفهمون.
والله تعالى أسأل أن يهدينا وإياكم، وأن يصلح إخواننا في الشرق والغرب، اللهم آمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر