أما بعد: فإن أصد الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم أعطنا هذا يا خير من يعطي، ويا ولي المؤمنين ويا متولي الصالحين.
وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات الثلاث، فهيا نتغنى بها، إذ يجوز التغني بالقرآن الكريم، والتغني بالقرآن هو تحسين الصوت به، فتدبروا الآيات قبل شرحها لتعرفوا مدى فهمكم وقدرتكم على فهم كلام الله عز وجل، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:160-162].
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160]، ماذا فعلنا بهم بسبب ظلمهم؟ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، و(طيبات) جمع: طيبة، وقد بين لنا تعالى بعض ما كان حلالاً لهم وحرمه عليهم بظلمهم، فجاء من سورة الأنعام قول ربنا تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [الأنعام:146] الآية، لكن يوجد غير هذا مما حرمه الله تعالى عليهم عقوبة لهم بسبب ظلمهم.
ولنذكر أن المسلمين قد حُرِموا، ولا أقول: حُرِّم عليهم، فقد حُرِموا من الطيبات ما شاء الله بسبب ظلمنا، إذ لو أننا أقمنا القرآن والسنة، وعبدنا الله حق العبادة، واستقمنا على منهجه، وسرنا في مواكب الهدى والخير، لكنا أوسع الناس رزقاً، وأطيبهم طعاماً، وأعزهم نفساً، لكن لله سنناً لا تتبدل، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، إذاً: فالذي يظلم هو الذي يستحق أن يبيت في السجن، والذي يسرق هو الذي تقطع يده، والذي يعق والديه هو الذي يحرم رضا الله، والشاهد عندنا: فبظلم، إذ يحذرنا الله تعالى من أن نظلم فنشقى في دنيانا ونخسر في أخرانا.
فَبِظُلْمٍ [النساء:160]، أي: بسبب ظلم، وأنواع الظلم كثيرة، وحقيقة الظلم هو وضعك الشيء في غير موضعه، فمن وضع شيئاً في غير موضعه فقد ظلم، وبالتفسير البسيط: الآن الذي يزحزح إخوان عن يمينه وعن شماله حتى ينام فقد ظلم؛ لأن هذا ليس مكاناً للنوم، والذي يدخل أصبعيه في أذنه ويرفع صوته ليغني في الحلقة فقد ظلم؛ لأن هذا المكان ليس محلاً للغناء، وأفظع الظلم وأعظمه هو أن تصرف عبادة الرب الخالق المالك لمخلوق لا ينفع ولا يضر، قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؛ لأن ذلك يتعلق بحق الله عز وجل، فأنا خلقني ورزقني ورباني وكلأني وحفظني، وبعد أن ننحني ونتمرغ بين يديه ننحني أمام مخلوق من مخلوقاته، ونعفر وجهنا بالتراب ذلاً له وطمعاً فيه، فأي ذنب أعظم من هذا؟!
مرة أخرى: يا طلاب الهدى! الظلم حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، فكل من يضع الأمور في غير مواضعها فإنه يخسر ويهلك في دنياه وفي أخراه، أحب أم كره.
ولذا فلا أشك في أن هبوطنا من أكثر من ألف سنة تقريباً هو الذي صرف العالم عن الإسلام، إذ لو كانت ديارنا كلها أنوار ساطعة، فيغشاها الطهر والصفاء والمودة والإخاء والحب والولاء، فسيتعجب هذا المشرك ويقول: كيف هذه الحياة؟! من أين جاءهم هذا النور وهذه الهداية؟ فيبحث عنها وينالها، لكن يدخل بلادنا فيجد الشرك والفسق والفجور والظلم والفقر والبلاء، ويقول: كيف نصبح كهؤلاء؟ نعم قد صددنا عن سبيل الله، أحببنا أم كرهنا، وأنا لا أعني بني فلان ولا فلان، وإنما وضع العالم الإسلامي بأكمله قد أصبح صارفاً للآخرين عن الإسلام، فما عشقوه ولا طلبوه ولا بحثوا عنه، ولذلك لما تبجحت روسيا بالاشتراكية ورغَّبت الناس في ذلك، هبَّ الناس كلهم يجرون وراء الاشتراكية، حتى كانت أصواتنا تردد: اشتراكيتنا نوالي من يواليها، ونعادي من يعاديها، ولكن خيبهم الله فخابوا، فهل من طريق آخر؟ لو يرفع إمامنا رأسه: الله أكبر، ستتدفق الخيرات والبركات والنور، ولجاء الناس جماعات وأفراداً.
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160]، صدوا أنفسهم أولاً، وصدوا غيرهم بسلوكهم المنحرف، وبحيلهم ومكرهم وغشهم وخداعهم، والمراد بـ(سبيل الله) هو: السبيل هو الطريق، وسبيل الله هي الطريق الموصلة إلى رضاه والنزول بجواره في دار السلام، وسبيل الله واضحة، وإليكم صورتها وهي: أولاً: أن تؤمن بالله ولقائه، فهنا آمِن بالله، وهناك بلقائه، وأحل ما أحل الله، وحرم ما حرم الله، وانهض بما أوجبه الله عليك، وتخل عما نهى الله عنه، واستمر في السير حتى تقرع باب دار السلام.
وطريق الله وسبيله قد بينه الله لنا في كتابه القرآن العظيم، وزاد بيانه رسوله الكريم، وبالتالي فلا حجة لأحد أن يقول: ما عرفنا، من بين لنا سبيل الله وطريقه؟ قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، وفي كل ركعة من ركعات الليل والنهار نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، والصراط المستقيم هو الطريق الذي لا يميل يميناً ولا شمالاً، فلا يهودية ولا نصرانيه ولا بوذية ولا اشتراكية، وإنما استقامة إلى دار السلام.
ومن لطائف هذا الدرس وقد قلنا غير ما مرة: إن ربا الجاهلية أفضل من ربا اليوم؛ لأن ربا الجاهلية في صدر الإسلام وقبل الإسلام أن يجيء الرجل إلى أخيه فيقول له: أقرضني ألفاً أو عشرة آلاف إلى الحج أو إلى موسم الحصاد، فيعطيه مبلغاً من المال بدل أن يبقى المال في جيبه أو يدفنه في أرضه، فإذا جاء موعد السداد وعجز، يأتي بكل طواعية واختيار فيقول: سامحني، ما استطعت أن أسدد، ولكن أخر علي وزد، أي: أخر هذا الدين إلى عام آخر وزد شيئاً من المال، فهل ربا البنوك اليوم فيه: أخر وزد؟ لا أبداً، وإنما من أول الأمر الألف يزيد عليها مائة، وإذا تأخرت السنة يزيد أخرى، حتى يفنى ما عند المدين، فأي ربا هذا؟! وأيهما أفضل ربا الجاهلية أم ربا اليوم؟! الآن البنوك تستقرض منها مالاً يزيدون نسبة: (10%) أو (5%)، سواء سددت في الوقت المحدد أو لم تسدد، بينما ربا الجاهلية كما ذكرنا فقط يطلب منك قرضاً إلى أجل معين، فإذا حل الأجل وما استطعت السداد فقل له: أخر وزد،، والسبب في هذا أن الأمة في الجاهلية كانت جاهلة، وقد زينه الشيطان لها وعملت به، لكن ربا البنوك اليوم هو ربا اليهود، وهو شر وأخبث من ربا الجاهلية، إذ إن الذي وضعه هم اليهود، وذلك للسيطرة على أموال الناس، فهل عرفتم هذه الحقيقة أم لا؟ ثم من يدير البنوك في العالم؟ اليهود.
فإن قيل: يا شيخ! كيف نتخلص من هذه البنوك؟ الحماسيون يقولون: بالثورة، أي: نحرق هذه البنوك ونستريح منها، وهذا كلام البله والمجانين، إذ والله لو أحرقوها ما زادت إلا كثرةً، بل وذلاً وإهانة لأربابها، ولذا فإن الطريق لإنهاء الربا في ديار العالم الإسلامي كلها هو أن ننهج نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما كررناه قولاً وكتبناه في رسائل شتى، وهو أن أهل القرية الصغيرة أو الحي في المدينة الصغيرة أو الكبيرة، يرجعون في صدق إلى الله تعالى، ومن مظاهر ذلك: أن يجلسوا بين المغرب والعشاء كل ليلة في بيت ربهم يتلقون الكتاب والحكمة، ويدرسون الكتاب والسنة للعمل والتطبيق لا لمجرد العلم والفهم، ولا يتأخر إلا مريض أو ممرض أو حارس مع خائف إن فرضنا، والنساء الحيض لهن مكان إزاء المسجد ولو بالستائر، والفحول وأبناؤهم صفوفاً كالملائكة مؤدبين طائعين، فيصلون المغرب ويدرسون آية كدراستنا هذه، ويتغنون بها حتى تحفظ، وتوضع أيديهم على المطلوب منها، فإن كان عقيدة عقدوها في نفوسهم ولن تنحل حتى يلقوا ربهم، وإن كان واجباً عرفوه وصمموا على القيام به إن كانوا غير قائمين به، وإن كان مكروهاً عزموا على أن يتركوه ولو حرِّقوا وصلبوا، وإن كان أدباً فعلى الفور تأدبوا به في سلوكهم، وإن كان خلقاً تخلقوا به، ويوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، وفي خلال عام واحد والله أن أهل الحي أو القرية سيصبحون كزمرة من الكواكب، وهم مع الله يطرحون بين يديه كل ليلة، فيتعلمون الكتاب والحكمة، ولم يبق في قلوبهم غل ولا غش ولا حسد ولا كبر ولا رياء ولا تعلق بغير الله، وينتهي في تلك القرية كل مظهر من مظاهر الظلم أو الشر أو الخبث أو الفساد، وتتلاقى القلوب فإذا بهم كأسرة واحدة، وحينئذٍ والله ليفيض المال؛ لأن هذه الرجعة الصادقة لا يبقى معها نهم ولا شره ولا طمع ولا جري وراء أوساخ الدنيا، بل سيصبح المؤمن يتلذذ بأكلة واحدة يأكلها.
وحينئذٍ يفتح صندوق من حديد ويوضع في المحراب ويُقال: يا أهل الحي! يا أهل القرية! من زاد عن قوته فلساً فليودعه في هذا الصندوق، يا أهل القرية! من زاد عن قوته وحاجته درهماً فليودعه في هذا الصندوق فإنه يحفظ له، وقد ينمو إن شاء الله، فيأخذون يودعون في صندوقهم هذا الزائد من المال، وفي خلال ستة أشهر فقط يمتلئ، ثم يقال: معشر الأبناء والإخوان! يا مؤمنات! من يرغب منكم في تنمية ماله فسوف ينمى؟ ومن قال: لا، وإنما نموه لكم ولإخواننا، وأنا فقط أعطوني رأس مالي، فاحفظوه لي، فقد عرفنا من يريد النماء ممن يريد البقاء والحفظ، وننظر في ساحة المدينة أو القرية، فإذا كانت هناك أرض زراعية فننشئ بذاك الصندوق مزرعة، ويباركها الله تعالى، وتنتج بإذن الله تعالى، وإن كانت أرضاً ليست بزراعية فننشئ مصنعاً لصنع الإبر والنعال، وهي أدنى صنعة، فتدر وتغل ببركة الله عز وجل، كما أن هذا الصندوق تودع فيه كل زكوات المؤمنين، فالصدقات فيه، والكفارات التي تلزم فيه، ثم أسألكم بالله على من تنفق هذه الأموال؟ على فقراء ومساكين الحي أو القرية، ومع هذا هل يبقى فقير عريان؟ هل يبقى فقير لا يجد مأوى يأوي إليه؟ والله ما يبقى، لكن للأسف قد عرف هذا اليهود والخصوم ولن يسمحوا لكم أن تفعلوا ذلك إلا إذا تجردتم من هذه الحياة وأقبلتم على الله.
فيا أهل الأحياء والقرى في العالم الإسلامي! إن هذا هو الطريق، وبدون هذا الطريق لن تزول البنوك، بل تزداد وتنمو، فهل فهمتم هذه الحقيقة أم لا؟ اسمعوا، من الغد لا يقف مؤمن أمام بنك وإن جاع، أربعون يوماً لا يقف ولا واحد منكم أمام بنك، والله عند ذلك سيحولونها إلى مصارف ربانية إسلامية، أو يرحلوا، ولا نحتاج إلى إحراقها ولا إلى تهديد ولا إلى باطل، إذ نحن ربانيون، ولذلك لا نعيب على بني عمنا من اليهود ونحن غارقون إلى أذقاننا في الربا، ثم إن الله تعالى يعدد معايب اليهود وجرائمهم وانحرافاتهم؛ لأنه يريد منهم أن يعودوا إلى الله تعالى، إذ إنهم أبناء الأنبياء، وبالتالي فالله يريد لهم أن يعودوا إلى ما كان عليه أنبياء بني إسرائيل، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء:161].
ونحن قد نهانا الله عن الربا فقال في آيات واضحة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، فالذي يحارب الله هل ينتصر عليه؟ لا إله إلا الله!
والباطل يكون بدون مقابل، لكن أن تعطيني شيئاً وأعطيك نقوداً، فهذا ليس من الباطل، كأن تعطيني دجاجة وأعطيك مالاً، أو أخذت مني صاع تمر وأعطيتني ريالاً، أما الذي يأخذ بالرشوة وبالكذب والتدجيل والفتاوى الباطلة، فأي مقابل أخذه منك؟!
وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161]، والنَّاسِ سواء أبيضهم وأسودهم، مؤمنهم وكافرهم، إلا أنهم الآن يقولون: نحن اليهود ما نأخذ الربا فيما بيننا! فقد نهانا الله تعالى عن ذلك، أما ماعدا اليهود من النصارى والمشركين والعرب فلا بأس!
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء:162]، يا رسول الله! أما علماء سطحيون لا رسوخ لهم في العلم، ولا طمأنينة لما يعلمون، فأدنى شيء ينقلبون ويرجعون، فانظر إلى الراسخين في العلم كأمثال عبد الله بن سلام، فقد طرح على رسول الله ثلاثة أسئلة قبل أن يسلم، وما إن أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عليها حتى قال: أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا أنه يجب أن نرسخ أقدامنا في العلم، ولا نكتفي بالسطحيات والظواهر، فإذا كنت تخشى الله وتخاف أن تخرج عن طاعته فهذه هي آيات رسوخ علمك بالله عز وجل، ومعرفتك له رباً وإلهاً، إذ هو عليم بذات صدرك، مطلع لأحوالك، يراك في كل مكان، لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ [النساء:162]، منا، يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء:162]، يا رسول الله.
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]، أي: المقيمين للصلاة بمعنى الكلمة، إذ لو كانوا مصلين لقال: والمصلين، وقد بينا ألف مرة وقلنا: هيا بنا نذهب إلى المحافظ أو إلى مدير الشرطة في القاهرة أو في المدينة، ونقول له: يا سيد! أعطنا قائمة بأسماء المجرمين لهذا الشهر، فأعطانا قائمة بها مائة شخص، فأقول: والله لن نجد من بينهم من المقيمي للصلاة أكثر من (5%)، والباقي من تاركي الصلاة والمصلين، وقلنا: جربوا هذا في أي بلد من البلدان؛ لأن الذي يجلس بين يدي ربه ويتكلم معه الليل والنهار، كيف يستطيع أن يعصي ويخرج عن طاعته، فيسرق أو يظلم أو يذبح أو يقتل أو يقول الباطل؟! ما يتأتى هذا أبداً.
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]، أي: الذين يؤدونها على النمط والنحو الذي أداه رسول الله، وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فأداها مستوفاة بشروطها وأركانها وآدابها وسننها؛ لأنها كما علم أهل الدرس عبارة عن عملية لتوليد الطاقة والنور، أو عملية دقيقة مركبة شرعها الله تعالى، ونزل بها جبريل فعلم رسول الله وصلاها الرسول عشر مرات وقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذه العملية تولد النور للقلب، فمن أقامها ولدت له أنواراً عجيبة، وتظهر تلك الأنوار في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي سلوكه، بل وما يصبح أعمى يتخبط في الظلمات، ولهذا لا يكذب ولا يسرق ولا يفجر ولا يغش ولا يخدع ولا يحسد، إذ ما يتأتى له هذا لكثرة أنواره.
أما الثانية: فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على اليهود وهي: أولاً: استباحتهم للربا وهو حرام ]، لكن نحن المسلمين الذين يأكلون الربا لا يستبيحونه فيقولون: إنه حلال ومباح، وإنما هو ذنب عظيم، وقد يغفر الله لهم أو يعذبهم ويدخلهم الجنة، أما من استباحه فقد كفر وخرج من الملة، وهذه الحقيقة تأملوها! إذ المستبيح لما حرم الله كافر قد خرج من الإسلام، ومن قال: هو حرام لكن الظروف كذا وكذا، فهذا ما يكفر أبداً، وقد يتوب الله عليه قبل موته، وقد يعفو عنه ويغفر له لحسناته، وقد يعذبه بالنار ويخرجه منها؛ لأنه ليس بمرتد.
قال: [ أما الثانية فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على اليهود وهي: أولاً: استباحتهم للربا وهو حرام وقد نهوا عنه، وثانياً: أكلهم أموال الناس بالباطل، كالرشوة والفتاوى الباطلة التي كانوا يأكلون بها ]، والسحر أيضاً، فقد يأكلون أموال الناس بالسحر، ومبدأ السحر هو من اليهود، بل وإلى الآن ما زالوا متفوقين في ذلك، وكثيراً ما يخطر ببالي فأقول: لعلهم سحروا بعض حكام المسلمين عندما يجتمعون بهم في الأمم المتحدة، وإلا كيف رجل اسمه: عمر أو أحمد وهو مؤمن ويقول: لا إله إلا الله ويمنع شريعة الله؟! كيف هذا يتم؟! ممكن أنهم سحرهم في الطعام أو في كأس شاي، ولا عجب.
قال: [ وأما قوله تعالى في ختام الآية: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:161]، فهو زيادة على ما عاقبهم به في الدنيا، أعد لمن كفر منهم ومات على كفره: عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:161]، أي: موجعاً يعذبون به يوم القيامة.
وأما الآية الثالثة: فقد نزلت في عبد الله بن سلام ]، وما سمي ابن سلام إلا هو، ومن عداه ابن سلّام، والمسلمون ما كانوا يسمون أولادهم بـسلام، لكن اليهود كانوا يسمون أولادهم بـسلام، وليس في الصحابة ابن سلام إلا هو.
قال: [ وبعض العلماء من يهود المدينة، فذكر تعالى كالاستثناء من أولئك الموصوفين بأقبح الصفات وهي صفات جرائم اكتسبوها، وعظائم من الذنوب اقترفوها؛ لجهلهم وعمى بصائرهم ]، والسر في ذلك وما زلنا نقول: ما من جماعة من المسلمين في قرية أو في وادي أو في جبل إلا كان أجهلهم بالله هو أكثرهم فسقاً وفجوراً، وأعلمهم بالله إلا أكثرهم طهراً وصفاء، على شرط أن يكون العلم علماً راسخاً في النفس ثابتاً لا يتصور غيره.
قال: [ وعظائم من الذنوب اقترفوها؛ لجهلهم وعمى بصائرهم. إن الراسخين في العلم الثابتين فيه الذين علومهم الشرعية يقينية لا ظنية، هؤلاء شأنهم في النجاة من العذاب والفوز بالنعيم في دار السلام، شأن المؤمنين من هذه الأمة، يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول وما أنزل من قبلك، وخاصة المقيمين للصلاة، وكذا المؤتون الزكاة، والمؤمنون بالله واليوم الآخر، هؤلاء جميعاً وعدهم الله تعالى بالأجر العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه، فقال تعالى: أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:162] ].
قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: المعاصي تورث الحرمان من خيري الدنيا والآخرة ]، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: فَبِظُلْمٍ [النساء:160].
قال: [ ثانياً: حرمة الصد عن الإسلام ولو بالسلوك الشائن والمعاملة الباطلة ]، إذ الصد عن الإسلام عظيمة من عظائم الذنوب، فقد يكون الصد عن الإسلام بالكلمة، وقد يكون بالسلوك كما بينت لكم، وبالتالي فيجب على المسلم أن يكون مسلماً ظاهراً وباطناً؛ حتى لا ينتقده كافر ويقول: كيف هذا المسلم يفعل كذا وكذا من المحرمات؟! وكذلك الذين يروجون لأفلام الخلاعة والدعارة قد صدوا عن سبيل الله.
قال: [ ثالثاً: حرمة الربا وأنه موجب للعقوبة في الدنيا والآخرة.
رابعاً: حرمة أكل أموال الناس بالباطل؛ كالسرقة والغش والرشوة والشعوذة وما إلى ذلك ]، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161].
قال: [ خامساً: من أهل الكتاب صلحاء وربانيون، وذلك كـعبد الله بن سلام وآخرين ]، وسبب صلاحهم واستقامتهم هو رسوخهم في العلم، إذ ما أخذوا معلومات طافية وادعوا العلم وغلبتهم شهواتهم وأفتوا بالباطل، وإنما الرسوخ في العلم.
قال: [ سادساً: الرسوخ في العلم يأمن صاحبه الزلات والوقوع في المهلكات ]، ولهذا تلقي المسلمين اليوم العلوم في المدارس المادية هل نفع شيئاً؟ إن أي بلد إسلامي إلا وفيه وزارة المعارف، والتعليم للبنين والبنات بمراحل متعددة، الابتدائية والثانوية والجامعية، والمتخرجون بالملايين، فأين الطهر والصفاء؟ وأين الحب والولاء؟ لا شيء، والسبب أنه أساساً ما وضع هذا العلم لتزكية النفوس وتطهيرها، إذ إننا نقدم أبنائنا وبناتنا للتعليم من أجل الوظيفة فقط.
معشر المستمعين! أما سمعتم الله يقول: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [النساء:162]؟ فيجب أن تكون علومنا راسخة في النفس ثابتة، فتنعكس أنوره على سلوكنا، فلا ننطق بغير الحق، ولا ننظر إلى ما حرم الله، ولا نسمع ما نهى الله عنه، ولا نأكل ولا نشرب ما حرمه الله علينا.
إذاً كيف نعود؟ قلنا: اتركوا المدارس والجامعات كما هي، بل حولوها إلى صناعات إن شئتم، وهيا نتعلم الكتاب والحكمة في بيوت ربنا، وذلك في الساعة التي لا عمل فيها، وهي ما بين المغرب والعشاء، والعجب أن اليهود والنصارى والمشركين إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وذهبوا إلى الملاهي والمراقص! فلمَ نحن لا نذهب إلى بيوت ربنا بنسائنا وأطفالنا نتلقى الكتاب والحكمة؟ لا نستطيع لأننا مسحورون، هل سحرنا اليهود؟ هيا فلنمزق هذا الحجاب ونكسر هذا الغل في أعناقنا ونعود إلى الله تعالى، ودعهم يغضبون ويبكون.
قال: [ سابعاً: فضل إقام الصلاة لنصب: والمقيمي الصلاة في الآية على المدح والتحضيض ].
والله تعالى أسأل أن يجعلنا وإياكم من مقيمي الصلاة ومؤتي الزكاة، إنه ولي المؤمنين ومتولي الصالحين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر