أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وها نحن مع هذه الآيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ونتدبر ونتفكر ثم نتدارسها إن شاء الله.
قال تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:102-106].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يوسف:102] المخاطب هنا النبي صلى الله عليه وسلم.
أي: ذلك الذي قصصنا عليك من قصة يوسف وما فيها من أحداث محرقة ومشرقة ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يوسف:102]، فلو لم تكن رسولاً نبياً ما كان أبداً من شأنك أن تقص هذا القصص.
فالذي يصغي ويستمع قصة يوسف ويعلم على من نزلت يحلف بالله على أن محمداً رسول الله، والمشركون يترددون والكافرون معرضون!
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ [يوسف:102] وأخباره العجيبة الغريبة نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يوسف:102] بواسطة الوحي، فإما أن يأتي جبريل عليه السلام بالسورة أو الآيات، أو يلقي الله تعالى في روع رسول الله فيفهم عن الله.
إنهم إخوة يوسف الأحد عشر رجلاً، وهل عاصر النبي صلى الله عليه وسلم يوسف ويعقوب وبينهما آلاف السنين؟
من أين له وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب أن يقص هذا القصص لو لم يكن وحياً أوحاه الله إليه؟
وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم على أن يقتلوا يوسف أو يبعدوه من أبيه أو يلقوه في غيابة الجب، وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف:102] ويكيدون ويدعون أنهم يريدون أن يخرجوا به للتنزه وليشم رائحة الصحراء، يقولون لأبيهم هذا ليسمح لهم بأن يخرجوا بيوسف.
فحال هذا المكر هل كنت حاضراً يا رسولنا؟ هل كنت بينهم؟ لا. إذاً: من أعلمك؟ الله.
إذاً: أنت رسول الله، فالآية تقرر أن محمداً رسول الله، ولا ينكر هذا إلا أحمق أو مجنون أو ميت الضمير والعقل.
ذلك الذي سمعت من السورة من أولها إلى هذه الآية من أنباء الغيب نوحيه إليك يا رسولنا، وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ [يوسف:102] عندهم وبينهم في الوقت الذي أجمعوا فيه أمرهم على أن يبعدوا يوسف من أبيه.
وقد عرفنا سبب هذا الإبعاد: إنه الحسد، كيف يبلغ يوسف هذا المبلغ من أبيه فيظفر بوجه أبيه ونحرمه نحن؟ يظفر بحب أبيه ونحرمه نحن؟
حملهم الحسد على أن كادوا ومكروا والله عليم بمكرهم، والرسول ما كان معاصراً لهم ولا في ديارهم، ولكن الله أعلمه ليقرر بذلك نبوته، وأنه حقاً رسول الله؛ فيجب على كل ذي عقل أبيض أو أصفر أن يؤمن بأن محمداً رسول الله، وإلا فكيف يقص هذا القصص؟ مستحيل لو لم يكن نبياً ورسولاً.
هذه البراهين، هذه الحجج، هذه الأدلة ما نفعتهم، فأكثر الناس لا يؤمنون ولو حرصت على إيمانهم وبذلت كل طاقتك وجهدك في سبيل هدايتهم، لا يؤمنون.
أكثر الناس الآن كافرون، وقبل الآن وفي عهد نبوة رسول الله وأيامه أكثر الناس لا يؤمنون.
والسبب المانع لهم من الإيمان: شهواتهم، أطماعهم، دنياهم، أهواؤهم، لا يستطيعون أن يؤمنوا ليغتسلوا في الليلة الباردة وليخرجوا أموالهم لا يريدون إلا وجه الله، ولا يستطيعون أن يتنازلوا عن شهواتهم وأطماعهم.
هذه الموانع هي التي تمنعهم من الإيمان، وإلا فأي شيء يمنع من الإيمان؟ ما يمنعهم أن يدخلوا في الإسلام وفي نظامه وقوانينه فيحلوا ما أحل الله ويحرموا ما حرم؟ إنهم لا يريدون ذلك.
إلى هذه الساعة اسأل يهودياً.. مسيحياً صليبياً.. مشركاً، وقل له: لم لا تؤمن؟ فستجد أنه يخشى أن يتنازل عن دنياه كلها.
وأكثر من هذا أن المسلمين معرضون عن الإسلام الحق.. عن شرائعه.. عن مبادئه.. عن تعاليمه، لماذا؟ لأنهم مصرون على الحنث العظيم، على الكذب والشرك والنفاق، لا يريدون أن يقبلوا على الله بوجوههم وقلوبهم.
هكذا يخبر تعالى وخبره الحق: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ [يوسف:103] يا رسولنا بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
وفيه تسلية للرسول وتعزية وتخفيف من الهم الذي يحمله في نشر هذه الدعوة وإبلاغها البشرية.
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] إلى الآن أيها الداعي في قريتك.. في بلادك! اعلم أن أكثر الناس لا يتبعونك، أتباعك أقلية دائماً؛ لماذا؟ لأنك تأمرهم أن يستقيموا وهم معوجون لا يستطيعون أن يستقيموا.
هل يغلقون بنوك الربا ويخرجون يحرثون في الأرض ويزرعون؟! لا يستطيعون.
ما كان يقول: أعطوني إبلكم أو أغنامكم أو حلي نسائكم حتى تدخلوا معي في الإيمان والإسلام.
وما تسألهم على دخولهم في الإسلام وقبول الإيمان من أجر أبداً، ولا يحل لمؤمن أن يبلغ دعوة الله بأجر، بل يقدمها لهم مجاناً، ولو كانت بأجر فسيعذرون، حيث سيقولون: ليس عندنا ما يطالبنا به هذا الرجل، يقول: أعطوني كذا أعطوني كذا! ونحن لا نستطيع، فلهذا رفضنا دعوته وأعرضنا عنها ولا نقبل عليها، لكن -والله- ما كان يسألهم ولا كأس من الماء.
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ [يوسف:104] أي: على هذا الدين.. هذه الدعوة.. هذا البلاغ.. الإيمان بالقرآن وبما جاء به، ما تسألهم من أجر قل أو كثر.
إِنْ هُوَ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف:104] أي: ما القرآن إلا ذكر وعلم وموعظة وبيان للعالمين أبيضهم وأسودهم، بل إنسهم وجنهم.
القرآن ذكرى، من قرأه، من تدبره، من استمع له عرف الحق؛ فإن وفق لذلك أخذ بالحق وسار في طريقه، وإن حرم ذلك لقضاء الله وقدره ينتكس ويعرض والعياذ بالله.
إِنْ هُوَ [يوسف:104] أي: ما القرآن الذي تحمله إِلَّا ذِكْرٌ [يوسف:104] فقط ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف:104] يذكرون به ربهم ومصيرهم وحالهم في دنياهم وأخراهم ويتعظون بذلك.
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:105] مئات الآيات في السماوات والأرض: الكواكب، الشمس، القمر، النجوم، الأمطار، الرياح، هذه كلها من أوجدها؟ من خلقها؟ من دبرها؟
لا يسألون أبداً، بل معرضون.
طول العام يشاهدون الشمس فلا يسألون: لم كانت الشمس؟ من أوجدها؟ ما السر فيها؟
آيات في الأرض: الأنهار، الأودية، الجبال، البشر، الحيوانات، وهذه المخلوقات كل واحد منها يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكم من آيات يمرون عليها صباح مساء وهم معرضون لا يسألون ولا يفكرون أبداً.
من هؤلاء؟ منهم إلى الآن اليهود والنصارى والبوذيون والمشركون والكافرون، هذا واقعهم.
لم لا يفكر الكافر في صباح يصبح فيرى الشمس طلعت فيقول: من أطلعها؟ لماذا أطلعها؟
ويسأل: من الذي فعل بها هذا؟ فيقال له: رب خالق قدير عليم حكيم.
وكيف عرفتموه؟ عرفناه بكتابه ورسوله.
يشاهدون الأمطار تنزل هنا ولا تنزل هناك، يشاهدون النباتات على اختلافها، كل هذه الآيات في السماء يمرون عليها وهم معرضون، يعطونها عرضهم، أي: لا يقبلون عليها ولا يلتفتون إليها ولا يتساءلون فيما بينهم ولا يسألون رجلاً في الهند أو السند: من الذي خلق هذا الكون بكل ما فيه؟ والأرض والسماء؟ ولماذا خلق ذلك؟
لا يسألون أبداً، إعراض كامل.
وبيننا المنتسبون إلى الإيمان والإسلام قلوبهم قاسية، نفوسهم شاردة، منغمسون في الشهوات.. في الظلم والشر والفساد.. في الخبث وهم معرضون، لو تأملوا هذه الآيات فقط لخروا ساجدين لله ولأطاعوه وعبدوه ومشوا في طريقه وصراطه المستقيم، ولكنه إعراض، وصدق الله العظيم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105].
إذاً: الآية بمعنى العلامة الدالة على الشيء، تقول لأخيك: أعطني آية على فلان حتى أعرفه؟ فيقول: أصفر اللون أو أسود اللون، آية تدل على ذلك.
تقول: دلني على الطريق إلى منزل فلان.. أعطني آية، فأقول: المكان الفلاني، المنزل الفلاني عن يمينك آية.
فالآية: العلامة الدالة على الشيء، فكل ذرة في الكون آية على وجود الله العليم الحكيم، وعلى عظمته وجلاله وقدرته ورحمته وإحسانه وفضله وإكرامه وإنعامه.
والإعراض هو عدم الالتفات؛ لأنهم إذا التفتوا وسألوا عادوا إلى الصراط المستقيم وانتهى أكل الحرام، انتهى الزنا، انتهى اللواط، انتهى الكذب، انتهت الخيانة، انتهى الإجرام، انتهى الحسد، انتهت كل مظاهر الشر والخبث والباطل الناشئ عن الإعراض.. عن الجهل بالله.. عن الكفر بالله، كلها تنتهي.
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:105] أي: كثير، وكم يمرون عليها وهم عنها معرضون.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، ومع هذا يعبدون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى!
اليهود من ذلك العهد إلى اليوم كذلك، اسأل يهودياً: تؤمن بالله؟ يقول: آمنت بالله. من خلق الكون؟ يقول: الله. وفي نفس الوقت هو مشرك بالله مكذب برسوله، معرض عنه.
اسأل المسيحي تجد هذا شأنه.. وهكذا، كما أخبر تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] والحال أنهم مشركون بالله يعبدون غيره.
وقال العلماء: يدخل في هذا من يقول: غداً أسافر ولا يقول إن شاء الله، يدخل في هذا من يقول: لولا فلان لصدمتنا السيارة وينسى الله ويشرك به.
فلهذا تشاهد جهال المؤمنين والمسلمين يؤمنون بالله عز وجل وهم يدعون الأولياء ويستغيثون بهم ويذبحون لهم ويحلفون بهم حلفاً واضحاً لا يشك فيه ذو عقل ولا دين، وذلك مصداق قوله الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].
وذلك في اليهود، في النصارى، في البوذيين، في الكفار كلهم، اللهم إلا الملاحدة والعلمانيين بطبع اليهود الذي طبعوهم عليه، وهو: لا إله والحياة مادة، هؤلاء لا يؤمنون بالله.
أما غيرهم فيؤمن بالخالق الرازق الله جل جلاله، ولكن يشرك به، أي: يعبد معه غيره، أو يقر عبادة سواه ويثبتها لغير الله، وذلك هو الشرك حقيقة.
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فالذين يقولون: يا سيدي فلان المدد! يا رسول الله الغوث! يا فاطمة ! يا حسين ! يا علي ! يا عبد القادر! يا عبد الرحمن ! والله! إنهم لمشركون، وهم مؤمنون إيماناً حقيقياً، ولكن لجهلهم آمنوا من جهة وأشركوا من جهة.
ما سبب ذلك؟ إعراضهم عن القرآن الكريم الذي فيه بيان كل الطرق التي تسعد وتنجي من الشقاء والعذاب، لا يقرءونه، وإن قرءوه لا يتدبرونه ولا يتفكرون فيه، ولا يسألون.
الجواب: إنه الثالوث الأسود المكون من المجوس، واليهود، والنصارى.
علموا أن هذه الأمة التي كانت ميتة تمام الموت -وهم العرب في هذه الجزيرة- فأحياهم الله بالقرآن، فسادوا وعزوا وكملوا وطابوا وطهروا، ولم تر الدنيا مثلهم منذ أن كانت تلك القرون الثلاثة الذهبية؟ بسبب ماذا؟ بالتوراة؟ بالإنجيل؟ بالزبور؟ بالسحر؟ بالخداع؟ والله! إنه بالقرآن الكريم، أحياهم الله به.
عرف العدو الثالوث أن هذه الأمة حييت بالقرآن وتحيا به فقالوا: هيا نبعدها عنه، أو نبعد القرآن عنها، وحاولوا أن يبعدوا القرآن فما استطاعوا وما قدروا، فهو محفوظ في الصدور، مكتوب في السطور، تحفظه العجائز والرجال والنساء، فكيف يبعدون القرآن؟! ما استطاعوا.
قالوا: إذاً: نبعدهم هم عن القرآن، ووضعوا قاعدة عرفها العلماء، قالوا: لا يجوز تفسير القرآن، ولا يحل لك أن تقول: قال الله، ووضعوا لذلك القاعدة المعروفة، وهي قولهم: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر.
إن فسرته وأصبت فأنت مخطئ، إذ ليس لك من حق أن تفسر القرآن كلام الله! من أنت وما أنت حتى تعرف مراد الله؟ وإن فسرت وأخطأت فقد كفرت، فأنت كافر.
ونشروا هذا المبدأ في العالم الإسلامي؛ فماذا يصنع المسلمون بالقرآن الكريم؟ قالوا لهم: إذاً: حولوه إلى الموتى، يحفظون القرآن في الكتاتيب والمساجد من أجل أن يقرءوا على موتاهم فقط.
وقد ذكرت لكم حادثة تمت في بعض الديار أيام الاستعمار: حاكم عام رأى أن لا فائدة في قراءة القرآن في الكتاتيب والمساجد فقال: الحكومة قادرة على أن تعلم الكبير والصغير! لم فتحت المدارس؟ لم فتحت المعاهد والكليات؟
امنعوا هذه القراءة التي لا تفيدهم.
فوفق الله عز وجل أحد المؤمنين المصلحين فقال لسيادة الحاكم: يا سيد! هذا القرآن يقرءونه لا للدنيا وإنما من أجل أن يقرءوه على الموتى فقط. فقال: إذا كانوا يقرءونه على الموتى فقط فاقرءوه واتركهم يتعلمونه.
وإلى الآن من إندونيسيا إلى موريتانيا شرقاً وغرباً القرآن يقرأ على الموتى!
في دمشق -كما أعلمونا- مكتب خاص، نقابة خاصة، إذا مات لك قريب فاتصل بالهاتف: نريد عشرة من طلبة القرآن أو خمسة أو ستة. يسألك: من فئة المائة ليرة أو الخمسين ليرة؟ إن كان غنياً وثرياً فمن صنف المائة، وإن كان فقيراً فمن المائة إلى العشرة أو العشرين مثلاً.
وإلى الآن القرآن يقرأ على الموتى، وإذا قلت: هذا لا ينبغي فينكرون عليك، تقول: تجتمعون في بيت الميت على القرآن ولا تتدبرون ولا تفكرون، فيتهمونك بأنواع من الباطل والشر والفساد، إذ المفروض لو أردنا الحياة -حياة الطهر والصفاء- فإنه ما إن تدق الساعة السادسة مساءً في الشرق والغرب حتى يقف دولاب العمل فتغلق الدكاكين والمقاهي والمصانع، ويقبل المؤمنون والمؤمنات على بيوت ربهم يصلون المغرب كما صليناه، ويجتمعون على معلم رباني اجتماعنا هذا من بعد المغرب إلى صلاة العشاء، يدرسون كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تمضي عليهم السنة -بل دون أربعين يوماً- إلا وقد تغيرت نفوسهم، وتبدلت آراؤهم وأفكارهم، فتمضي السنة والسنوات وكلهم يعرفون كلام الله وما فيه بالسماع فقط، نساءً ورجالاً، يصبحون يفهمون عن الله مراده.
ويتبع ذلك أن لا خيانة، أن لا غش، أن لا خداع، أن لا كبر، أن لا شرك، أن لا كفر، أن لا خبث، أن لا ظلم.
لم؟ سنة الله، فالطعام يشبع والماء يروي والنار تحرق، سنة الله لا تتبدل، ومن سنته: إذا أقبلت الأمة أو الجماعة أو الفرد على القرآن الكريم يقرأ ويتأمل ويعمل فلن تمضي عليه فترة إلا وهو أطهر الخلق وأصفاهم.
لكن انظر من إندونيسيا إلى موريتانيا، أين يجتمعون على كتاب الله؟!
هذه مدينة الرسول في الدولة الإسلامية، فأين أهل البلاد في هذه الحلق؟ أين هم في المسجد النبوي؟
إذاً: القرآن هو الروح ولا حياة بدون روح، وهو كلام الله عز وجل؛ إذ قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] فالكافر ميت، المكذب بالقرآن ميت، المعرض عن القرآن ميت، الجاهل بالقرآن ميت، وإنما الحي من قرأه وآمن به وحفظه وعرف ما فيه.
قل: لولا الله لكان كذا وكذا.
أما دعاؤنا الموتى وسؤالهم والاستغاثة بهم والتقرب إليهم بالنذور وما إلى ذلك فهذا شرك محض، وعليه الكثيرون من أمة الإسلام، وصدق الله العظيم: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].
بعدما قص تعالى على رسوله بواسطة الوحي قصة يوسف وإخوته وهي من الغيب المحض؛ إذ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قومه من العرب يعرفون عن هذه الأحداث التاريخية شيئاً، لا سيما وأن بعض هذه الأنباء تم في ظلام الليل، وبعضها في ظلام البئر، وبعضها وراء الستور، وبعضها في طبقات السجون، وبعضها في قصور الملوك، وبعضها في الحضر، وبعضها في البدو]، فكيف يعرف الرسول هذا؟!
[ وبعد تطاول الزمان وتقادم العصور؛ بعد أن قص ما قص قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ [يوسف:102] أي: من أخبار الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ [يوسف:102] أي: نعلمك به بطريق الوحي، وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف:102]، ويؤكد وحيه إليه بذلك فيقول: وما كنت لدى إخوة يوسف في الوقت الذي أجمعوا فيه أمرهم على التخلص من يوسف بأي ثمن وهم يحتالون على إخراجه من بين يدي أبويه ليلقوه في غيابة الجب تخلصاً منه، حيث رأوا أنه حجب عنهم وجه أبيهم، وذهب بعطفه وحنانه دونهم.
وقوله تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] يخبر تعالى أن الإيمان بك وبما جئت به من الوحي والتوحيد والبعث الآخر مثل هذا القصص كاف في التدليل على صحة نبوتك وعلى وجوب الإيمان بما جئت به وتدعو إليه، ومع هذا فأكثر الناس ولو حرصت على إيمانهم ما هم بمؤمنين، ولذلك عوامل من أبرزها: أن الإيمان يتعارض مع ما ألفوا من الباطل والشر والفساد، لا سيما شهواتهم وأغراضهم الدنيوية، ومن قبل ذلك: أن من كتب الله شقاءه في كتاب المقادير لا يؤمن بحال من الأحوال، ولذا فلا تحزن ولا تكرب.
وقوله تعالى: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [يوسف:104] أي: على هذا القرآن وإبلاغه إليهم من مال؛ إذ لو كنت سائلهم أجراً على قراءتك عليهم وإبلاغك لهم لكان ذلك مانعاً من قبول ما تدعوهم إليه، ولكن ما دام ذلك يقدم لهم مجاناً فلا معنى لعدم إيمانهم إلا ما كتب الله من خسرانهم وشقاوتهم، فهم عاملون للوصول إلى ذلك]، أي: الخسران والشقاء.
[ وقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [يوسف:104] أي: ما هذا القرآن وما يحمله من هدى ونور وقراءتك له إلا ذكرى، أي: موعظة يتعظ بها من يسمعها من أهل البصيرة والإيمان من العالمين ممن هيأهم الله تعالى للسعادة والكمال.
وقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:105] أي: وكثير من الآيات الدالة على الله وعلى وجوب عبادته وتوحيده فيها في السماوات كالشمس والقمر والكواكب والسحب والأمطار، والأرض كالجبال والأنهار والأشجار والمخلوقات المختلفة يمرون عليها صباح مساء وهم معرضون غير ملتفتين إليها ولا متفكرين فيها، فلذا هم لا يؤمنون ولا يهتدون.
وقوله تعالى في الآية الأخيرة: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] يخبر تعالى رسوله أن من يدعوهم إلى الإيمان به وبما جاء به ما يؤمن أكثرهم بالله رباً خالقاً رازقاً إلا وهم مشركون به أصناماً وأوثاناً يعبدونها، وهي حقيقة قائمة، لو سئل يهودي أو نصراني عن الخالق الرازق المحيي المميت المدبر للكون لقال: الله، ولكن هو به مشرك يعبده معه غيره، وكذلك حال المشركين الذين أخبر تعالى عنهم وكثير من أهل الجهل في هذه الأمة القرآنية يدعون غير الله ويذبحون لغير الله وينذرون لغير الله وهم يؤمنون بالله وبما جاء به رسوله من التوحيد والبعث والجزاء والشرع].
قال: [ من هداية الآيات:
أولاً: تقرير النبوة المحمدية بأصدق برهان وأعظم حجة ].
هذه الآيات تقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته بأصدق برهان وأقوى حجة، فلو لم يكن نبياً رسولاً فمن أين له هذا الكلام؟ كيف يقص قصة يوسف التي مضى عليها القرون وهي قصة عجب؟ هل كان في السجن مع يوسف؟ هل كان في الدار مع زليخا ؟ هل كان في البئر مع يوسف؟ كيف يعرف هذا؟ هذا أعظم برهان على أنه رسول الله.
[ ثانياً: بيان حكم الله في الناس وهو أن أكثرهم لا يؤمنون، فلا يحزن الداعي ولا يكرب ].
لو نصبت نفسك داعية في بريطانيا خمسين سنة فقد لا يؤمن معك أكثر من عشرين رجلاً أو امرأة، فلا تحزن فهذه سنة الله.
[ ثالثاً: دعوة الله ينبغي أن تقدم إلى الناس مجاناً، وأجر الداعي على الله تعالى الذي يدعو إليه ].
أما من يدعو الناس ويأخذ أموالهم فلن يفلح أبداً ولن يفوز ولا يصح أبداً، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [يوسف:104].
[ رابعاً: ذم الغفلة وعدم التفكر في الآيات الكونية فضلاً عن الآيات القرآنية ]، وأكثر الناس لا يفكرون.
يحصل الشيء ولا يقول: من أين حصل هذا؟ كيف نبت هذا الزرع؟ يشرب الماء ولا يدري من أين هذا الماء؟ كيف تشتريه وترغب فيه؟
[ خامساً: بيان حقيقة ثابتة: أن غير أهل التوحيد -وإن آمنوا بالله رباً خالقاً رازقاً مدبراً- أكثرهم يشركون به غيره في بعض صفاته وبعض عباداته ].
والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى الناس أجمعين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر