أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، والسكينة مشاهدة، فأصغ بسمعك واسمع مع إخوانك الساعة والساعة والنصف، فلا ضجيج ولا كلام ولا شغب ولا نصب، وإنما كلنا ساكنون، لكن لو كنا في مقهى أو في مجلس من مجالسنا كيف تكون الأصوات والضجيج؟ لا سكينة، وكذلك الرحمة قد غشيتنا، وذلك حتى ينتهي المجلس فلا يظهر لك مظهراً من مظاهر العذاب، فلا كذب ولا سرقة ولا خيانة ولا شقاء ولا سب ولا شتم، أيضاً الملائكة لو كنا نقدر على رؤيتهم لرأيناهم والله يحفون بالحلقة، وذكْر الله تعالى لنا بين ملائكته أفضل العطايا وأسمى الكمالات، وكل هذا نحصل عليه ونظفر به ونفوز به من أجل أننا نجلس في بيته تعالى، فنتلو آية أو آيات من كتابه، ونتدارسها لنعرف مراد الله منها، فإن كان يأمرنا بشيء فعلناه، وإن كان ينهانا عن شيء تركناه، وإن كان يعلمنا تعلمنا وشكرناه هذا على العلم.
وهذه هي الحلقة المفقودة في سلسلة حياة المسلمين، إذ لو دقت الساعة السادسة مساءً فتوضئوا ولبسوا أحسن ثيابهم، ثم حملوا أطفالهم ونساءهم وأتوا مسجد ربهم في القرية أو في الحي، في السهول أو في الجبال، فيجلسون بعد صلاة المغرب كجلوسنا هذا، ويجلس لهم مربٍ بالكتاب والسنة، ويدرسون ليلة آية من كتاب الله، وليلة سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون ويعملون، ويوماً بعد يوم، وهكذا طول العام وطول العمر، والله ما يبقى جاهلٌ ولا جاهلة، وإذا انتفى الجهل انتفى الباطل وانتفى الشر وانتفى الظلم وانتفى الخبث وانتفى الشقاء وانتفى البلاء، بل انتفى كل خسران في هذه الحياة.
لعل الشيخ واهم! جربوا يا عباد الله! كيف كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحفادهم خلال ثلاثمائة سنة؟ هل كانت لهم مدارس وكليات وجامعات؟ لا، وإنما كانوا يجلسون في بيوت الله فيتلقون الكتاب والحكمة، ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله -ماذا يفعلون؟- يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم )، فهل رأيتم عالماً بحق زان أو فاجر أو ظالم أو سارق أو كاذب أو سفاك للدماء؟ لن يكون هذا، وما شذ وندر فلا حكم له، وإنما الفسق والفجور والخيانة والكذب كلها ثمار الجهل، فالذي ما عرف الله ولا عرف ما عنده وما لديه كيف يستقيم؟ هي يستقيم بالعصا والحديد والنار؟ ما يستقيم، إن البوليس والشرط قد ملئوا الدنيا، ومع ذلك تجد السرقات والتلصص والإجرام، فهل نفعت العصا؟ لا والله.
واسمعوا إلى دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة البيت العتيق: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، فقوله: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ [البقرة:129]، أي: في أولاد إسماعيل، رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، يعرف لغتهم ويعرفون لغته، لكن ماذا يفعل فيهم؟ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129]، وقد فعل الله ذلك وامتنّ علينا بذلك فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، فهل يمكننا أن نكمل ونسمو ونطهر ونصفو بدون أن نتعلم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مستحيل! وقوله: وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ [الجمعة:2]، أي: يزكي أنفسهم ويطهرها بما يرشدهم إليه وينبههم عليه ويدعوهم إلى فعله أو إلى تركه.
فما المانع يا معاشر المؤمنين أن نعمل ذلك؟! ما المانع إذا دقت الساعة السادسة مساءً وقف العمل، فصاحب الدكان أغلقه، وصاحب المصنع أوقف الآلات وأغلقه، وصاحب المتجر كذلك، فيتوضئون ويتنظفون ويذهبون إلى بيت الرب تبارك وتعالى، سواء كان مبنياً من حجارة أو من خشب أو من طين، فيجلس النساء وراء الستارة، والأطفال دونهن، والفحول من أمثالكم أمامهن، وآية في الليلة تقرأ وتحفظ وتشرح وتُبين، وسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أخرى، ويعزم كل مؤمن ومؤمنة على أن يطيع الله فيما أمر أو فيما نهى.
فإن قيل: يا شيخ! هذه ما تطاق، وهذا لسان الحال يقول هذا، فأقول: لماذا لا نقتدي بأهل الكفر في ذلك؟ أهل الكفر إذا دقت الساعة السادسة مساء وقف العمل، وذهبوا إلى المراقص والملاهي؛ لأنهم بهائهم وحيوانات لا عقل ولا ضمير ولا فهم، فهم قد فقدوا الصلة بالملكوت الأعلى، ونحن لمَ ما نأتي بيوت الله مع غروب الشمس لنصلي العشاءين، وما سألناه شيئاً إلا أعطانا، ولا استعذناه من شيء إلا أعاذنا؛ لأننا حققنا ولايته لنا؟! وهنا ما عرفنا ما هو الجواب؟ فليبقى الجهل مخيماً على قلوبنا، نساءً ورجالاً، فلا نرى الله ولا نرى آياته ولا نرى شيئاً من صفاته.
وأذكر لطيفة هنا وهي: لما نمشي في حر الشمس فإننا نحجبها عنا بكف واحدة، مع أن الشمس أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، لكن مع ذلك بكف واحدة فقط أستطيع أن أحجبها فلا أراها ولا تضرني، إذاً فزلة واحدة فقط تحجب العبد عن رؤية الله تعالى، مع أن آيات الله تعالى ترى في كل ذرة، فكيف لا تعرفه؟ كل الكائنات شاهدة بأنها مخلوقة والله خالقها، وبأنها مدبرة والله مدبرها، ولذا فأينما تكونوا أنتم ترون الله عز وجل، أي: في آياته ومخلوقاته، وكلمة كفر أو شرك تحجب الإنسان فلا يعرف الله ولا يذكره ولا يفكر فيه.
إذاً: فبلغوا إخوانكم في القرى والمدن بأن نجتمع في بيوت ربنا فنصلي المغرب ونبقى حتى العشاء، فنتعلم الكتاب والحكمة، ونحن على ذلك الحال تصلي علينا الملائكة فيقولون: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]، أرجو أن تحفظوا هذه الجملة وتعيشوا على نورها، إذ ما هي بصعبة أبداً، فتقولها في بيتك وبين أولادك وفي كل مكان، فإذا تكلم الولد أو البنت بكلمة سوء فقل لهم: يا أبنائي: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148]، فكيف تجهرون به؟!
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148]، يا أولياء الله! إن ربكم لا يحب الجهر بالسوء من القول فلا تحبوا الجهر بالسوء من القول، يا أولياء الله! مولاك وسيدك وإلهك وربك الرحيم بك أكثر من نفسك لا يحب الجهر بالسوء وأنت تحبه؟! أعوذ بالله، انقطعت صلتك بالله، إذاً ما هي ولاية الله تعالى؟ موافقته في محابه ومكارهه، أتريد أن تكون ولي الله؟ أحبب ما يحب واكره ما يكره، وإن أحببت ما يكره وكرهت ما يحب فأنت والله عدوه، إذ إن ولاية الله تعني الموافقة، فإذا وافقته فأنت وليه وهو وليك، وإن عاكسته وخالفته فأنت عدوه وهو عدوك.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ [النساء:148]، وهذه الجملة أبلغ وأعظم من قول القائل: لا تجهروا بالسوء، أو يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم الجهر بالسوء، فإذا كان ربي لا يحب هذا فكيف نفعله؟! إن ولاية الله تعني أن تحب ما يحب وتكره ما يكره، وعداوة الله أن تحب ما يكره وتكره ما يحب.
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا [النساء:148] فاحذروا أن يسمع ربكم السوء تنطقون به، أو تأتون وتفعلون المنكر، فإنه سميع لكل الأقوال، عليم بكل الأعمال، فربوا هذه في نفوسكم.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148]، معاشر المستمعين والمستمعات! احذروا أن يسمع الله منكم كلمة سوء تقولها لامرأتك أو لولدك أو لجارك أو لخادمك أو لأي واحد، أو ما تستطيعون؟ والله لتستطيعون، فأنا ما أذكر في حياتي التي تجاوزت سبعين سنة، وخاصة عند مناهزتي البلوغ أن ذكرت كلمة سوء أبداً، ومن قال: قد سمعتها منك يا شيخ فليأت إليَّ، فلا سببت ولا شتمت ولا عيرت ولا قبحت أحداً قط، وأنا أقول هذا لتفهموا أن هذا ليس بمستحيل، وإنما عود نفسك فقط، فخذها بذكر الله عز وجل ومراقبته، ولو كان تعالى يعلم أننا ما نستطيع ألا نجهر بالسوء ما يعلمنا أنه لا يحبه حتى نحن لا نحبه.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [النساء:148]، فمن أحب الجهر بالسوء فقد عادى الله تعالى، إذ الولاية تعني الموافقة، فإن وافقتني في محابي ومكارهي فأنت وليي، وإن عاكستني وخالفتني، كأن أحب هذا وأنت تكره هذا، فكيف نتوالى؟ ومن أين يأتي الولاء؟ ولذا لابد يا أبناء الإسلام! أن تحبوا كل ما يحب الله حتى النظرة، ولذلك أيما شيء يبلغنا أن الله يحبه فيجب أن نحبه، وأيما شيء يبلغنا أن ربنا يكرهه فيجب أن نكرهه بقلوبنا، وبذلك تثبت ولايتنا لربنا، ونصبح مع ذلك البيان: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، يتقون ماذا؟ الحيات والعقارب؟ اللصوص والمجرمين؟ يتقون ما يغضب ربهم، فلا يعتقدون ولا يقولون، ولا يفعلون شيئاً علموا أن الله كرهه وحرمه على أوليائه، بل وطول حياتهم وهم يتقون.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148]، فالمظلوم يذكر مظلمته، كأن يقول أمام الحاكم أو القاضي: قال لي: يا خنزير، أو قال لي: يا ديوث، وذلك لما يقول الحاكم: ماذا قال لك؟ فيقول: سبني، فيقول القاضي: ماذا قال لك؟ فهل يقول: لا أقول؟! إذاً: ما سبك، وبالتالي فلابد وأن تقول: قال لي كذا وكذا، وهنا قد جهرت بالسوء، لكن قد أذن لي ربي فيه.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148]، فاحذروه وخافوه وراقبوه، ولا تفهموا أنكم وحدكم، إن شئتم سببتم وإن شئتم شكرتم، فإن الله يسمع أقوالكم ويرى أعمالكم ووجودكم.
إذاً: هذه نعمة الله للمؤمنين، فيخبرنا ويقول: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا [النساء:149]، أي: تعلنوه وتظهروه، سواء كان صلاة أو صياماً أو صدقة أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، وأظهرت ذلك أو فعلتموه سراً، فإن الله تعالى يعلمه.
وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم -من لا يحبه ما هو بالمؤمن، وهو كافر، ويكذب إن ادعى أنه مؤمن- يقول في الصحيح: ( ما نقص مال من صدقة )، فتتصدق من مالك الذي في جيبك أو في خزينتك أو في بستانك أو في بيتك، اعلم أن تلك الصدقة ما ينقص منها المال أبداً، وهذا وعد الله على لسان رسوله، وأبين لكم فأقول: إذا كان عندك ألف ريال فتصدقت بخمسين، فأنت تراها أنها قد نقصت، وهي في الحقيقة والله ما نقصت؛ لأن هذا الباقي ينفعك الله به أكثر من تلك الخمسين الريال لو بقيت، والله عز وجل يبارك لك ذلك الباقي فيصبح أفضل من ألفين بدل الألف، ( ولا زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً )، أي: ما من عبد يعفو عن مؤمن لوجه الله تعالى إلا أعزه الله، فإذا سبك فلان أو شتمك أو عيرك، فأنت تقول: سامحته، اتركوه ولا تردوا عليه، فإن هذا التنازل هو العفو، والله يرفعك به ويزيدك في عزتك وكمالك.
لكن لو أنك رددت عليه فسببته فماذا استفدت؟ لا شيء، وإنما قابلن سوءاً بسوء، لكن لو أنك عفوت عنه، فإنه سيصبح يحترمك ويهابك ويعزك، ويزيدك الله بذاك العفو عزاً؛ لأنك قادر على أن تضربه أو تأخذ منه، لكن تركته لله فالله عز وجل يعزك ولا يذلك ولا يهينك، فهكذا ينبغي أن يكون المجتمع القرآني المحمدي.
قال: ( ومن تواضع لله رفعه الله )، أي: من تواضع لأجل الله لا كبر ولا رياء، وإنما لين وانقياد وابتسامة وكلمة طيبة، وإن كان من أشرافنا، وإن كان من أغنيائنا، وإن كان من حاكمينا، فذاك التواضع والله لا يزيده الله به إلا رفعة، ولا تفهم أنك إذا تواضعت تذل وتهون، لا أبداً، بل تعلو وترتفع.
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149]، عفواً يعاملك بالعفو فيعفو عنك إذا زلت قدمك وسقطت في هاوية، بل ولا يؤاخذك مقابل عفوك لفلان، ولذا إن عفوت لوجه الله تعالى عمن ظلمك كالزوجة أو الابن أو الأخ القريب أو البعيد أو جاهل أو كافر أو مؤمن، فالله عز وجل يعفو عنك بأكثر، أي: قد تتعرض لعذاب الله فيعفو عنك، أو تزل قدمك بمعصية فيذكر الله عفوك عن عبده فلاناً فيغفر لك.
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا [النساء:149]، والعفو هو الذي يقدر على العفو، هل يوجد واحد بيننا ما عفا الله عنه؟ لو كان الله يؤاخذنا بكل سيئة والله ما بقينا إلى اليوم، ونحن أولياؤه فيقول لنا: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، أي: وما أصابكم من مصيبة يا عباد الله! يا أولياء الله! بسبب ما كسبت أيديكم، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، إذ لو ما كان يعفو عن كل ذنب والله نعيش إلى هذه اللحظة، بل لانتهينا من زمان، فالحمد لله أنه عفو قدير، وما هو بعاجز على أن يعفو عن عباده.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ [النساء:148]، ما السوء يا عباد الله؟ السوء كل كلمة تسوء إلى من تقولها فيه، أو كل عمل تعمله يتأذى به إنسان، فهذا هو السوء والله لا يحبه، فهيا نحن أيضاً لا نحبه، أو نريد أن نخالف ربنا؟ وهل إذا خالفناه نبقى أولياء له؟ أعداء.
معشر المؤمنين والمؤمنات! ولاية الله تتحقق بالموافقة، أي: أن توافقه فيما يحبه فتحبه بحبه، وفيما يكرهه فتكرهه بكرهه، فتلك هي الولاية، وإن كانت الآية الكريمة تقول: أولياء الله هم المؤمنون المتقون، وغير المؤمن يحب ما يحب الله ويكره؟ ما عرف الله، لذا لابد من الإيمان أولاً، ثم يتقون ماذا؟ يتقون ما يكرهه الله فيتجنبوه.
إذاً: فالولاية هي الموافقة لله تعالى، فوافق ربك فيما يحب وفيما يكره فأنت وليه، وإن أردت أن تعاكسه أو تخالفه فأنت عدوه والعياذ بالله.
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ [النساء:149]، ما الذي يحصل؟ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149]، يثيبكم ويعطيكم ويجزيكم على إحسانكم بما هو أفضل، ويعفو إن عفوتم أكثر مما عفوتم أنتم عن عبيده وأوليائه.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148]، هل يجهر الإنسان بالفعل؟ ما أظن أن إنساناً يفعل الفاحشة في الشارع، وكما قد قلت لكم: إن هذا المؤمن نزل ضيفاً على جماعة فلم يضيفوه، فشكاهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له الناس: لمَ تشكوهم إلى رسول الله؟ وعتبوا عليه، فأنزل الله تعالى بأنه لا عتبا عليه أبداً، إذ له الحق في ذلك؛ لأنه مظلوم، وهو قد ذكر ما ظلموه به، ولذا أغلب ما يقال أو يجهر به هو القول، وأما الفعل فأكثره لا يجهر به.
قال: [ ولما حرم تعالى على عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب، استثنى المظلوم فإن له أن يجهر بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم، فقال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ [النساء:148]، وما زال سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148] ].
قال: [ ألا ] ألو، وإخواننا الزوار لما يسمعوا: ألو، يقولون: لماذا نقول: ألو؟ والجواب: لأننا ألفنا (ألو) وأصبح الطفل الصغير يحبو فيأخذ التلفون ويقول: ألو، ألو، وكذلك المرأة، فأصبحت كلمة شائعة عندنا، وقد سأل بعضهم: (ألو) ما هي؟ فقالوا: ألو هكذا خلقت، أي: لم نعرف ما هي؟ هل هي بريطانية؟ هل هي فرنسية؟ هل هي أمريكية؟ هل هي صينية؟ لا هذا ولا ذاك، وإنما وجدت هكذا مع التلفون، ونظيرها (أي) في لغة العرب، فهي مرة مبنية، ومرة معربة، ومرة كذا، وقد سئل سيبويه: ما حال أي؟ فقال: أيٌ هكذا خلقت، ما عندي فيها شيء، وكذلك (ألو) هكذا وجدت، ونحن قد سبقناهم بألف وأربعمائة سنة، إذ إن كل جملة خبرية في كتاب الله أو في لسان رسول الله أو العارفين بلغة القرآن، تبدأ بكلمة (ألا) فمعناها: انتبه، هل أنت تسمع ما أقول لك؟ أما (ألو) فما فهمنا معناها.
قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، قل يا رب! من هم أولياؤك؟ فيجيبك الله عز وجل بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:63-64]، أتدرون ما البشرى؟ قد فسرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرى له )، ولا فرق بين أن تراها أنت أو يراها فلان ويخبرك بها.
وهناك بشرى أخرى أيضاً عند سكرات الموت، واسمعوا إلى قول الله تعالى من سورة فصلت ومن سورة الأحقاف: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت:30]، لا رب لنا سواه، ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، ما اعوجوا، وإنما استقاموا في مشيتهم إلى دار السلام، فلا ميل إلى اليمين بترك واجب، ولا إلى الشمال بفعل حرام، وإنما استقامة سليمة حتى جاء الموت، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30]، أخبرنا عنهم يا رب، قال: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30]، مواكب، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30]، وتقول لهم: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، وهذا والله قبل أن يلفظ أنفاسه ويفارق حياته، وهذا هو صاحب الروح الطاهرة الزكية النقية، الذي آمن واستقام، أما آمن واعوج وانحرف، فيوماً يترك واجباً، ويوماً يفعل حراماً، فما هو بأهل لهذه الكرامة، أي: ملائكة تحتفل بموته، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] بها في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله.
قال: [ ألا فليُتق عز وجل فلا يعصى بفعل السوء ولا بقوله، ثم انتدب عباده المؤمنين إلى فعل الخير في السر أو العلن، وإلى العفو عن صاحب السوء، فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149]، فسيكسب فاعل الخير خيراً أبداه أو أخفاه -على حد سواء- وسيعفو عن صاحب العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة، فيشكر الله تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه ]، أي: أنت عفوت عن زيد أو عمرو، أبشر بأن الله سيعفو عنك في يوم من الأيام.
قال: [ فيشكر الله تعالى عفوه السابق فيعفو عنه: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [النساء:149] ].
ثم إن هذه الآيات فيها ثلاث هدايات، فإن قيل: يا شيخ! وهل الآية فيها هداية؟ والله لا تخلو آية من هداية إلا من عمي، والآية معناها العلامة، أي: العلامة على شيء، والقرآن فيه ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية تدل دلالة قطعية على وجود الله ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يعرف أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فليأخذ آية من كتاب الله، وليسأل نفسه: من أنزل هذه الآية؟ من قالها؟ كلام من هي؟ لن تجد جواباً إلا إذا قال قائل: الله عز وجل.
وإن قلت: هذه الآية على من نزلت؟ على أبي جهل؟! على عقبة بن معيط؟! على فرعون؟! على من؟ ليس هناك جواب إلا: على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: فوالله لهو رسول الله أرسله للناس جميعاً.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر