أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فأهنئكم بهذه الفضيلة العظيمة، وأزيدكم أخرى: قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )، وثالثة وهي: أن الملائكة تصلي عليكم فتقول: اللهم اغفر لهم، اللهم ارحمهم حتى تصلوا العشاء، فماذا تريدون بعد هذا؟! الحمد لله، الحمد لله.
وما زلنا مع سورة النساء المباركة الميمونة المدنية، وهي التي نزلت بعد البقرة مباشرة، وهي سورة الأحكام الفقهية، ومعنا هذه الآيات الأربع، فهيا نتغنى بها أولاً ثم نأخذ في بيان مراد الله تعالى منها؛ لنعلم محابه فنعزم على إتيانها، ولنعلم مكارهه فنعزم على تركها والبعد عنها، إذ قد علمتم من قبل أنه لا يستطيع امرؤ رجل أو امرأة أن يتقي الله بدون أن يعلم محاب الله ومكارهه، ولهذا كان طلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، فنطلب الذي يحبه ربنا من الاعتقادات والنيات، من الأقوال والكلمات، من الأفعال والأعمال، من الصفات والذوات، حتى نعرفها ونتملق ونتزلف بها إليه، ونعرف ما يكره وما يسخط من قول أو اعتقاد أو صفة أو ذات؛ لنتجنب ذلك ونبتعد عنه ليبقى لنا ولايتنا بربنا، ولكن للأسف فقد صرفونا عن القرآن وأبعدونا عن السنة، وحالوا بيننا وبين أن نجتمع في بيوت الله، وأصبحنا نجتمع في المقاهي والملاهي ومجالس اللهو واللعب والعبث، والذين نجوا من هذا هم في الدكاكين مربوطين! فهم طول العام في الدكان، فلا يسأل عن الله ولا على ما عند الله، فلا إله إلا الله!
ما الذي يمنعنا إذا دقت الساعة السادسة مساء أن نترك العمل ونلقي بآلاته ونتطهر ونتطيب ونأتي بنسائنا وأطفالنا إلى بيوت ربنا، فنستمطر رحماته، ونتلقى المعرفة عنه، ونعرف محابه ومساخطه؟ إن هذا هو الأصل في نظام حياتنا، ولذلك اليهود والنصارى والمشركون والشيوعيون وكل الكفار إذا دقت الساعة السادسة أوقفوا العمل وذهبوا إلى المراقص والملاهي والملاعب يروحون على أنفسهم، ونحن ما نأتي إلى بيوت الله! فما المانع؟ لا شيء، إذاً كيف نعرف ما نتقي به ربنا؟ إننا إذا لم نتق الله عز وجل خسرنا خسراناً أبدياً؛ لأن ولاية الله التي هي الهدف الأسمى والغاية المثلى لكل مؤمن، ومن يظفر بها فقد فاز، والتي يتنافى معها خوف المؤمن وحزنه، متوقفة على الإيمان والتقوى، واسمعوا إلى قول الله عز وجل: أَلا [يونس:62]، ألو، فإن قال قائل: يا شيخ! لم تقول: ألو؟ لأن نساءنا وأطفالنا ورجالنا أصبحوا يستسيغونها أكثر من (ألا)، فالطفلة الرضيعة التي ما زالت تحبو إذا سمعت: ألو، تعرف أن هناك من يتكلم في التلفون، وفي لسان العرب وفي كتاب الله: أن (ألا) أداة استفتاح وتنبيه، ومعنى هذا: أنت معي؟ أنت تسمع كلامي؟ أنت متهيئ لأن تأخذ ما أقول؟ فيؤديه لفظ: (ألا) مع الجمل الاسمية، لكن نحن وللأسف سمعنا النصارى قالوا: ألو، فقلنا: ألو!
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، لا في الحياة هذه، ولا في البرزخ بعدها، ولا يوم القيامة، والله لا خوف ينتابهم ولا حزن يملأ قلوبهم، إذاً فمن هم أولياء الله؟ سيدي عبد القادر؟! سيدي مبروك؟! سيدي عبد الحميد؟! الأموات! أما ولي في السوق فلا، ولذلك لو تدخل إلى دمشق أو بغداد أو القاهرة المعزية، ما عن تنزل من طائرتك أو من باخرتك وتستقبل رجلاً من البلاد وتقول له في أدب: أنا جئت أريد أن أزور ولياً من أولياء هذه البلاد، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، ولا يفهم أن في القاهرة ولياً في السوق أو في المسجد، وأنا أتكلم بهذا على علم، كذلك تدخل مراكش عاصمة المغرب فتقول: أنا جئت لهذه البلاد وأريد أن أزور ولياً من أولياء الله، والله ما يأخذ بيدك إلا إلى ضريح، وكأنه لا يوجد أبداً في تلكم الأمة ولي، وبالتالي إذا لم يكونوا أولياء فماذا عسى أن يكونوا؟ أعداء، فحصروا الولاية في الأموات.
وسر ذلك أن الثالوث الأسود المكون من اليهود بني عمنا والمجوس جيراننا والنصارى الضالين بيننا، فهم الذين مكروا بهذه الأمة، ومن مظاهر ذلك: أن القرآن حوِّل إلى الأموات والمقابر، وذلك قبل قرابة ألف سنة، واسمعوا ما قررت لكم: قال في حاشية الحطاب: تفسير القرآن ثوابه خطأ وخطأه كفر، أي: أن تفسير القرآن خطأ وذنب، وإن فسرت فأصبت فأنت مخطئ مذنب، وإن أخطأت فقد كفرت، فألجموا أمة القرآن، فلا تقل: قال الله، إذاً ماذا نصنع بالقرآن؟ حولوه إلى الموتى ليقرا عليهم، فإذا مررت بحي من أحياء المسلمين وسمعت القرآن فاعلم أن هناك ميتاً، فسبحان الله! أصبح القرآن الذي ينذر به الرسول من كان حياً حولناه لمن كان ميتاً، ومددنا أعناقنا وقبلنا بذلك، فكيف عم الجهل وظلمته وأصبحنا أشباه مؤمنين ولسنا بالمؤمنين بحق؟ لأنهم أطفئوا هذا النور، إذ القرآن روح لا حياة بدونه، ونور لا هداية بدونه، لكن عرف هذا الثالوث أو رؤساء اليهود والنصارى والمجوس، فهم يتآمرون في كل مكان على هذا النور لإطفائه، وعلى هذه الروح لانتزاعها، وقد وفقوا في ذلك وهداهم إبليس إلى هذه فاستطاعوا أن يحولوا المسلمين عن كتاب الله، فلا تقل: قال الله ولا تفسر، وإنما اسكت، فالقرآن فيه الخاص والعام، والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من المباحث، لكن لا تتكلم.
حتى السنة أيضاً، إذ إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والله لا تقرأ إلا للبركة فقط؛ لأن السنة فيها الخاص والعام، وفيها المجمل والمفصل والمبين، فيكفينا مصنفات علمائنا، فالأحناف لهم مصنفات، والمالكية لهم مصنفات، والحنابلة لهم مصنفات، والشافعية لهم مصنفات، حتى الطوائف الخارجة عن السنة لها مصنفات، أما قال الله وقال رسوله فلا.
والجواب: هل هبطنا بعدما كنا سادة وقادة الدنيا؟ هبطنا والله، وهل حكمتنا دول الكفر وسادتنا ومسختنا؟ لو كنا أولياء الله والله ما استطاعوا ولا قدروا ولا ساقهم الله إلى أن يذلونا أو يهينوننا، لكن للأسف احتالوا علينا، وأعظم شيء هو القرآن والسنة، إذ إنهم علموا أن القرآن روح الحياة، فلا حياة بدون القرآن، وأنه نور الهداية، فلا هداية بدون القرآن، فقالوا: إذاً نصرفهم عن القرآن والسنة، فالقرآن يقرأ على الموتى والسنة تقرأ للبركة، وللأسف ففي بعض البلاد توجد هناك نقابات، وعمل هذه النقابات أنها تؤجر قراء ليقرءون على الموتى، فإذا مات لك قريب فيمكنك أن تتصل بالنقابة وتقول لها: أريد خمسة من طلبة القرآن يقرءون القرآن على ميتنا! فيرد عليك قائلاً: من فئة ريال أو خمسة؟ يعني: على حسب غنى الميت وفقره! والله يقول: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس:70] لا ميتاً.
ونقرأ كون القرآن روحاً ونوراً آية من آخر سورة الشورى من آل حميم، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، فسماه روحاً لأن الحياة لا تقوم إلا به، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن:8]، فالقرآن نور، لكن أبعدوه عن المسلمين ليعودوا إلى الظلام، وقد نجحوا في ذلك.
فهل فهمتم قضية الولاية أو لا؟ وهل الولي الذي عليه قبة بيضاء أو خضراء وهناك حرس وفيه النقود ويُعبد كما يعبد الله بل أشد؟ أستغفر الله، إنهم لا يطرحون بين يديه، ولا يبكون في صلاتهم ولا خشوعهم كما لو أنهم بين ذلك الضريح، لكن الأضرحة بكاء وتمرغ ودعاء ونداء في صدق، أما الله: يا رب بلا حرارة ولا إجابة، وهذا هو الحال من إندونيسيا إلى موريتانيا، وهذا هو العالم الإسلامي، وللأسف ما أفقنا إلى الآن، وإننا لنتعرض لضربة إلهية ما عرفناها ولا عرفها أسلافنا.
وقد سئل أحدهم: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد، وصدق الله إذ يقول: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فهم حصروا الأولياء في الموتى، وذلك ليستبيحوا فروج المسلمات وأموال المؤمنين وأعراضهم ودماءهم، فهل هناك مؤمن يستحي من الله أن ينظر إلى مؤمن آخر نظرة احتقار وسخرية؟ وهل هناك مؤمن ترتعد فرائصه أن يقول كلمة يؤذى بها ولياً من أولياء الله؟ لا أبداً، إذ الموجودون الأحياء كلهم أعداء الله، فانكحوا نساءهم وبناتهم، واسرقوا أموالهم، وسبوهم واشتموهم، وتعرضوا لهم بالباطل، بل وافعلوا بهم ما شئتم، إذ ليسوا بأولياء الله، إنما ولي الله هو الذي دفنتموه وبنيتم عليه القبة! وقد سمعت بهذه الأذن مجموعة في القرية يتحدثون فقال أحدهم: سبحان الله! فلان إذا زنا لا يمر بسيدي فلان وهو جنب بالزنا، وإنما يمر من جهة أخرى! فانظر خاف من الولي ما لم يخف من الله! فمن ركز هذه العقيدة في قلوبنا؟ إنه الثالوث الأسود المكون من اليهود والنصارى والمجوس، وذلك رؤساؤهم وأعيانهم وقادتهم، لا عوامهم فهم كالأبقار.
فهل عرفتم السر في حصر الولاية في الموتى؟ حتى نستبيح دماءنا وفروجنا ونكذب ونخون كل شيء بيننا؛ لأننا لسنا بأولياء الله، إذ أولياء الله هم الأموات، أما الأحياء فاصفعه وسبه واشتمه وهكذا يفعلون، ولو عرف أن هذا ولي الله والله ما يستطيع أن يرفع صوته عليه، فكيف إذاً يزني بامرأته، أو يفسد عليه ولده، أو يعمل ما يعمل، ونحن نشاهدهم يرتعدون أمام الولي في قبره؟ فهل فهمتم؟ وهل ممكن أن تبلغوا هذا؟ لا، لسنا بمستعدين أبداً، إذاً كيف نسمع كلامك هذا وما نتحدث به في مجالسنا؟! من يمنعنا؟! إنه الشيطان، وذلك حتى لا ينتشر النور، وإنما يبقى الجهل والظلمة، ولذا فإن المفروض أنه إذا سمع المؤمن كلمة كهذه أن ينشرها ويبلغها لا أن يكتمها، لكن نحن نسمع ولا نتحرك، فلا إله إلا الله! آمنا بالله.
فهل عرف المؤمنون هذا؟ والله إن بعضهم يجلسون أمام المحكمة فيقول أحدهم لمن لديه قضية: هل تريد شاهداً؟ فيعطيه عشرة ريالات أو مائة ويشهد له! وهذا في محاكم العالم الإسلامي، فيجيء الرجل فيشهد عن ابن عمه ويلوي الشهادة ويحرفها حتى يفتن القاضي، بل أحياناً عشرون واحداً من القبيلة يشهدون بالباطل، ويعتزون فيقولون: نحن خلصناه ونجيناه من العقاب؛ لأنهم ما عرفوا الله حتى يخافوه أو يحبوه فيطيعوه.
فهذا نداء الله لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ [النساء:135]، و(قوامين) جمع قوام على وزن فعَّال، كـ(أكَّال) و(شرَّاب)، ومعنى قوامين بالقسط: أي: بالعدل، إذ القسط هو العدل، شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، أي: شهداء لله لا لغيره، فإن شهدت فاشهد لله ليحق الحق ويبطل الباطل، ولا تشهد لقبيلتك ولا لنفسك ولا لولدك.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، فهيا من الآن نكون قوامين بالقسط الذي هو العدل، وشهداء إذا حكمنا بين اثنين حكمنا بالعدل، أو حكمنا بين الزوجتين فبالعدل، أو في كل قضية فنقضي فيها بالعدل، بل وإذا دعينا للشهادة فلنشهد ولو على أنفسنا وأبنائنا ووالدينا، وهذا هو الإسلام، لكن قد نسي هذا المسلمون وضاعوا قروناً حتى أصبح الكفار المسيحيون في أوروبا أكثر عدالة من المسلمين في محاكمهم وقضاياهم، بل وأكثرهم لا يشهد شهادة الزور أبداً ولا يتورط بالباطل، ونحن أهل القرآن لا تسأل عن حالنا، وسر ذلك أننا ما عرفنا هذا أبداً ولا تعلمناه، لا أمهاتنا ولا آباؤنا ولا أجدادنا قروناً عديدة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135]، كالأبناء والإخوة وما إلى ذلك.
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، فليس أنت الذي تحارب الغني أو ترحم الفقير، وعند ذلك والله لا يبقي مجال أبداً لأن يشهد مؤمن شهادة باطل، أو أن يقضي قاض بالباطل، وذلك لمحاباة للفقير لفقره أو للغني لغناه، فقد أبطل الله هذا كاملاً، فإن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بفقره وغناه، فما أنت بمسئول عنه، إذ قال تعالى: فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135].
فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، والهوى -ليس الهواء بالمد- هو ميل النفس وانكسارها وانعطافها على الشهوات والأطماع الفاسدة، فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا.
فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135]، أي: عند الحكم وعند الإشهاد؛ كراهة أو خشية أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، أي: تميلوا عن الحق، وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135]، واللي أن يلوي لسانه فيحرف الكلمة، أو أن القاضي يلوي وجهه عن هذا الخصم ويلتفت إلى هذا، ولذلك يجب على القاضي أنه إذا وقف أو جلس الخصمان أمامه أن ينظر إليهما نظرة متساوية، فلا يضحك مع هذا ويغضب على هذا، أو أن يتكلم مع هذا ويسكت مع الآخر، بل حتى النظر لابد أن يكون نظر القاضي إلى الخصمين متساوياً.
والمقصود: لا تلووا في الكلام أو تعرضوا عن الشهادة بالمرة، أو عن المقصود منها بالمرة، إذ إن هناك من يلوي الكلام في شهادته فلا يثبت بها حقاً لصاحبها، إذ ما صدق، أو ما صرح تصريحاً كاملاً، بل زاد كلمة أو نقص أخرى، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، والخبير أكثر من العليم، إذ الخبير هو الذي يعرف أجزاء القضية من أولها إلى آخرها، وبالتالي فخافوه واعرفوا سلطانه، إذ هو الذي يميت ويحيي، وهو الذي يفقر ويغني، وهو الذي يمرض ويشفي، وهو الذي يعطي ويمنع، فهل هناك من يدير الكون سواه؟! تعيش سبعين سنة ما تكذب كذبة واحدة، وما تشهد شهادة زور ولا كلمة باطل؛ لأنك تعلم أن الله بما تعمل خبير، فيجزيك بصنيعك الذي صنعت.
فهذا هو تفسير الآية الأولى، واسمعوا تلاوتها مرة أخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء:135]، إذا حكمتم، شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، إذا استشهدتم، ثم قال: وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [النساء:135]، ثم: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا [النساء:135]، ليس بشاهد، فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].
ومن هنا ما بقي في عهد الرسول وأصحابه وأحفادهم وأولادهم من يشهد شهادة الزور، أو يحكم حكم ظلم وجور، فهذا علي بن أبي طالب أيام خلافته في السنوات الأربع النورانية، ينازعه يهودي في درعه، وكان القاضي الذي يحكم بينهم هو شريح القاضي، فأجلس القاضي علياً وأجلس اليهودي بجواره، وتكلم معهم بلغة واحدة، وكان ينظر إليهم نظرة متساوية، والشاهد عندنا: أن القاضي قال لـعلي: من يشهد لك أن الدرع ملكك؟ فقال: ولدي، فقال القاضي: شهادة الولد لا تقبل للوالد، إذ من الجائز أن يحابي أو يخاف والده، فلما رفض شريح شهادة الحسين بكى اليهودي وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إمام المسلمين لا تقبل شهادته والدرع درعه! آمنا بالله، إنها مواقف للأمة الإسلامية في العصور الذهبية الثلاثة فوق ما تقدر أو تفكر.
وعلة هذا أن القرآن روح ونور، إذ لما كانوا يقرءونه يبكون ويفهمون ما يقرءون ويعملون، فقد كانوا أطهر الخلق وأصفاهم وأعدلهم وأكرمهم، بل وقل ما شئت من الكمالات، ووالله ما اكتحلت عين الوجود بأمة على سطح الأرض من آدم إلى يوم القيامة بأفضل من تلك الأمة في قرونها الثلاثة، ( خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، فما سبب كمالهم؟ البترول؟! الأموال؟! إنه القرآن والسنة النبوية، الهداية الربانية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136]، ناداكم مولاكم، لبيك اللهم لبيك، فهل بلغكم أن لله تسعين نداء في القرآن؟ لقد نادى الله عباده المؤمنين تسعين مرة، وكل مرة يأمرهم أو ينهاهم أو يبشرهم أو ينذرهم أو يعلمهم، واسلوا المسلمين ما نسبة من تعرف هذا؟ ولا واحد في المليون، فنادانا الله ليأمرنا باعتقاد وقول وعمل يزكي أنفسنا ويسعدنا في دنيانا وأخرانا، إذ حاشاه أن يأمرنا باللهو والباطل واللعب، أو الفساد والشر، ونادانا لينهانا عما يضر بنا ويفسدنا ويعوقنا عن السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، ونادانا ليبشرنا بنتائج وثمار صالحات أعمالنا لنزداد وراء ذلك عملاً، ونادانا لينذرنا من عواقب السلوك المنحرف والعقيدة الفاسدة، ونادانا ليعلمنا ما لم نعلم، وكل ذلك بالتتبع والاستقراء للتسعين نداء.
وقد درسنا هذه النداءات هنا وقلنا للمسلمين: ترجموا هذه النداءات بلغات العالم الإسلامي ووزعوها يا أغنياء على الفنادق، وكل سرير يكون عنده كتيب، وذلك قدوة بالنصارى الذين يضعون الإنجيل الأعمى عند كل سرير، ولذلك إذا جاء أحدهم لينام فإنه يستمع إلى نداء من نداءات ربه، فيفرح بذلك؛ لأنه ربه ناداه ليعلمه وليهذبه، ولذا ينبغي على كل أهل بيت أن يعرفوا هذه النداءات، إذ كيف ينادينا ربنا وما نسمع؟ أو نسمع ونقول: قل ما شئت فلن نطيع! أعوذ بالله، أنرضى بالكفر بعد الإيمان؟!
وأخيراً: خلاصة الشريعة بكاملها عقائد وآداب وعبادات وأخلاق وسياسات شرعية في الحرب وفي السلم، بل وفي كل الأحوال هي في تسعين نداء، فمن صرف المسلمين عن هذا؟ إنه الثالوث الأسود من اليهود والنصارى والمجوس، ووالله لو كنا صادقين على أن نعود إلى سيادتنا ما إن صدرت هذه النداءات حتى انتشرت في العالم بكامله، فماذا يكلفنا؟ الترجمة باللغات الحية ولغات المسلمين الفارسية إلى الأردية، ولكن صدق الشاعر عندما قال:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، ألا وهو القرآن، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، ألا وهو التوراة والإنجيل والزبور، وهذا النداء صالح لنا ولليهود بني عمنا، وبعض الإخوان يقول: كيف اليهود بنو عمنا؟ إي نعم، أليسوا أولاد إسحاق بن يعقوب بن إبراهيم؟ ونحن ألسنا أولاد إسماعيل بن إبراهيم؟ بلى.
أزيدكم فضيحة على علم: لو حكم اليهود إقليماً من أقاليم المسلمين لكان حكمهم أرحم من حكم هؤلاء المسلمين إلا من رحم الله، وليس فوق هذا شيء أبداً.
والشاهد عندنا: أن هذا النداء صالح للمؤمنين ولأهل الكتاب، فالمؤمنون بأن يزيدوا في طاقات إيمانهم ليصبحوا موقنين بما أنزل الله وشرع، واليهود يدعون أنهم مؤمنون، فهذا هو الإيمان الصحيح، فصححوا إيمانكم أيها اليهود! وهم يدخلون في هذا لأنهم مؤمنون بالله ولقائه والدار الآخرة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136]، محمد صلى الله عليه وسلم، وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، ولم يقل: أنزل، وإنما (نزل)، لأنه نزله مقسطاً آية بعد أخرى لظرف ثلاثة وعشرين سنة، أما التوراة فقد نزلت جملة واحدة، وكذلك الإنجيل، أما القرآن فقد نزله يوماً بعد يوم، وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ [النساء:136]، ألا وهو القرآن، عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136]، محمد صلى الله عليه وسلم، وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، الإنجيل والزبور.
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]، فلا يعود إلى السعادة والكمال أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم عقب على ذلك: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النساء:137]، يتلاعبون، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، وهذه الحقيقة واضحة عندنا، فالشخص إذا اعتاد جريمة معينة وبالغ فيها ما انقطع عنها وما تاب منها أبداً، بل يأتي يوم ويصبح لا يستطيع أن يتركها أبداً، وهؤلاء لن يتوبوا أبداً، آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137]، يتوبون بعد هذا؟ والله ما كان، وهذه هي سنة الله في الخلق.
إذاً: فهؤلاء ما حكمهم؟ حكم الله فقال: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا [النساء:137]، أي: طريقاً للكمال والسعادة.
وصلى الله على سيدنا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر