أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الخمس، فهيا نتغنى بها عدة مرات ثم نأخذ في شرحها وبيان مراد ربنا تعالى منها، فإن كان عقيدة عقدناها في قلوبنا فلا تنحل عقدتها حتى نلقى ربنا، وإن كان مراد الله منها أمراً تهيئنا للنهوض به، وصممنا على القيام به؛ لأنه أمر مولانا وسيدنا ومالك أمرنا، إذ كيف لا نطيعه؟! وإن كان نهياً عن عقيدة فاسدة، عن خلق سيء، عن عمل باطل، فإننا من الآن وكلنا عزم وتصميم ألا نأتي ما حرم الله علينا، وإن كانت الآيات تحمل بشرى استبشرنا وحمدنا ربنا وطلبناه المزيد، وإن كانت تحمل تحذيراً من خطر أو وقوع في شر، حذرنا مستعينين بربنا سائلين أن يقينا كل مكروه، وتلاوة هذه الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:163-166].
والوحي: إعلام سريع قد يُعلم الله تعالى به غير الأنبياء والمرسلين، كما أوحى إلى أم موسى في شأن ولدها أن تضعه في تابوت وترمي به في اليم حتى لا يأخذه فرعون ورجاله، ومريم البتول أيضاً أُوحي إليها، فقد أعلمت بطريق خفي من قبل ربها تبارك وتعالى.
ومن عجائب تدبير الله وآياته وكراماته لأوليائه وصالح عباده رجالاً أو نساءً، أنهم لما حسنوا ثيابها وأصلحوا حالها، ووضعوها على سرير الطاغية ليداعبها ويكلمها ويؤانسها، فكان كلما وضع يده على كتفها يصاب بالشلل الفوري، فتيبس يده ويصرخ، ويقول لها: ادع مولاك، ثلاث مرات، ثم في الأخير قال: أخرجوها عني، لقد أتيتموني بشيطانة، ولكن مع هذا فقد أعطاها خادمة وبغلة ومالاً، ثم جاءت إبراهيم فقالت: أهلك الله العدو وخيبه وأذله وأخزاه، وهذه الجارية لك فخذها، وكانت الجارية هي هاجر أم إسماعيل، إذ إن إبراهيم عليه السلام تسراها لنفسه، ثم شاء الله أن تحمل بإسماعيل، وسارة لها سنوات كثيرة وهي مع إبراهيم لم تلد أبداً، فلما أنجبت هاجر إسماعيل أخذت سارة الغيرة وآلمتها، كيف أن هذه الجارية تلد وأنا لا آلد؟! والآن قلب إبراهيم كله سيكون مع طفله وجاريته، فماذا يصنع إبراهيم؟ وهو ما يصنع إلا بتدبير الله له، فأمر هاجر أن تحمل ولدها وأن تخرج معه ليلاً، وكانت عليها السلام تعفي أثرها بدرعها، ومشى بها إبراهيم من أرض القدس حتى وصل بها الوادي الأمين مكة قبل أن تعرف مكة، وهنا قد يقول قائل: كيف وصل بها؟ من الجائز أن البراق الذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس قد حمل إبراهيم إلى مكة مع هاجر وطفلها.
وتمضي الأيام ويعود إبراهيم يتعهد تركته، وفي يوم من الأيام مرت قافلة من قوافل العرب وهي قبيلة جرهم، واحتاجوا إلى الماء وهم في طريقهم إلى ديارهم، فشاهدوا طائراً يحوم في السماء، فقالوا: لابد أن يكون هناك ماء، وفعلاً فقد كانت هناك بئر زمزم الشفاء والدواء، فلما جاء طالب الماء لهم والمرتاد له وجد إسماعيل ووالدته حول زمزم، وكيف نبع ماء زمزم؟ أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن إسماعيل عطش لما نفد الماء الذي كان معهم، فأخذ يتلوى في الأرض من شدة العطش، وهاجر عليها السلام لا أقول: تبكي، ولكن أقول: قلبها يحترق على ابنها؛ لأنه ربما قد يموت عطشاً بين يديها، فنظرت فرأت أقرب جبل منها الصفا، فمشت إلى الصفاء مسرعة، فصعدت فوقه ونظرت يميناً وشمالاً علها ترى ماء أو من يحمل الماء أو من يرشدها إلى الماء، فما وجدت، فهبطت من الصفا فقابلها جبل المروة فمشت، ولما وصلت الوادي أسرعت حتى تجاوزت الوادي، وهذا هو الوادي الذي نسرع فيه نحن الساعين، وهي سنة سنها لنا نبينا عليه السلام إحياء لذكرى هاجر أم إسماعيل، ولكن يعفى المؤمنات من الإسراع في ذلك المكان، إذ يمشين على عادتهن فقط، أما الرجال فإنهم يسرعون إحياءً لذكرى هاجر أم إسماعيل، ثم صعدت على المروة مرة أخرى والتفتت يميناً وشمالاً، فما رأت شيئاً، واستمرت تجري وتسعى بين الجبلين سبع مرات، ولهذا فالسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم وإذا بها تسمع هاتفاً يهتف فتقول: أسمعت أسمعت، فنظرت فإذا بجبريل عليه السلام واقفاً على رأس إسماعيل وإسماعيل يتلوى من شدة العطش، فلما وصلت هاجر مسرعة وهي تقول: أسمعت أسمعت، هل من غياث؟ فضرب جبريل الأرض بعقبه ففارت زمزم، وأخذت هاجر تجمع التراب وتحيطه بها حتى لا تسيح في الأرض، ولذا قال الحفيد الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في كما في صحيح البخاري: ( رحم الله أم إسماعيل لو تركته لكان عيناً معيناً تسيل الدهر كله، ولكن حصرته فأصبح بئراً )، وسمي زمزم من الزم، كما تزم أنت الحيوان أو الفرس، وزمزم آية من آيات الله في البلد الحرام، إذ قال تعال: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، فأي بئر في العالم تبقى آلاف السنين لا تنضب؟ وها أنتم تشربونه دائماً في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كانت بئراً من الآبار لجفت، ولما جاءت السيول في عهد الجاهلية وردمت البئر وغطته هيأ الله جد نبينا فحفر زمزم واستخرج ماءها مرة أخرى.
وبقيت هاجر هناك وجاءت قبيلة جرهم -كما قدمنا- تطلب الماء، فنزلت إلى جنبها، وهنا لطيفة أخرى وهي: أن رجالات جرهم قالوا لها: هل تأذني لنا يا امرأة بالنزول هنا معك؟ والعجيب أنها أمة أو قبيلة برجالها وسلاحها وكثرة أفرادها تطلب الإذن من امرأة معها طفل يرضع! إذ لو كانوا أشراراً لقالوا: أبعدوها من هنا، فكيف تحللون هذه الظاهرة؟ إن تحليل هذه الظاهرة -واسمعوا وعوا- هي: أن البشرية كانت في أيامها الأولى أفضل وأكمل منها اليوم، فقد كان الكمال فيها من عهد آدم وشيث وإدريس ونوح، ثم أخذ ينقص شيئاً فشيئاً حتى وصلنا الآن إلى هذه الحال، بل وما زلنا لا يأتي يوم إلا والذي بعده شر منه، فانظر إلى ذلك الالتزام والاحترام، عجوز مع طفل في واد وقبيلة بكاملها تطلب الإذن منها أن تسمح لهم بالنزول عند الماء! فقالت: نعم، على شرط أن يكون الماء مائي ولا حق لكم فيه، فإن شئت أعطيتكم أو منعتكم، فقالوا: نعم.
ولعل السامعين ما فهموا كلمتي هذه، أقول مرة أخرى: البشرية كانت في طهر وكمال، ثم أخذت تنقص شيئاً فشيئاً، إذ إن الذي خلق آدم هو الله تعالى، والذي وهبه أخلاقه وكمالاته البشرية هو الله تعالى، وتوارث أولاده هذه الصفات وهذه الكمالات، وبالتالي فالبشرية كانت في كمال من الأخلاق، والعرب المشركون كانت أخلاقهم أرفع من أخلاقنا نحن المؤمنين في مجالات كثيرة.
فلهذا الرؤيا الصالحة من العبد الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ [الصافات:102]، أي: الغلام الزكي الطاهر، يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، فأين أبناؤنا؟ وأين آباؤنا؟ هل آباؤنا يستشيروننا في قضية كهذه وبهذا اللفظ؟ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]، أي: أنه قد أوحي إليَّ أن أذبحك، وأنت انظر ما الذي تراه يا إسماعيل! فماذا قال الغلام الزكي؟ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، أي: افعل ما يأمرك الله به، سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وقال لـهاجر: طيبيه وطهريه وألبسيه أحسن ثيابه، ثم خرج به إلى منى حيث تراق الدماء.
ومن عجيب هذه الحادثة أن إبليس اعترضه في العقبة عند الجمرة الأولى، وذلك ليصرفه عن تنفيذ أمر ربه، فطرده إبراهيم ورماه بسبع حصيات كما نفعل في حجنا، فهرب إبليس ومشى إسماعيل مع إبراهيم حتى وصلا مكان الجمرة الوسطى، فوقف له فقال له: ماذا يفعل ربك بهذا الصغير؟ مالك يا إبراهيم؟ أين يذهب بعقلك؟ ربك لا يحتاج إلى ذبح هذا الولد، فعرفه فلعنه ورماه بالحجارة، ثم مشى حتى وصل الجمرة الثالثة، وهناك تله للجبين، أي: صرعه على الأرض، والمدية في يده، فأي ابتلاء أعظم من أن يؤمر العبد بأن يذبح طفله؟! والله إن المدية لفي يديه، وأراد أن يضعها على حلق الغلام، بل قد وضعها لكنها كلَّت وأصبحت خشبة، والتفت إبراهيم وإذا بجبريل عليه السلام آخذ بكبش أملح وقال: اترك هذا واذبح هذا، قال تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].
ثم أخبر الله عن إبراهيم الأب الرحيم أنه قال بعدما بنى البيت وسكن إسماعيل وأمه: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم:37]، وقال: (من ذريتي)، لعله كان يتطلع إلى ذرية آخرين، وقد رزقه الله إسحاق من سارة ابنة عمه، ولعل في هذا الوقت كانت سارة قد ولدت، قال تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71].
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وقال: (ليقيموا الصلاة)، أي: يا رب! ارزقهم من الثمرات من أجل أن يصلوا، ولذا فاعلموا يا معشر المسلمين! أن سر الحياة هو أن يُعبد الله فيها، بل علة هذا الوجود بكامله هو أن يُعبد الله فيه، ولذلك أنزل آدم وحواء إلى الأرض من أجل أن يُعبد الله فيها، وأعظم عبادة ولا تساويها أخرى هي إقام الصلاة؛ لأنها تجعل العبد متصلاً بربه ويقف بين يديه ويناجيه ويكلمه خمس مرات في الأربعة والعشرين الساعة، ولهذا فإن تارك الصلاة كافر ما آمن بالله ولا عرفه، والمقيم للصلاة هو العابد لله تعالى، وقد فهم هذا إبراهيم لما قال: رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37]، أي: إن أقاموا الصلاة فاجعل لهم كذا وكذا، إذ هو قد فهم أننا ما خلقنا إلا للعبادة، وبين هذا تعالى في كتابه فقال عز من قائل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
ثم قال إبراهيم في دعائه: رَبِّ إِنَّهُنَّ [إبراهيم:36]، أي: الأصنام، أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي [إبراهيم:36] أي: على ملتي وديني، فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي [إبراهيم:36] فاحرقه بالنار؟! ومن عصاني فجوعه؟! ومن عصاني فاطرده؟! لا، فماذا قال؟ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، أي: اغفر له وارحمه.
وهذا عيسى عليه السلام قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، وما قال: اغفر لهم، وإنما إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118]، فمن يعترض عليك؟ هم عبيدك ولك أن تعذبهم، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].
وهنا يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر موقف الرسولين الكريمين ويدعو لهذه الأمة بالمغفرة والرحمة، ويشفع لها في عرصات القيامة.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، وأن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يفرج كروبنا، وأن يشفي أمراضنا، وأن يجمعنا دائماً على ذكره وحبه وحب أوليائه.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر