أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .
معاشر المستمعين والمستمعات! السورة ما زالت سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، وأذكركم بأنها تعالج أعظم عقائد المؤمنين: أولاً التوحيد، تقرر معنى أنه لا إله إلا الله بضرب الأمثلة وذكر الآيات وبيان المعارف حتى ما يبقى في قلب إنسان أن هناك من يعبد مع الله، فلا إله إلا الله.
ثانياً: تقرير النبوة المحمدية وأنه حقاً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأدلة والبراهين القطعية.
ثالثاً: التشريع والتقنين في التحليل والتحريم مالكه الله، وليس من حق أي إنسان أن يحلل أو يحرم أو يأمر أو ينهى، ولكن الذي يأمر وينهى ويمنع ويجيز هو الله جل جلاله بوصفه المالك أولاً.
ثانياً: بوصفه العليم بكل شيء.
ثالثاً: أنه القدير على كل شيء.
رابعاً: أنهه الرحيم الذي ما خلت رحمته من كائن ما كان.
والعقيدة الرابعة عقيدة البعث الآخر الحياة الثانية، الإيمان باليوم الآخر والدار الآخرة، كل الصور المكية تعالج هذه وتقررها.
والسورة كما علمتم مكية، ولنستمع إلى هاتين الآيتين يتلوهما أحد الأبناء مرتلاً مجوداً ونحن نتأمل، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما تحمله من الهدى لنا ولكل مؤمن ومؤمنة في هذه الدنيا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:42-43].
وقد درسنا فيما مضى قول ربنا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] ومتى يقع هذا؟ متى يدخل البعير في عين الإبرة؟ مستحيل، إذاً: فهم كذلك مستحيل في حقهم أن يدخلوا الجنة: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:40-41].
ذكر حال أهل الكفر والشرك والباطل والظلم والفساد، والآن قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الأعراف:42]، أولئك كذبوا واستكبروا فلم يعملوا صالحاً فبين جزاءهم ومصيرهم، وعلى ضدهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وأما الصالحات فجمع صالحة، وهي كل عقيدة أو نية في القلب تكون صالحة، أو كل كلمة تكون صالحة، أو كل حركة تفعلها تكون صالحة، ومتى تكون صالحة؟ إذا أمر الله بها ووعد بالخير عليها، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم وبين كيف تقال وتعمل فتلك هي الصالحة، أما ما لم يشرعه الله في كتابه ولا على لسان رسوله فمستحيل أن يكون صالحاً.
ثانياً: قد يشرعه الله ويبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكون صالحاً حتى تفعله كما بين الرسول، فإن زدت أو نقصت قدمت أو أخرت فلن يكون عملاً صالحاً؛ إذ لا يصلح نفسك ولا يزكيها، ولو أنك قمت تصلي وأخللت بصلاتك فماذا يقول الفقيه؟ يقول: صلاتك باطلة فأعدها، معناه: ما صلحت، ما تزكي النفس ولا تطهرها، فهذه المسألة تعدل الدنيا وما فيها.
ما هي الصالحات؟ لن يستطيع كائن أن يشرع كلمة ثم يقول: من قالها سبعين مرة دخل الجنة، لن يستطيع كائن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرع لنا كلمة أو حركة ويقول: هذه من العمل الصالح فاعلها تزكو نفسه وتطيب. مستحيل؛ إذ الشرع من حق الله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ [الشورى:13] أما كائن غير الله فليس له أن يشرع، ومن هنا فـ( كل بدعة ضلالة )، هذه كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل بدعة ضلالة، لأنه يقول أو يعتقد أو يعمل مدة زمانه بذلك ولا حسنة واحدة، فهل ضل أم لا؟ ما اهتدى إلى ما يزكي نفسه ويطهرها.
واذكروا الأمثلة التي يلهمنا الله بها، نقول: أوجد الله تعالى حسب سنته لتنظيف أجسامنا وثيابنا وتطهيرها، أوجد مادة الماء والصابون، فهل هناك غيرها؟ هل تستطيع أن تنظف ثيابك أو جسمك بالرمل؟ بالحمأة؟ بالتراب؟ لا، لأن الله ما أودع هذا التراب مادة تطهر الجسم.
إذاً: آمنوا حق الإيمان الذي علمنا أن أركانه ستة وأنه قائم عليها، هذا الإيمان الذي تعبد الله به كأنك تراه، هذا الإيمان يضاف إليه العمل الصالح، فما هو العمل الصالح؟ هل يستطيع مفكر أن يشرع لنا عملاً ما من الأعمال يقول: هذا العمل من عمله زكت نفسه وطابت وطهرت؟ والله ما كان، فلو دعانا أحد إلى أن نطوف بقصر، بقبر، بأي مكان وقال: من طاف به سبعة أشواط فله من الأجر كذا وكذا أو تزكو نفسه، فهل هذا يصح؟ مستحيل، مستحيل أن تطوف بغير الكعبة وتزكو نفسك وتطيب وتطهر، لو أن شخصاً شرع لنا شبه الصلاة حالة من حالات الرياضة وقال: من فعل هذه تزكو نفسه وتطيب فهل يصدق في هذا ويقبل منه؟ مستحيل. فالتشريع حق الله، لماذا؟ لأنه المالك، الأمر أمره والعبيد عبيده والشقاء بيده والسعادة بيده، هو الذي يشرع ويحلل ويحرم من أجل إسعاد البشرية وإدخالها دار السلام.
وهذا ملاحظ كما قلنا في الجهاد، في الرباط، في الصدقات، في الذكر، في الدعاء، في الطواف، في الصيام، في كل العبادات لا يكلفك الله إلا على حسب قدرتك، ما عجزت عنه فلا تكلف به.
وما الجنة هذه؟ هل عندكم في الدنيا بساتين ذات أشجار وظلال ومياه وثمار؟ هذه صورة مصغرة، هل عندكم في الدنيا نار تحرق الثياب والجسم إذا اشتعلت في حطب أو بنزين؟ هذه صورة مصغرة، حتى لا يقول إنسان: ما الجنة أو ما النار؟
الجنة وصفها الرحمن بأن عرضها عرض السماوات والأرض، واقرءوا: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] لو أخذنا السماوات سماء إلى سماء والأرضين السبع أرضاً إلى أرض ووضعناها رقعة كاملة فالجنة أوسع؛ لأن الأرضين والكواكب والسماوات كلها تذوب وإذا بك في عالم علوي أو في عالم -والعياذ بالله- سفلي.
الجنة دار السلام، هكذا اسمها؛ إذ قال تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام:127] لماذا قيل فيها: دار السلام؟ لأن أهلها سالمون من الكِبَر، سالمون من المرض، سالمون من الأتعاب الدنيوية، سالمون من كل أذى، لا يوجد في دار السلام أذى قط، لَهُمْ دَارُ السَّلامِ [الأنعام:127].
الجنة دار الأبرار، من هم أهلها؟ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، فمن هم الأبرار؟ قولوا: نحن إن شاء الله. هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وابتعدوا عن الشرك والسيئات، هؤلاء هم الأبرار، بروا وصدقوا، أصحاب البر والخير.
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا [الأعراف:42] أي: في الجنة خَالِدُونَ [الأعراف:42] باقون أبداً، إذ -والله- لا موت ولا فناء ولا زوال، ومن دخل الجنة والله لن يخرج منها أبداً.
إذاً: أول رائد عرفته البشرية للسماء ما هو شيطان روسيا لعنة الله عليه ولا الأمريكاني، والأمريكاني على كل حال أعلن عن أنها مؤامرة وكذب، قال: ما طلعنا الفضاء ولا رأيناه، كلها تمثيليات في الجبال، قالها منذ ثلاث سنوات أو أربع وسكتت الدنيا كلها، إلا أن الصين بما أنها كانت ضد الدولتين العظيمتين: الروس والأمريكان أيام إثارة الصعود إلى القمر، وجماعة العرب يصفقون كأنهم فرحوا بما يكذب الإسلام والمسلمين، حتى قالوا: من يحجز تذكرة إلى السماء؟ حينها كتبت مجلة صينية تصفحتها تقول: هذه مؤامرة بين الدولتين من أجل السيطرة على العالم، وكل الذي قالوه كذب وباطل، ما هي إلا تمثيليات تمت على الجبال فقط.
والحمد لله فقد وقفنا موقفاً مشرفاً وقلنا: لن نكذبكم ولن نصدقكم، وإن قلتم: لم؟ قلنا: هل صدقتم رسول الله في الإسراء والمعراج؟ ما صدقتم، كفرتم به وكذبتموه.
إذاً: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:42].
ويروى أن علياً رضي الله عنه قال: هذه الآية في وفي عثمان وطلحة والزبير . لأنه كان في نفوسهم بعض الشيء من بعضهم على بعض، قال: فإذا دخلنا الجنة نزع الله ذلك لتبقى الأرواح طيبة والنفوس طاهرة، إذا كنت في الجنة وفي نفسك شيء ما تسعد ولو أكلت أعظم الأكل وأطيبه، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47].
إذاً: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الأعراف:43] الأنهار تجري من تحتهم، حين نكون جالسين الأنهار تجري من تحتنا، حين نكون في قصورنا ومنازلنا والأنهار تجري تحتها، لا تفهم أنها تجري من تحتهم وأنهم جالسون، هذا فهم البسطاء، تجري من تحتهم الأنهار وهم في قصورهم الشاهقة والأنهار تحتهم يشاهدون المياه العذبة البيضاء، وهذا من تمام النعيم.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ [الأعراف:43] الأنهار: جمع نهر، الماء الكثير، وهل تعرفون أن بالجنة أربعة أنهار؟ قال تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، أربعة أنهار: نهر الماء الزلال، نهر اللبن الخالص، نهر الخمر اللذيذة، نهر العسل، هذا جاء من سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15] واللبن قد يتغير طعمه فيحمض، حين يبقى يومين لا يشرب، وهذا أنهار تجري طول الدهر بلا نهاية.
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ [محمد:15] ما قال: من خمر فقط؟ لأن الخمر ما فيها لذة في الدنيا أبداً، لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15].
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] من الشمع ومن كل ما يشوبه أو يختلط به.
لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:43] ما هذا الحق الذي جاءت به الرسل؟ الإيمان والعمل الصالح، دعوا البشرية إلى أن تؤمن بربها وبما يجب أن تؤمن به، ودعوها إلى فعل الصالحات والتخلي عن المخبثات للنفس من الذنوب والسيئات، ووعدوا الناس باسم الله بالجنة دار السلام، وتوعدوا المجرمين والمشركين بالنار، فهل صدقوا أم لا؟
هذا اعتراف أهل الجنة: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:43] من الذي أرسل محمداً؟ الله. من الذي أرسل عيسى وموسى قبله؟ الله، لا يدعي أحد الرسالة إلا إذا كان الله قد أرسله وإلا فهو دجال وكذاب.
يا معاشر المؤمنين! لا بد من العمل الصالح، الجنة ثمنها الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] بماذا؟ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، أورثتموها بما كنتم تعملون، هذه الباء -يا معشر المستمعين- ليست باء العوض كقولك: اشتريت السيارة بألف ريال، اشتريت الدار بمليون، هذه باء العوض ليست هنا، هذه باء السبب فقط، أي: بسبب أعمالكم؛ لأن أعمالنا زكت أنفسنا وطيبتها وطهرتها وبذلك أصبحنا أهلاً للجنة، أما العمل على (خذ يا رب وأعطنا) فلو تعبد الله ألف سنة وأنت قائم فتلك العبادة ما تساوي نظرة إلى الجنة، وقد أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موضع سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: ( قاربوا وسددوا ) وقال: اعملوا، ماذا نعمل يا رسول الله؟ الصيام، الصدقة، الزكاة، الحج، العمرة، العبادات.
( قاربوا وسددوا ) ذكرنا أنه لا تكلف نفساً إلا وسعها، لا إفراط ولا تفريط، سددوا وقاربوا، وقد عرفنا السر، فأنت تريد أن تعبد الله مائة سنة، ألف سنة وتقول: أعطني مقابل هذا، فماذا يعطيك؟ الدار في الجنة ما تستحقها، ومن هنا علمنا أن هذه الأعمال حقيقتها أنها تزكي النفس وتطهرها، فمن آمن وعمل الصالحات وتجنب الشرك والكفر والسيئات زكت نفسه وطابت وطهرت وأصبحت أهلاً لأن يقبلها الله في الملكوت الأعلى، هذه هي الحقيقة، أعمالنا، أقوالنا، عباداتنا شأنها أنها تغسل أرواحنا لتصبح كهذه الأنوار، أو كأرواح الملائكة في صفائها وطهرها، وبذلك يأذن الله لها بدخول الجنة والخلد فيها.
وحكم الله في هذه القضية في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، من يراجع الله في هذا الحكم؟ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، قد أفلح: فاز بالنجاة من النار وبدخول الجنة عبد أو أمة زكى نفسه. يا شيخ! كيف أزكي نفسي؟ ما هي مواد التزكية؟ دلونا عليها، في أية صيدلية؟
الجواب: النفس تزكو على مادتين: الإيمان والعمل الصالح، فإذا زكيتها فاحفظ زكاتها، لا تصب عليها الأوساخ أو المزابل، حافظ على زكاتها وطهرها حتى يتسلمها ملك الموت وهي كأرواح الملائكة.
الجواب: هذه من الضروريات، لكن إخواننا الذين ما يشهدون هذا العلم لا يعرفون كيف تورث الجنة؟ فاسمعوا:
إن الله وهو العليم الحكيم أوجد عالمين، وبعبارة فصيحة أو قريبة: أوجد مدينتين: مدينة خاصة بالصالحين وأخرى خاصة بالفاسدين على قدر أعدادهم لا زيادة ولا نقص، ثم من أساء من أهل هذه الدار ينقله للأخرى والآخر ينقله إلى هذا فيرثه، فالجنة والنار كلتاهما فيهما مقعد ومنزل لكل آدمي وجني، فإذا آمن عبد الله واستقام وعصاه عثمان وفلان يرث هذا المؤمن مكان ذلك وهو يرث مكانه في النار، وراثة كاملة.
أقول: ما من أحد من الإنس والجن إلا وله مقام في الجنة وآخر في النار، فإن استقام بالإيمان والعمل الصالح نزل في هذه، وإذا ما استقام نزل في الأخرى، إذاً: وما دامت محدودة المقاعد على قدر البشر والجن فحينئذ الذي استقام بالإيمان والعمل الصالح ورث مكان ذاك المجوسي أو اليهودي الذي كان له هذا المكان فنزل مكانه الذي كان له في النار. إذاً: قال تعالى: وَنُودُوا [الأعراف:43] ناداهم ربهم نداء من قبله، ماذا قال؟ أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43].
وأعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ( إذا دخل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، ويذبح بين الجنة والنار ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت ).
ثم أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة يشاهدون أهل النار، وأن أهل النار يشاهدون أهل الجنة، والآن لا تقل: كيف وأنت تشاهد شاشة التلفاز، فالناس من قبل كانوا يؤمنون فقط، والآن لا تقل: كيف؟ فأنت في قصرك وتشاهد الناس في السجن وهم يعذبون، أليس كذلك؟
قال تعالى من سورة الصافات: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات:51] زميل، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ [الصافات:52] أنت من جماعة المؤمنين، كما يقول بعض جهال العرب، واحد يقول: أنت من المصلين، وآخر يقول: من المتزمتين، وآخر يقول: من الرجعيين. أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:52-53] بعيد هذا ومستحيل، بعدما نصبح عظاماً نبعث ونجزى؟
فقل له: يا كلب! روحك ما هي في عظامك، روحك شيء وعظامك شيء ثان، تنقل الروح وتوضع في مكان آخر.
فالشاهد عندنا: جهلهم، فقال هذا المؤمن: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54] هؤلاء جماعة في الجنة يتكلمون، فذكروا أيام الدنيا هذه وقال قائل منهم: إني كان لي قرين في الدنيا يقول: أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:52-53]، أي: مجزيون بأعمالنا، فهل أنتم مطلعون؟ قالوا: لا نطلع، لن نرى وجوههم، فاطلع هو: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55] وجرت بينهما مكالمة بالحرف الواحد، وإليكموها:
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات:56] أي: تهلكني معك، كان يزين له الزنا والباطل والربا والكفر والشرك والضلال، تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات:56-57]، ثم قال: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الصافات:58-59]؟ شاهدت هذا الآن أم لا؟ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصافات:60] والشاهد عندنا: أن أهل الجنة يشاهدون أهل النار ويعرف أن فلاناً نزل مكانه وورثه، ومن ثَمَّ يقول: لولا أن هدانا الله، فيحمدون الله عز وجل، والكافر يقول: آه لو هدانا الله! فيصاب بالحزن والكرب.
أعيد تلاوة الآيتين الكريمتين، فاسمعوا، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [الأعراف:42] لا تقل: ما نستطيع أن نصوم الدهر كله. لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:42-43] أما أعلمتهم بالجنة والنار وما يجري؟ قالوا: لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43] من الصيام والصلاة والصدقات والذكر والدعاء والحب في الله والبغض في الله وما إلى ذلك من الصالحات المزكية للنفس المطهرة لها.
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: الإيمان والعمل الصالح موجبان لدخول الجنة مقتضيان للكرامة في الدارين ] في الدنيا والآخرة، وهل المؤمن العامل الصالح في الدنيا مهان؟ كلا أبداً، كرامته أعلى الكرامات.
[ ثانياً: لا مشقة لا تحتمل في الدين الصحيح الذي جاءت به الرسل إلا ما كان عقوبة ] فقط، لا توجد مشقة في الدين الصحيح أبداً، وهي العمل الذي ما يطيقه الإنسان ويعذب به، إلا إذا كان عقوبة من الله، عصاه فأمرضه أو كذا أو أقام عليه الحد.
[ ثالثاً: لا عداوة ولا حسد في الجنة ] أبداً، وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43].
[ رابعاً: الهداية هبة من الله فلا تطلب إلا منه ]، أما قالوا: لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]؟ [ ولا يحصل عليها إلا بطلبها منه تعالى ]، لا يمكنك أن تظفر بالهداية ولو طلبتها من الناس أجمعين، ولكن إذا طلبتها ممن يقدر عليها ويملكها أعطاك إياها، إذ قالوا: لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
[ خامساً: صدقت الرسل فيما أخْبَرَتْ به من شأن الغيب وغيره ]، اعترف أهل الجنة بأن الرسل صدقوا بما أخبروا به عن الله وعن الدار الآخرة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر