وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوان! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
ومن أراد أن يتأكد فليقف الآن ولينظر إلى هذه الجماعة المؤمنة هل تشاهد فيها منكراً أو باطلاً؟ هل ترى فيها عذاباً؟ ولو كنت تبصر وبصرك يقدر على رؤية الملائكة والله لرأيتهم يحفون بهذه الحلقة، أما ذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى فهو أمر أكيد مقطوع به، إذ أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها نحن مع سورة المائدة المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا أتلو واستمعوا وتدبروا وتأملوا، ثم نأخذ في بيان هدايتها عسى الله أن يهدينا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [المائدة:64-66].
وَقَالَتِ الْيَهُودُ [المائدة:64]، ماذا قالوا؟ قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، قالها فنحاص وغيره من شياطينهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، يعني: ما ينفق علينا ولا يعطينا! شطحات الهاوين، وهل يوصف الله بهذا الوصف؟ هل يصفه بهذا إلا كافر؟ وهم يدعون الإيمان ويدعون العلم، ويقولون: الله بخيل وشحيح وما ينفق علينا ونحن نعاني الفقر والحاجة والجوع، قال هذا بعض اليهود وطأطئوا رؤوسهم وما أنكروه ووافقوا من قال، فكلهم قالوه إذاً.
إذا ظهر منكر في بلد من بلاد المسلمين فكل الذين سمعوا به وما أنكروه يعتبرون فاعليه ومن أهله، فليس اليهود كلهم قالوا هذه المقالة، قالها فنحاص وفلان وفلان من رؤسائهم، لكن سائرهم ما قالوا: هذا باطل وهذا منكر ولا تقل مثل هذا، وتعالى الله عن البخل والشح. بل سكتوا، إذاً: فكلهم قالوا.
تأملوا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، ماذا قال الله؟ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة:64]، ثم ماذا؟ وَلُعِنُوا [المائدة:64]، بسبب ماذا؟ بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، فكيف لا نفهم هذا الكلام؟!
ثم قال تعالى إضراباً عن تلك الأباطيل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، أنفق منذ أن خلق الخلق إلى اليوم ما لا يقادر قدره ولا يحصى عدده، ولا يعرف أبداً، أنفاسناً هذه عطيته، طعامنا شرابنا لباسنا كل هذا إنفاق الله عز وجل، ومع ذلك قالوا: يده مغلولة! بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، هذا يغنيه وهذا يفقره، لماذا؟ لأني عليم حكيم أتصرف بحسب العلم والحكمة، أبتلي بالغناء وأبتلي بالفقر، وحاشاه تعالى أن يتصرف في شيء بدون علمه وحكمته، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، ينفق كيف يشاء، وأخبر عنه نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فقال: ( يد الله سحاء الليل والنهار ).
وقوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، إياك أن يخطر ببالك أن يدي الله كيدي المخلوقات، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، إذ قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ومستحيل أن تكون يد الله مثل يد مخلوقاته.
وعندنا أمثله للعامة ليفقهوا، نسأل الله ألا يؤاخذنا عليها، بل نسأله أن يثيبنا عليها، فنقول: لا تعجب، فأنت تؤمن بالنملة، فإذا قلنا: للنملة يد فهل يد النملة تشبه يدك؟ مستحيل هذا، إذاً: فصفات الله الذاتية كذاته لا تشبه صفات مخلوقاته بحال من الأحوال.
وتقدمت الآية الكريمة: وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة:61]، كيف يسمعون من رسول الله هم والمؤمنون، فالمؤمنون يزيد إيمانهم وهم يزدادون كفراً؟ لأن الله لعنهم، فسدت عقولهم.
اسمع ما يخبر به تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [المائدة:64] يا رسولنا مِنْ رَبِّكَ [المائدة:64] من القرآن، لا يزيدهم إلا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة:64]، طغيان بالظلم والشر والفساد والكفر والجحود والإنكار؛ لأنهم فسدوا وهبطوا، أصبحوا شر البرية، وإلا فالمفروض أن كل من يسمع القرآن يزداد إيمانه وشوقه إلى ربه وإلى طاعته.
الجواب يا بصراء يا أهل العلم: أن النصارى فقدوا عقيدتهم، تحللوا وذابوا في الماديات فما أصبح في قلوبهم ذاك الإيمان الذي يحملهم على بغض من قتلوا إلههم وصلبوه، انتهى بيد اليهود، هم الذين أنشئوا وأوجدوا المذهب البلشفي الشيوعي اللاديني: لا إله والحياة مادة، من طلع بهذه الفتنة؟ هل الأوربيون قبل كل شيء أم لا؟ هجروا الكنائس تغني بها الطيور والحمام، فمن فعل بهم هذه؟ فعلها اليهود حتى يسخروهم ويركبوا على ظهورهم ويسودوهم وهم حفنة من البشر بالمكر والحيلة والخداع.
أما الذين ما زالوا مؤمنين فوالله ليحملن البغضاء والعداء لليهود إلى يوم القيامة، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:64]، فقولوا: صدق الله العظيم!
قلت لكم: صدق الله العظيم؛ فالعداوة والبغض والكره بين اليهود مع النصارى والله لا تزال إلى يوم القيامة، فإن قلتم: ها نحن نشاهد النصارى في أمريكا وفي كل مكان يودون اليهود ويحبونهم؟ فالجواب: إن الذين يودونهم تخلوا عن عقيدتهم الصليبية وكفروا بها، ما أصبحوا يؤمنون بها، أما تعرفون الشيوعيين والعلمانيين؟ هل يؤمنون بالله؟ لا.
إذاً: هؤلاء أصبحوا كالبهائم سخرهم اليهود، هم الذين بهموهم بهذه المعتقدات وأصبحوا تحت أرجلهم، لو تراجع النصارى من جديد إلى الصليبية والنصرانية الحقة والله لفعلوا العجب باليهود، كانوا يقلونهم كالسمك في الزيت، ما يستطيع المسيحي أن ينظر إلى اليهودي بعينيه؛ كيف ينظر إلى قاتل ربه؟! كيف يرضى عنه؟! ومن ثم هربوا إلى بلاد العرب.
فقول ربنا: وَأَلْقَيْنَا [المائدة:64] الفاعل هو الله، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:64]، هذا تدبير الله في خلقه.
إن الحاكم الفرنسي أيام الاستعمار زارنا في القرية منذ حوالي سبعين سنة أو ثمان وستين سنة، امرأته الفرنسية على وجهها برقع أسود كالمرأة عندنا في المدينة، وإلى الآن في الجبال وفي الغابات المرأة الأوروبية ثوبها إلى كعبها، فمن مسخهم حتى صارت المرأة نصف عريانة؟ تخطيط من هذا؟ هل تخطيط السادة رجال الكنسية؟ لا والله، إنهم اليهود، هذا من الفساد الذين يسعون به، فلماذا يسعون في الأرض فساداً؟
الجواب: لأنهم يريدون أن يحكموا العالم، أن تعود مملكة بني إسرائيل في الشرق والغرب، فكيف يصلون إليها وهم حفنة من بين البشر؟ يصلون إليها من طريق إهباط البشرية وإنزالها إلى الحضيض، ويومها هم أصحاب العقول والآراء والبصيرة يحكمون ويسودون.
وكيف تهبط البشرية؟ تهبط بإفساد قلوبها، وإفساد عقولها، عندما تساق إلى البهيمية، وتصبح لا هم لها إلا الزنا والباطل والشر حينئذ يمكنهم أن يسودوا.
فإن قلت: يا شيخ! دلل على هذا وبرهن. قلت: هل أنشئوا دولة إسرائيل في فلسطين أم لا؟ فمتى أنشئوها؟ هل في القرون الذهبية الثلاثة، متى؟ هل في أيام الدولة العثمانية في أنوارها الساطعة في العالم، لا؟ بل لما مزقوا العقيدة وشتتوا القلوب، وشتتوا الأمة ووطئوها بأقدامهم أنشئوا دولة إسرائيل.
لو كان المسلمون كما كانوا أيام كانوا سائدين وعابدين لله فهل سيستطيعون أن يظهروا حتى الظهور أو يتكلموا، لما شاهدوا العالم الإسلامي تحت أقدام الاستعمار هبط وانتكس ونسي ربه حينئذٍ أعلنوا عن دولة إسرائيل، والواقع يشهد: فهل استطاع العرب أن يضربوهم ويخرجوهم في الأيام الأولى من فلسطين؟ ما استطاعوا، لأنهم أموات، إنهم اليهود بخططهم وتعاليمهم ومكرهم وخداعهم، فلا إله إلا الله!
فالذين ينشئون المخامر لإنتاج الخمر هل يفسدون أو يصلحون؟ والذين ينشئون دور القمار واللهو والباطل بين المسلمين يفسدون أو يصلحون؟ جماعات التلصص والحيل والمكر في التجارة وغيرهم هل يصلحون أو يفسدون؟ والذين ينشئون البنوك الربوية ويعلنون عنها ويتبجحون بها هل يفسدون أو يصلحون؟
وقد يقول قائل: هذا كلام باطل يا شيخ، ما شأنك وهذا الكلام؟ فالبنوك لها أثرها!
وأقول: البنوك لها أثرها في ماذا؟ في الدولة وبقائها وامتداد سلطانها، يا أبناء الإسلام! ويا رجالات الإيمان! البنوك معناها ذبح الفضيلة، دفن الحسنة، تمزيق الصلات القلبية والروحانية، القضاء على التلاقي والود والحب بين المسلمين، هذا تخطيط بني عمنا اليهود أعلم الناس بهذه القضية، أهل القرية الإسلامية قبل أن توجد البنوك كان الذي عنده مال يستقرضه أخوه فيقرضه، وأخوه رباني مؤمن صادق يأتي به في موعده الذي وعده أن يرده إليه، ويفيض المال، فماذا نصنع؟ يقال: يا فلان، يا فلان! تعالوا خذوا هذا المال وأنشئوا به حديقة من حدائق كذا، أو أنشئوا مصنعاً ولو لنسج السجاجيد، وتتراحم الأمة.
فقال اليهود: كيف نقطع هذا التراحم، كيف نزيله فنتركهم أعداء لا يثق بعضهم ببعض ولا يعطي بعضهم لبعض؟ هذا السؤال طرحه اليهود وألهمهم الشيطان وقال: أنشئوا لهم البنوك، ضع مالك لينمو لك ويزيد وتأمن من خطفه ومن سرقته بين الناس، وإذا أردت أن تزرع أو تنشئ فخذ من البنك بفائدة معلومة معروفة وأنشئ وأنشئ، فهذا -والله- إنه لمن خطط اليهود، أما قال ربنا: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة:64]، والله لا يحب المفسدين، اليهود مفسدون فالله لا يحبهم.
ثانياً: وَاتَّقَوْا [المائدة:65]، اتقوا عذاب ربهم وسخطه وغضبه عليهم وذلك بطاعته في السر والعلن.
فماذا يعدهم الله؟ يقول تعالى: لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [المائدة:65]، جرائمهم لكذا ألف سنة كلها نمحوها، فهذا عطاء الله أم لا؟ على هذه الآية -والله- آمن العديد من اليهود والنصارى.
اسمع هذا الوعد الإلهي: يقول تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا [المائدة:65]، أولاً، وَاتَّقَوْا [المائدة:65] ثانياً، لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، إذاً: ما الذي صرفهم عن الجنة؟ الكفر: عدم الإيمان، والفجور: عدم التقوى، وسر ذلك معروف كالشمس؛ لأن المؤمن المتقي يزكي نفسه ويطهرها فتصبح أهلاً لأن ينزلها الله في منازل الأبرار في الجنة دار المتقين، والذي كفر وجحد كيف يعبد الله، والذي فجر وخرج عن طاعة الله كيف تكون نفسه؟ تكون منتنة عفنة مدساة مظلمة، فهيهات هيهات أن تفتح لها أبواب السماء أو تدخل الجنة: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، هل البعير يدخل في سم الإبرة؟ مستحيل، فصاحب النفس الخبيثة من جراء الشرك والمعاصي نفسه خبيثة، فمستحيل أن تفتح لها أبواب الجنة.
هل تذكرون قول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت )، وهو يشير إليه، ( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، هل يمكن أن نحفظ هذا الحديث؟ يجب حفظه، لماذا نحفظ الأغاني والباطل والكذب ولا نحفظ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟
( من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، يمحى عنه كل ذنب أذنبه كيفما كان نوعه، ها هو الآن أعطى لليهود أهل الكتاب: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [المائدة:65]، فهل نحرم نحن من هذا؟
يقول صلى الله عليه وسلم: ( من حج هذا البيت )، حجه: زاره على أنظمة وتعاليم بينها الله ورسوله؛ لا أنه يحجه فقط كما يحب هو، وإليه تلك التعاليم:
أولاً: الإحرام والتجرد كأنه ذاهب إلى قبره، لا مخيط ولا محيط.
ثانياً: كلمة: لبيك اللهم لبيك، أجبتك يا من دعوتني، أجيبك مرة بعد مرة، إذ الله دعانا إلى بيته، واقرءوا: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27].
ثم دخولك مكة وأنت مطأطئ رأسك إجلالاً وإكباراً لحرم الله وبيته، ونفسك وقلبك مع الله، ولسانك تذكر به الله، وتطوف الطواف الشرعي كما بين رسول الله، تكون متطهراً ليس منتقض الوضوء، وإن كنت ذا عذر تيممت، وإن استطعت أن يكون أول عملك الطواف فافعل، تقف أمام الحجر الأسود وتقول: باسم الله والله أكبر، لا إله إلا الله، وتوالي الذكر، وكلما مررت بالحجر الأسود إن أمكنك أن تقبله بفمك فافعل، وإلا فإن استطعت أن تضع يدك عليه ثم تضعها على فيك فافعل، فإن لم تستطع لكثرة الطائفين فتشير من بعيد.
هذا الحجر الأسود هو يمين الله في الأرض، كأنما بايعت الله، وقد روي: أنه نزل من الملكوت الأعلى من الجنة، أليس أبونا آدم كان في الجنة هو وامرأته، ومن أهبطهما إلى الأرض، ومن بنى لهما البيت؟ إنه الله تعالى بأمره لملائكته؛ حتى يذهب ذلك التألم النفسي وتلك الوحشة من نفسيهما.
هذا الطواف سبعة أشواط، فإن أمكن أنك تهرول ثلاثة أشواط وتمشي في الأربعة الأخرى فافعل، لكن مع كثرة الحجاج غير ممكن، وهي فضيلة من الفضائل، ولكن لا ننسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة )، فالاضطباع رمز يشير إلى القوة، ليشعر المؤمن بأنه قوي يستطيع أن يأخذ ويعطي، والهرولة كذلك إظهار للقوة؛ لأن المشركين قبل فتح مكة في عمرة القضية في السنة السابعة قالوا: إذا رأينا ضعفاً في محمد ورجاله فسننكب عليهم وندمرهم. فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم فقال في بيانه الرسمي لرجاله: ( رحم الله امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة ) فشرعت السرعة في الثلاثة الأشواط الأولى.
وبعد ختام الأشواط السبعة صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم، هذا المقام الذي كان إبراهيم يقوم عليه ويواصل بناء الكعبة، وإسماعيل يناوله الحجارة والطين، هذا الحجر ساخت فيه قدما إبراهيم آية من آيات الله، حجر من جبل أبي قبيس تسيخ فيه الرجل؟ أي نعم، آيات الله عز وجل، أما قال تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، وتخلد هذه القدم إلى اليوم باقية إلى يوم القيامة، ما استطاع اليهود ولا العالم ولا الشيوعية التي تحطمت أن تأخذه، فمن حفظه؟ إنه الله جل جلاله.
إذاً: صلاة ركعتين خلف المقام تقرأ في الأولى بالفاتحة و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وفي الثانية بالفاتحة و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وادع بما شئت، فإذا فرغت من الركعتين تخرج إلى السعي، وابدأ بالصفا؛ لأن الله قال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158]، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( نبدأ بما بدأ الله به )، لا تعكس، ابدأ بالصفا وانته بالمروة، سبعة أشواط وأنت تذكر الله وتدعو طيلة ما أنت هناك، وإن تعبت فاصمت واسكت.
واحذر أن تقول كلمة سوء أو تنظر نظرة سوء، فإذا فرغت من السعي وكنت محرماً بالعمرة فاخرج إلى ما وراء المسعى وحلق شعرك أو قصه، وإن كنت مفرداً أو قارناً فابق على ما أنت عليه، اذهب إلى بيتك فاسترح أو إلى المسجد وأنت تلبي؛ لأنك قارن أو مفرد، كلما أتيحت الفرصة قلت: لبيك اللهم لبيك.
إذاً: إن كنت متمتعاً حلقت أو قصرت ولبست لباسك وتمتعت بالطيب وغيره؛ لأنك متمتع، فإذا جاء يوم الثامن من شهر ذي الحجة فالمفردون على إحرامهم والقارنون كذلك، والمتمتعون يغتسلون ويتجردون، ويلبي الجميع بالحج: لبيك اللهم لبيك حجاً، ثم ينطلقون إلى منى، فيصلون الصلوات الخمس، وهي انتقال من مكة والزحام فيبيتون هذه الليلة يستريحون، ثم يصلون الصبح يوم التاسع يوم عرفة ويفيضون إلى عرفة ماشين أو راكبين، يدخلون عرفة، وما عرفة هذه؟
قيل: تعارف آدم وحواء فيها، وتسمى عرفات بالجمع أيضاً، لما هبط آدم من علياء من الجنة، لو طارت طائرتك ألف سنة ما تصل، سبعة آلاف وخمسمائة عام وأنت طائر، لكن قول الرب: كن فيكن، آدم في جهة وحواء في جهة والتقيا هناك وتعارفا.
هذه عرفات، يومها من أعظم الأيام عند الله، يومها يتجلى فيه الرب عز وجل ويقول لملائكته: انظروا إلى عبيدي أتوني شعثاً غبراً ويغفر لهم، يوم هذا من أفضل الأيام: يوم عرفة، ترى عبيد الله وإماءه مهللين مكبرين داعين صارخين بالبكاء والدعاء والذكر طول اليوم من الزوال إلى ما بعد غروب الشمس وهم وقوف يستمطرون رحمة الله عز وجل، فأكثروا فيه من الدعاء بالخير، فالله يستجيب دعوة العبد ما لم يدع بشر أو قطيعة رحم.
هذا اليوم وقف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الزوال إلى أن غابت الشمس وغربت وهو واقف، وجبل الرحمة لا تعلوا فوقه ولا تقلدوا العوام والجهال، فالرسول وقف تحته، المهم أن نقف ذاكرين باكين خاشعين، وأنبه إلى أن أهل الجهل -والشياطين تقودهم- يأتون بآلات التصوير فيصورون هناك، ألا لعنة الله عليهم، ألا لعنة الله عليهم! إذ قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( لعن الله المصورين )، فلا تسمحوا لهم.
إنما أذن فيه اليهود، لو بحثتم في التاريخ -وإن قلتم: في بلغاريا أو في البرتغال- لوجدتم أصابع اليهودية.
فالمؤمن طاهر نقي، فكيف يعفن فمه ورائحته؟
فالشاهد عندنا أنه إذا أحرمت فلا تدخن وإلا فسوف تعود كما جئت، وعندنا دليل: إذا رجع الحاج فأصبح يفعل ما كان يفعله من الباطل والمنكر فتلك آية أن ذنوبهم لم تغفر، والله العظيم! ما غسلت روحه ولا طابت ولا زكت، فلهذا عاد إلى الذنب، وإذا حج حجاً قبله الله فإنه والله يعود إلى بلاده فتجد الناس يقولون: هذا سيدي الحاج، الحاج ما يكذب، الحاج ما يسرق، الحاج ما يترك صلاة. هذا أيام كانوا يحجون وينفقون الأيام والليالي، يرجع الحاج مستقيماً آمناً مطمئناً، والله إنه ليشار إليه بالأصبع، أما الذي يدخن في بيت الله ومسجد رسول الله ويعبث فإنه والله يعود وذنوبه كما هي، فلا تدخين إلى يوم القيامة.
وإن قلتم: ولم يا شيخ؟! قلت: صلاتكم مشكوك في صحتها، فالصحابة الكرام كانوا يتوضئون مما مست النار، وما صلى الرسول صلاة إلا توضأ فيها، وما زالت الكراهة قائمة، فمن استطاع أن يتوضأ عندما يأكل اللحم أو الطعام فليفعل، فهو مستحب.
فكيف إذاً بالذي يدخل النار في جوفه، كيف تصح صلاته؟ أما ينتقض وضوؤه؟ لقد جهلونا وفعلوا فينا الأعاجيب، ولكن رزقنا الله أهل العلم فعلمونا وبصرونا فعرفنا أن التدخين رذيلة من رذائل الشياطين وعبث وسخرية وإفساد للمال والعياذ بالله تعالى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر