وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف المكية إحدى السبع الطوال، والمكيات على خلاف المدنيات، والمراد بالمكيات: ما نزل بمكة، والمدنيات ما نزل بالمدينة، إذ عاش صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يتلقى الوحي والقرآن ينزل، ثم ارتحل مهاجراً مضطراً إلى الهجرة ملجأ إليها إلى المدينة، فقضى بها عشر سنوات يتلقى الوحي والقرآن ينزل، فما نزل بمكة مكي وما نزل بالمدينة مدني.
والذي ألاحظه وأقوله: هو أن المكيات يعالجن العقيدة، إذ لم يفرض من العبادات في مكة سوى الصلاة في السنة العاشرة، أما الأحكام والحدود والشرائع والقوانين فكلها في المدينة؛ فلهذا الصور المكية تعالج العقيدة؛ لبيانها وتصحيحها وبيان فوائدها، وبيان ما لمن يكفر بها وينساها من أنواع العقاب والعذاب في الدنيا والآخرة.
ها نحن مع قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ [الأعراف:52] في ثلاث آيات، فلنستمع إليها مجودة مرتلة، ثم بعد ذلك نتدارسها بإذن الله عز وجل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:52-54].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف:52]، من القائل هذا؟ الله جل جلاله، إذ هو الذي نزل هذا الكتاب الذي نتلوه ونسمع آياته: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ [الأعراف:52]، والكلام مرتبط بما سبق عائد إلى أصحاب النار الذين كلما شاهدوا أهل الجنة قالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف:50].
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ [الأعراف:52]، من جاءهم بالكتاب؟ الله، إذ أنزله على رسله، أنزل كتبه على رسله، هو الذي جاء بالكتاب وفصله أيما تفصيل، فتفصيل القرآن: آيات الدعوة إلى التوحيد، آيات الدعوة إلى الإيمان، آيات الدعوة إلى الإيمان بالبعث، آيات بيان الحلال والحرام، آيات الحدود، آيات الآداب، آيات الأخلاق، آيات صفات الجنة وأهلها، آيات النار وأهلها، عجب ومفصل غاية التفصيل، وحسبنا أن نذكر دائماً أن الله تعالى تحدى العرب على فصاحتهم وبلاغتهم وبيانهم أن يأتوا بسورة فقط من مثله فعجزوا، إذ قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة:23]، أي: شك مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23]، أي: محمد صلى الله عليه وسلم، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:23-24] إذاً: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] بالإيمان والعمل الصالح، فكلمة (وَلَنْ تَفْعَلُوا) كم مضى على نزولها من السنين إلى الآن؟ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فهل استطاع أحد يقوم ويأتي بمثل سور القرآن؟ الجواب: لا؛ لأمرين:
الأول: يختم الله على قلوبهم وعلى ألسنتهم.
ثانيا: لعجزهم عن مضاهاة كتاب الله عز وجل؛ لسموه وعلو درجته في البيان والفصاحة والبلاغة، هذه آية النبوة المحمدية، وآية الإيمان والتوحيد.
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ [الأعراف:52]، أي: أولئك الذي يستغيثون أهل الجنة يطلبون الماء جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف:52] منا، وكيف لا وهو العليم الحكيم، وهو الذي يعلم كل شيء قبل أن يكون؟
الحي إذا أمرته وهو قادر على الفعل يفعل أم لا؟ إذاً: مر الكافر وهو يشرب الخمر أن يترك الشرب، هل سيسمع؟ هل سيستجيب؟ ما يستطيع، هذه حقيقة مسلمة، وهي أن الإيمان بمثابة الروح، فالمؤمن الصادق الإيمان حي، يسمع ويبصر ويعطي ويأخذ ويجيء ويذهب، وأكبر برهان ودليل هو أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس تحت راية لا إله إلا الله يعايشون المؤمنين والمسلمين، هؤلاء لا يؤمرون بصلاة أبداً، ولا بزكاة أبداً، ولا بصيام، ولا يقال لهم: لا تشربوا الخمر، لأنهم أموات تخاطبهم فما يستجيبون، ما سبب ذلك؟ كفرهم، انعدام الإيمان، حين يؤمن اليهودي أو النصراني أو المجوسي، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، حينئذ مره يفعل، قل له: امش اغتسل فيغتسل بالماء البارد ولا يبالي، قل: غداً رمضان فيصبح صائماً، لكن قبل الإيمان هل يفعل شيئاً؟ إذاً: هو ميت.
فعرفنا إذاً قوله تعالى: هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:52]، بيضاً كانوا أو سوداً، عرباً أو عجماً، إنساً أو جناً، المؤمنون هم الذين يجدون في القرآن الكريم الهداية والرحمة، أما غير المؤمنين فلا يجدون شيئاً، هذا معنى قوله في الآية الأولى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:52]، من القائل: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ [الأعراف:52]؟ أليس الله منزل الكتاب؟ من هم الذين جاءهم الله بالكتاب؟ كفار قريش والمشركون والعرب الذين ما أسلموا، جاءهم الكتاب بواسطة رسوله، هذا الكتاب مفصل فيه بيان الحلال والحرام والعقائد والآداب والسلم والحرب والاقتصاد.. ما ترك شيئاً، وحسبنا أن يقول تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].
وعرفتم أن الرحمة والهداية مقصورة على المؤمنين، وأما الكافرين فلا يجدون ذلك، لأنهم أولاً: لا يقرءونه. ثانياً: ما آمنوا به. ثالثاً: ما هم بأهل لأن يطبقوه ويعملوا، فكيف يجدون الهداية؟
فقوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف:53]، أي: إلا تفسيره الواقعي لما يحمل من الوعد والوعيد، وذلك قد يتم في الدنيا بأن ينزل الله بهم عذاباً بخسف أو سخط أو بلاء، والواقع الذي لا بد منه وهو يوم القيامة، فقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ [الأعراف:53]، تركوه، أهملوه، لم يقرءوه، لم يعملوا به، لم يؤمنوا به، كالشيء المنسي، والآن من نسي منكم شيئاً هل يخطر بباله؟ أبداً، إذا كان أحدنا ناسياً لشيء في بيته أو في أي مكان هل هو الآن يخطر بباله أو يعرف شيئاً عنه؟
الجواب: كلا. فهم لذلك نسوه نسياناً كاملاً، لم يسألوا عمن أنزله، لماذا أنزله، ما يحمل من هدى، ما جاء فيه، أبداً، بل تركوه تركاً كاملاً.
يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ [الأعراف:53]، ماذا يقولون؟ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]، الآن اعترفوا في عرصات القيامة، فما ينفعهم هذا الإيمان أبداً، قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]، الرسل الذين بلغونا في الدنيا وعرفونا بالله وبما عند الله وما لدى الله وبمصير الحياة هذه وبنهايتها، وعرفونا بالدار الآخرة وما فيها وبخلدها وبقائها. فالرسل بلغوا من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، يعرفونهم بالدار الآخرة أتم معرفة، الآن اعترفوا: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]، إذاً: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف:53]، ولا شفيع، فالكافرون لا يشفع لهم أحد، واقرءوا قول الله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، الشرط الأول: أن يرضى الله لك بالشفاعة يا رسول الله أو يا نبي الله. الثاني: أن يكون قد رضي عن هذا العبد أن يدخل الجنة ويجاوره، ولو شفع الأنبياء والرسل في كافر فوالله! لا تقبل شفاعته.
وعندنا حادثة من أفظع الحوادث، فإبراهيم الخليل عليه السلام تعرفون أن أباه آزر كان مشركاً كافراً يدعو إلى الشرك وعبادة الأصنام، وحارب إبراهيم ورضي بالحكم بإعدامه وإلقائه في أتون الجحيم، وكان إبراهيم وعده أن يستغفر له، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه، لكن الخليل دعا بدعوة في سورة الشعراء: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشعراء:87]، في دعوة طويلة منها هذه الجملة، وَلا تُخْزِنِي [الشعراء:87]، أي: لا تذلني ولا تهني يوم يبعثون في عرصات القيامة، فهذه الدعوة يستجاب له فيها الجائز، فحين يقف إبراهيم ويشاهد أباه في النار وعليه غبرة وقترة فيقول: رب! لقد وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون وهذا أبي الأبعد في النار، فأي خزي أخزى من هذا؟ فيقال له: يا إبراهيم! انظر تحت قدميك، وإذا بأبيه آزر في صورة ذكر الضباع ملطخ بالشعر والدماء والقيوح، ما إن يراه إبراهيم بتلك الحالة حتى يقول: سحقاً سحقاً سحقاً! أي: بعداً بعداً بعداً. فيؤخذ من قوائمه الأربع ويرمى في أتون الجحيم.
وخلاصة القول: أن من مات على الكفر والشرك لا يجد شافعاً، ومن مات على التوحيد والإيمان ودخل النار بكبيرة من كبائر الذنوب لم يتب منها ومات عليها فإنه يجد من يشفع له، ويقبل الله الشفاعة فيه.
إذاً: ماذا قالوا: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف:53]، يتمنون ويطلبون ويتضرعون، فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف:53]، أو نرد إلى الدنيا ونقوم بالعبادات والطاعات ونتخلى عن الشرك والكفر والمعصية، أَوْ نُرَدُّ [الأعراف:53] إلى أين يردون؟ إلى الدار الدنيا، لماذا؟ ليعملوا الصالحات ويتجنبوا السيئات، هذه أمنيتهم.
اسمع قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ [الأعراف:53]، من هم الذين نسوا القرآن من قبل؟ هم الكفار، هل الآن كفار الدنيا في الشرق والغرب يذكرون عن القرآن شيئاً، منسي تماماً كما بينت لكم، فإن كنت ناسياً شيئاً فإنه لا يخطر ببالك أبداً ولا تعرفه، ولهذا عبر بالنسيان.
يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:53]، أي: بما أخبروهم به، وأوعدوهم ووعدوهم، هذه الجنة وهذه النار والصراط والحساب والجزاء، والرب تعالى يقضي بين عبادته، فهذا أخبروا به، فعرفوا الآن.
ثم قالوا: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ [الأعراف:53]، سؤال تمن وطلب واسترحام، والجواب: لا شفعاء؛ لأنهم ماتوا على الشرك والكفر، والله يقول: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116].
وهنا: قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:53]، من أعلن هذا الإعلان؟ الله جل جلاله، فكيف بلغنا يرحمكم الله؟ بواسطة كتابه، والذي يشك في القرآن أنه كتاب الله فليتفضل ليأتينا بمن أنزله أو قاله، لو أنفق الدنيا كلها فهل سيجد من يقول: أنا الذي قلت القرآن؟
قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:53] أولاً، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:53]، ضاعت تلك الأكاذيب والأباطيل والدعاوى التي كانوا يدعونها في الدنيا، وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35] يوم القيامة، أنتم أيها الفقراء المعذبون، ضل عنهم ما كانوا يكذبون أم لا؟ هل وجدوه؟ غاب غيبوبة كاملة، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:53]، أي: من الأكاذيب والأباطيل التي يختلقونها ويصرفون أنفسهم والناس عن الإسلام بتلك الدعاوى الباطلة، فالآن ما وجدوا لها أثراً.
أعيد الآيتين فاسمعوا: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف:52-53]، قال تعالى: قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأعراف:53]، ما معنى: (يَفْتَرُونَ)؟ يكذبون، يقولون الباطل والكذب والدعاوى الباطلة.
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الأعراف:54]، معشر المستمعين والمستمعات! (الله): اسم علم على ذات الرب تعالى، وهو الذي سمى نفسه، وعلم عباده باسمه، الله علم على ذات الرب تعالى، مثل عثمان على هذه الذات، إبراهيم على هذا الرجل، زليخا على هذه المرأة، والشمس على هذا الكوكب، والسقف على هذا الكائن، علم يعرف به، فمن ربنا؟ الله، هل يوجد لنا رب غيره؟ والله لا، كل الكائنات مربوبة وهو ربها من جبريل وميكائيل إلى آخر إنسان أو حيوان في هذا الكون.
إذاً: لم لا نصرف وجهنا عن اللات والعزى والأصنام والتماثيل واللهو والباطل ونقبل على ربنا، إذا ما عرفناه فقد نعذر، لكن ها هو ذا تعالى يعرفنا بنفسه، إِنَّ رَبَّكُمُ [الأعراف:54] الحق اللَّهُ [الأعراف:54]، ولفظ الجلالة (الله) -بغض الطرف عن الاشتقاق- في معنى: الإله، أي: المعبود بحق، فحروف (الله) وحروف (إله) حروف واحدة، فهو مشتق من الإلهية التي هي العبادة، أي: المعبود بحق، فلو سئلت: من المعبود بحق؟ فقل: الله. فإن قيل: ما هذا الحق الذي أخذه وعبد به؟ فقل: لأنه خلقني ويحفظ حياتي، هل نعبد من لم يخلق ولم يرزق ولم يحفظ؟! ما له حق في عبادته، ما المعبود الحق؟ الذي خلقني وهو يحفظني.
وقد انعقد مؤتمر في روسيا أو في ألمانيا أو في غيرهما، عقدوا مؤتمراً وأرادوا أن يقنعوا الناس بأن الطبيعة هي التي خلقت، وردد هذا حتى البلهاء والأغبياء من المسلمين، فقيل لهم: الطبيعة التي خلقت هل تسمع؟ هل تبصر؟ هل تعقل؟ هل تفكر؟ قالوا: لا، الطبيعة لا عقل لها ولا سمع ولا بصر. فكيف إذاً تستطيع أن توجد وتبدع في إنسان أمامنا؟ قالوا: إذا لم نقل: الطبيعة فإنكم تريدون أن نقول: الله، فإذا قلنا: الله قلتم: صلوا، فلهذا لا نقول: الله. وانفضحت عورتهم.
وفي محاولة ظلوا ثماني عشرة سنة في روسيا وهم يحللون ليعرفوا من أين الروح، لعلنا نعثر على مادة الروح، وبإمكان روسيا أن تصنع مليون جندي من العاج والحطب والخشب وتنفخ فيها الروح ويصبح لها جيش عرمرم تحكم به العالم، لكن يا ويلهم لو وجد هذا بلا عقل ولا علم فإنه سيأكلهم، وبعد ثماني عشرة سنة وهم يحللون ويركبون أعلنوا البيان التالي: الروح ليست موجودة في هذه العوالم، هذه جاءت من طرق لا وجود لها في كائنات الأرض، فقلنا: الحمد لله، أنتم في ثماني عشرة سنة تحللون وتركبون واعترفتم بأن الروح جاءت من فوق، وعجوزنا في القرية في الجبل تسألها فتقول: الروح من الله، ما تحتاج إلى أن تدرس ولا تقرأ، وانفضحوا وانكشفت عورتهم.
أدبهم الله بالقرآن، قل لهم يا رسولنا: هل أنتم تعرفون بمن تكفرون؟ إنكم تجحدون الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، هذه الكواكب المكوكبة، هذه الأفلاك من خلقها، هذه الأرواح من نزلها، هذه الأشياء من أوجدها، كيف ينكر؟ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الأعراف:54]، وورد أنها الأحد والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، أولها الأحد وآخرها الجمعة.
وهل هذه الأيام كأيامنا؟ أيامنا مكونة بالشمس والظل، الليل والنهار، لكن قبل هذا لا شمس ولا ظل، لكن نصدِّق بما أخبر الله تعالى به، وأنها أيام ستة كأيامنا هذه، أي: بمقدار هذه الأيام، إذ الله يقول للشيء: (كن) فيكون، لما أراد أن يخبر عن الأيام الطويلة قال: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] في عرصات القيامة، وفي العروج إلى السماء قال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، ونحن لا يسعنا إلا أن نقول: آمنا بالله، سواء كانت ستة أيام بمقدار أيامنا، أو بمقدار الألف سنة، أو بمقدار الخمسين ألف سنة، المهم أنه خلقها في ستة أيام فأبلغنا ذلك، وسمعنا فقلنا: آمنا بالله.
وعرش الرحمن والاستواء عليه إياكم وشطحات الضُّلال فيه، إيماننا به أن الرحمن عز وجل استوى على عرشه، لا نقول: كيف؟ هل عرفنا الذات كيف، لو عرفنا كيف ذات ربنا سنقول: كيف استوى، ثم العرش هذا لو عرفناه فسنقول: كيف، ولكن ما عرفنا العرش ولا الذات، فنقول: آمنا بما أخبر الله به، وهو -والله- الحق، وعند أهل العلم كلمة قالها الإمام مالك رحمه الله في المسجد هذا، قال: الاستواء معلوم، فالاستواء نعرفه، وتوقفنا لأنا ما عرفنا ذات الله ولا ذات العرش، قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ثم أمر بالسائل فقال: أخرجوه، فأخذه عسكري وأبعده حيث جاء يفتن المؤمنين، وكان هذا في الروضة في القرن الثاني.
إذاً: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، آمنا به، وما عندنا قدرة على أن نعقل ذلك، بدليل أن الملائكة الآن ما استطعنا أن نبصرهم لضعف إبصارنا ولضعف عقولنا، طاقات العقل محدودة، ما تستطيع أن تدرك كيف استوى الرحمن.
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] أي: عرشه عز وجل، والعرش: سرير الملك، ولله أيضاً عرش وله كرسي، لكن هل كرسي الرب ككرسي الإنسان؟ مستحيل، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، قال ابن عباس: لو أخذنا السموات السبع سماء إلى سماء والأرضين السبع وجعلناها رقعة واحدة لكان كرسي الرحمن أوسع من هذا. أما قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، وما حملك على أن تقول: الكرسي بمعنى القدرة، هل تكذبه؟ نعم قدرته معلومة وسعت كل شيء، لكن قال: كرسيه، فيجب أن تؤمن وإلا فأنت كافر.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف:54]، أي: الليل يطلب النهار والنهار يطلب الليل، ركض متواصل آلاف السنين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر