وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية والتي تعالج أعظم القضايا وأهمهما، ألا وهي قضية التوحيد والنبوة المحمدية والبعث الآخر والتشريع والتقنين لعباد الله عز وجل.
وها نحن مع هذه الآيات الست في قصة نوح عليه السلام، فلنستمع إليها مرتلة مجودة ثم نشرع في تفسيرها وبيان مراد ربنا تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:59-64].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا قصص وبعده قصص خمسة رسل ذكرهم تعالى في هذه السورة، وهو يقرر أولاً مبدأ لا إله إلا الله، ثانياً: إثبات النبوة والرسالة لخاتم الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا لم يكن نبياً ورسولاً فمن أين له أن يقص هذا القصص وكيف يتأتى له؟ ولن يستطيع أحد من أهل الكتاب أن ينقض حدثاً من هذه الأحداث، فهو تقرير للنبوة المحمدية.
ثم بيان علة هذه الحياة، فالحياة الأولى -كما علمتم- من أجل أن نعبد الله لتزكو أنفسنا وتطهر، وعلة الحياة الثانية أن نتلقى الجزاء، من عمل صالحاً فله جزاء عمله، ومن عمل فاسداً سيئاً فله جزاء عمله.
فنوح أحد أولي العزم الخمسة، ولم يرسل الله قبله رسولاً، والفترة ما بينه وبين آدم من أهل العلم من يقول: هي ألف سنة، ولم يسبقه إلا شيث بن آدم عليه السلام، واختلف في إدريس هل هو جده أو هو أحد أحفاده؟ والعلم لله، وإدريس رسول الله بنطق الآيات القرآنية.
فلما انتشر الشرك وظهرت آثاره نبأ الله عبده نوحاً وأرسله يدعوهم إلى عبادة الله وحده، إذ لا يستحق العبادة إلا الخالق الرازق المعطي المانع الضار النافع، أما ما عدا الله فليس بأهل لأن يعبد، من الخطأ الفاحش أن يعبد من لا يملك نفعاً ولا ضراً، وواصل نوح عليه السلام دعوته بينهم تسعمائة وخمسين سنة: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14]، وعاش بعدها مع المؤمنين يربيهم ويعلمهم قرابة مائتي سنة.
والأمر الذي نذكره هنا أن نوحاً عليه السلام اشتكى إلى ربه قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:45-46] لماذا؟ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] وفي قراءة: (إنه عَمِلَ غير صالح)، فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].
والشاهد في هذا: أن نوحاً عليه السلام لم يشفع في ابنه الكافر؛ فلهذا من مات على الكفر والشرك لا تقبل له شفاعة من أحد قط، حتى من الملائكة والرسل؛ لأن ذنبه فظيع، أيخلقه الخالق ويرزقه ويخلق كل شيء من أجله ثم يغمض عينيه عن خالقه ورازقه ومدبر حياته ويفتحهما في صنم وحجر، أو في شهوة أو في هوى، أو في إنسان أو حيوان، ويقبل عليه وينسى ربه؟! هذه الجريمة كيف تقدر؟!
أولاً: كون الذي نلتفت إليه ندعوه ونستغيث به ونسأله لا يملك شيئاً، ونضرب مثلاً دائماً: إذا مررت برجل أمام خربة من الخرائب وهو يسأل: يا أهل الدار! إني جائع، إني عطشان، إني عار، مدوا أيديكم لأخيكم، وما بالخربة أحد، فهل يستجاب له؟ هل يسمع نداؤه؟ هل يعطى؟ ما في البيت أحد.
فكل من دعا غير الله وسأل غير الله هذا موقفه، وليس له إلا الخيبة والخسران، ولا يصح أبداً لعاقل يمر به ويسكت، كيف تمر بأخيك الجاهل ما يدري أن هذه الخربة ما بها أحد ويقضي الساعة وهو يبكي ويصرخ وتسكت أنت؟ أيجوز هذا؟ ومثله الذين يعبدون القباب والقبور والأضرحة ويستغيثون ويسألونهم: يا سيدي فلان .. يا فلان .. يا فلان! هل يجوز أن تمر بهم وتسكت؟ لو وقفوا ألف سنة يطلبون والله ما امتدت إليهم يد ولا أعطوا شيئاً مما يطلبون، وفي نفس الوقت أعرضوا عن الله خالقهم وخالق كل شيء من أجلهم: ( يا ابن آدم! لقد خلقت كل شيء من أجلك، وخلقتك من أجلي ).
إذاً: كنعان في النار فكيف لا يشفع له أبوه وهو من أولي العزم ومن الرسل؟ والجواب: أما سمعنا الله يقول له: فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود:46-47]، فلنذكر هذا، ولنذكر أن أوثان قوم نوح ما هي إلا تماثيل صنعوها بأيديهم ووضعوها على القبور، والآن -مع الأسف- رأينا من يضع صورة الميت على ورق كأنه يشاهده.
قول ربنا جل ذكره: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ [الأعراف:59] قومه الذين ولد فيهم وتربى بينهم وعاش فيهم، والبشرية يومها كانت في نطاق محدود ما هي الصين واليابان وأمريكا وكندا، كانت في بداية أمرها.
فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، اعبدوا الله أي: بالدعاء والاستغاثة به والتضرع إليه ومناداته بأسمائه: يا رب يا رب، ادعوا ربكم متضرعين خائفين، أما أن تدعوا هذه الصور والتماثيل، هذه الأشكال التي وضعتموها فهذا لا يصح أبداً، أغضبتم ربكم عليكم، مع العلم أنهم لا يستجيبون لكم.
قف أمام ضريح ولو كان قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واسأل: يا رسول الله! المدد، أغثني، أعطني كذا، سل لي ربك كذا. وانظر هل يستجاب لك؟ مع أن هذا لا يصح أبداً، ولا نغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نغضب ربه بهذه المعصية، كيف تسأل غير الله؟ من يسمع صوتك؟ من يرى مكانك، من يقدر على إعطائك سوى الله؟
فَقَالَ يَا قَوْمِ [الأعراف:59]، استعطفهم بكلمة (قوم)، نسبهم إليه ليعرفوا أنه يريد الخير لهم والرحمة بهم، لا يريد ذلهم ولا إهانتهم ولا حرمانهم من الخير.
يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وفي قراءة شاذة: (ما لكم من إله غيرِهِ)، ما لكم إله غير الله، ما هو الإله؟ الإله: المعبود بحق، متى يعبد الإله بحق؟ إذا كان وهبك حياتك، وهبك عقلك وسمعك وبصرك ووجودك، والمكان الذي أنت عليه والطعام الذي تتغذى به والهواء الذي تستنشقه، هذا مالك أمرك، هذا إلهك الحق، هذا المعبود بحق، أما الذي ما وهبك ولا أعطاك ولا أوجدك فكيف يكون إلهك؟ بأي حق؟ فلهذا يقول تعالى في ذم هذه المحنة وإبطال الشرك والعياذ بالله تعالى، يقول في وعد رباني: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] أن يغفر له، وأكرر القول: ما هناك جريمة أفظع ولا أقبح من الشرك، كحال الذي يقف أمام قبر أو قبة أو ضريح أو تمثال يناديه ويدعو وينسى خالقه الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، من إليه مصير كل الكائنات، من يحيي ويميت، ويعرض عنه وينساه ويدعو غيره، أو يتقرب إلى ذلك الغير توسلاً به إلى الله ابتداعاً وتزييناً من الشيطان.
وإذا كان نوح أقام بينهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فرسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة لا يدعو إلا إلى دعوة نوح: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
وقوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا [الأعراف:59] من الفاعل؟ من المتكلم؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه. هل هناك من يقول: (أرسلنا نوحاً) سوى الله تعالى؟
هذا الذي خوفهم وهددهم به هو عذاب يوم القيامة، عذاب الدار الآخرة، ما هو عذاب اليوم أبداً، فهو في هذه الدعوة ما كان يتوقع عذاباً ينزل بهم في بداية دعوته، فالمراد من عذاب يوم عظيم هو عذاب يوم القيامة، والآيات تقرر مبدأ التوحيد والبعث الآخر، والجزاء على الكسب الدنيوي والعمل في هذه الحياة، وهو يوم عظيم، أتدرون ما عظمة هذا اليوم؟
قال تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:1-4]، أي هول أعظم من هذا؟
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ [الواقعة:1-3]، تخفض أقواماً وترفع آخرين، إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:4-6].
الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3] في آيات كثيرة.
الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ [القارعة:1-4] كأي شيء؟ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4]، البشر -قل ما شئت في صنوفهم وقدرتهم وعلمهم وقوتهم- يصبحون كالفراش المبثوث حول الضوء، اعمل ضوءاً في الشارع وانظر إلى الفراش كيف يلتف حوله، لا عقل ولا رشد ولا فهم من شدة تمزق قلوبهم من الهول والخوف، كالفراش المبثوث، وَتَكُونُ الْجِبَالُ [القارعة:5] الراسخة كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5] كالصوف الذي يضرب بالعصا لينفش، هذه الجبال تتحلل، فهذا يوم عظيم أم لا؟ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59].
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف:60]، إنا لنراك يا نوح في دعوتك هذه ومحاربتك لآلهتنا وعبادتنا في ضلال مبين واضح بين، وقد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة أعظم من هذا، أما قالوا فيه: مجنون، ساحر؟ وهذا شأن البشر، والآن لو دعوت بين قوم إلى الإسلام فسيقولون لك أفظع من هذا الكلام، يقولون: كيف تتخلى عن أنظمتنا وقوانيننا وتقدم قال الله وقال الرسول؟ إنك مجنون. إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف:60].
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:61]، أنا مرسل، أرسلني رب العالمين، أي: خالق الخلائق كلها والمدبر للحياة كلها، رب كل شيء ومليكه، ذاك الذي أرسلني وأنا رسوله، ما قال: أنا رسول القبيلة الفلانية أو الغني الفلاني أو السلطان الفلاني، قال: أنا رسول رب العالمين، أراد أن يصلحكم ويطهر قلوبكم ويعدكم لسعادة الدارين فأرسلني إليكم حين تورطتم في الشرك والظلم والفسق والفجور والباطل والفتن والمحن، أرسلني لإنقاذكم، أنا مرسل منه.
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:61]، وهم يعرفون الله عز وجل، إذ ما عبدوا تلك الأصنام إلا توسلاً بها إلى الله عز وجل، وعهدهم بآدم وشيث ما هو ببعيد، ككفار قريش حين قالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]؟ أما كانوا يحلفون بالله ويحجون بيت الله؟ يؤمنون بإبراهيم وإسماعيل والأنبياء، ولكن ورطهم إبليس في الشرك والضلال فرغبوا فيه وأحبوه وأصبحوا لا يريدون مفارقته.
وهذه القضية تتكرر إلى يوم الدين، ما زال من المسلمين من يستغيثون بالأولياء وينذرون النذور لهم، ويرفعون أصواتهم بأسمائهم، وهم يقرءون القرآن أيضاً، وذلك لغلبة الجهل وعدم البصيرة، لا يصح منك يا عبد الله أن ترفع صوتك داعياً سوى الله، أما: يا جبريل، يا ميكائيل، يا إسرافيل، يا عبد القادر ، يا فاطمة ، يا حسين ، يا رسول الله؛ فكل هذا -والله- لمن الشرك الأكبر، وصاحبه إن لم يتداركه الله ويموت على التوحيد فما نجاه ولا دخل دار السلام.
وعندنا لطيفة: وهي أن آباءنا وأمهاتنا وإخواننا عاشوا في الجهل أكثر من أربعمائة سنة إلى ألف سنة، فمن لطف الله أنه حين يكون الشخص ما يريد معصية الله ولا الشرك بالله، ولو عرف أنه شرك لذبح نفسه ولا يقبل هذا، من تدبير الله أنه عندما يحضره الموت ويكون على سرير الموت يصرخ فقط بلا إله إلا الله، ما يعرف عبد القادر ولا الرسول ولا أي أحد أبداً، فتقبض روحه وهو موحد، فهذا ينجو، وهذا هو الواقع، فهذا من لطف الله ورحمته؛ لأنه ما كان يريد أن يشرك بالله، ولا يرغب أن يغضب الله، لكن للجهل وقع في هذا، ومن مات على غير لا إله إلا الله فهو في دار البوار والخزي والعار.
وَأَنصَحُ لَكُمْ [الأعراف:62]، والنصح لهم بيان الحق واضحاً، وأن يبعدهم مما يدسي نفوسهم أو يخبث أرواحهم، ينصح لهم ببيان ما ينبغي أن يعتقدوه.. أن يقولوه.. أن يعملوا به، من أجل أن يكملوا في دنياهم هذه ويسعدوا فيها أيضاً، وسعادة الدنيا وكمالها لا شيء بالنسبة إلى سعادة الآخرة وكمالها.
إذاً: فالعدل في الأمة يكسبها الراحة والطمأنينة، دفع الظلم وحصول الأمن يكسبهم طمأنينة النفس وسعادتها والبعد عن الأخباث والأنجاس فتطهر وتزكو وتطيب، يحصل هذا في الدنيا وإن كان المقصود الآخرة.
وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:62]، إي والله، يعلم من محاب الله ومكارهه، ووعود الله ووعيده ما لا يعلمون، لو سألتهم: مَنِ الله؟ فما يعرفون، ما أسماؤه؟ لا يعرفون، ما صفاته؟ لا يعرفون، هل يحب ويرحم، هل يغضب ويسخط؟ لا يعرفون، فهو يعلم وهم لا يعلمون، فبين لهم الواقع، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:62] أنتم، سواء من الوعد أو الوعيد أو ما شاء الله أن يكون.
فكان الواجب أن يصغوا ويستمعوا وأن يقولوا: علمنا يرحمك الله يا نوح، علمنا ما عند الله، علمنا ما مراد الله من إرسالك ورسالتك، لكن العناد والمكابرة وإيثار الدنيا وشهواتها وأهوائها صرفهم عن هذا كله، وازدادوا عناداً ومكابرة.
أهل القرية في بلاء فيأتيهم رجل منهم ينصح لهم: افعلوا كذا واتركوا كذا، افعلوا كذا قولوا كذا تكملوا وتسعدوا، فهل هذا يثير التعجب في النفس؟ فهو ينكر عليهم هذا التعجب: كيف يبعث الله رسولاً؟ فقال منكراً عليهم: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:63]، فمهمة الرسول الإنذار ثم بيان العبادات والصالحات، ولتتقوا الله عز وجل بفعل الأوامر وبترك النواهي، وبذلك تتهيئون للرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: وَلِتَتَّقُوا [الأعراف:63] نتقي ماذا؟ نتقي الله عز وجل، كيف نتقي الله؟ يا معشر المستمعين! كيف نتقي الله؟ أي: كيف نمنع أنفسنا من عذاب الله وسخطه؟ بأي شيء؟
إن الله لا يتقى بالجيوش الجرارة ولا بالحصون العالية ولا بالهيدروجين والنفاثات، وإنما يتقى فقط بطاعته وطاعة رسوله، بفعل أوامره وترك نواهيه، بهذا يتقى عذاب الله وسخطه في الدنيا والآخرة؛ فلهذا قال: آمنوا وعبدوا ربكم تكونون قد اتقيتم عذابه وسخطه وتتهيئون للرحمة، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:63] أي: لتستعدوا بذلك لدخول رحمته.
أول فلك ظهر على الأرض هو فلك نوح، صنعه نوح، من علمه؟ الله رب العالمين، وهذه نعمة امتن الله تعالى بها علينا في سورة يس: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس:41-42]، فهو أول سفينة على وجه الأرض إذاً.
قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الأعراف:64]، وكانوا نيفاً وثمانين ما بين رجل وامرأة وولد، من بينهم أولاده الثلاثة يافث وسام وحام ، قيل: يافث هو أبو يأجوج ومأجوج، وسام أبو البيض وحام أبو السود من البشر.
فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:64]، ما قال: عميان؛ لأن هناك فرقاً بين الأعمى وبين العمي: فالعمي الذي لا يبصر بقلبه ونور نفسه، لا بصيرة له وله عينان يبصر بهما العبرة في الأرض، هذا العمي، والأعمى فاقد البصر.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:64]، ما شاهدوا آيات الله التي تتلى عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهم مصرون على الشرك والعناد والكذب والسخرية إلى نهاية آجالهم.
معاشر المستمعين! هذه الآيات اسمعوها أولاً ثم نستنبط منها الهداية المطلوبة لنستعين بالله على أن نعبد الله وحده، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:63] كيف تعجبون؟ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:59-64].
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كنبوة نوح عليه السلام ].
هل دلت الآيات على أن نبوة محمد حق؟ من أين لمحمد الأمي العربي الهاشمي أن يقص هذا القصص، فهل كان حاضراً؟ كيف يتم هذا؟ إذاً: أوحي إليه، فهو -والله- رسول الله، ما يستطيع ذو عقل أن ينفي رسالته وهو يتكلم عن أحداث تمت منذ آلاف السنين.
[ ثانياً: تقرير وتأكيد التوحيد، وبيان معنى لا إله إلا الله ].
ما معنى: لا إله إلا الله؟ معناها: لا يعبد إلا الله، إذا قلت: لا إله إلا الله فإنك تقول: لا يستحق أن يعبد إلا الله بأي نوع من أنواع العبادات.
[ ثالثاً: التحذير من عذاب يوم القيامة بالتذكير به ].
حذرهم وذكرهم؛ لأنهم كانوا غافلين وناسين له، فقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59]، فهو -إذاً- حذرهم وذكرهم، وأيما مؤمن يذكرك بالآخرة فمعناه: أنه وعظك وذكرك، والفيلسوف الطيار الغواص مهما كان هذا الإنسان في سموه الفكري؛ فإنه إذا لم يكن مؤمناً بلقاء الله والحساب والجزاء على الدقيقة والجليلة في حياته فلا خير فيه بالمرة، ولا قيمة له ولا وزن بعوضة عند الله، وكل الشرور والمفاسد من الظلم والخبث والعناد والكبرياء كلها ناتجة عن ضعف الإيمان بالله ورسوله ولقائه.
[ رابعاً: أصحاب المنافع من مراكز وغيرها هم الذين يردون دعوه الحق ] دائماً وأبداً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر