أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا فإنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وها نحن ما زلنا مع سورة النساء المباركة الميمونة المدنية، ومع هذه الآيات الأربع، فأعيد تلاوتها وتأملوا واذكروا ما علمتموه البارحة منها، فقال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:123-124]، والنقير الذي لا يظلمه المؤمن العامل للصالحات هو أصغر شيء، والنقرة في ظهر النواة تسمى النقير، فنواة التمر فيها نقرة في وسطها، فمثل تلك النقرة لا يظلمها العبد المؤمن العامل الصالحات.
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:125-126]، فالله محيط بكل شيء، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، فكل شيء الله محيط به، فالسموات مطوية طي الصحيفة في يده، والأرض في قبضته، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، فليخافوه وليرهبوه، لكنهم ما استطاعوا؛ لأن العدو كبّلهم وقيدهم، فلم يستطع أن يَرهب المؤمن ربه ويخافه فيعبده ويستقيم على عبادته إلا من نجاه الله من العدو، ألا وهو إبليس عليه لعائن الله، وقد سمعنا البيان السابق منه الذي واجه به الرب تبارك وتعالى، فماذا قال لتعرفوا الحقيقة؟ قال تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ [النساء:117-118]، أي: الشيطان، لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:118-119]، فلا تظنوا أنكم أحرار في هذه الدنيا، بل إن هناك عدواً قد أخرج أباكم وأمكم من دار السلام، وها أنتم تعيشون لاجئين على هذه الأرض، وداركم الحقيقية والله ما هي هذه، وإنما هي دار السلام في الآخرة.
وقد عرفتم الحكم الصادر علينا من قبل ذي الجلال والإكرام، وأنه لا معقب لحكمه، أي: ما فيه محكمة عليا تستأنف القضايا، إذ قال بنفسه من سورة الرعد: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، فما هو هذا الحكم؟ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، فكن ابن من شئت، وكن أباً لمن شئت، ويا مؤمنة كوني امرأة من شئتِ، إذا لم تزك نفسك والله ما نفعكِ ذاك الانتساب إلى أب صالح، أو ولي من الأولياء، أو نبي من الأنبياء، أو زوج من الصالحين، والذي يشك في هذا ما عرف الإسلام بعد.
قَدْ أَفْلَحَ [الشمس:9] من؟ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9]، من هي التي نزكيها؟ النفس البشرية، وَقَدْ خَابَ [الشمس:9] وخسر من؟ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].
فهل عرفتم بم تزكى النفس البشرية؟ أو ما هي المواد التي تزكي النفس البشرية؟ والجواب: بالإيمان والعمل الصالح، إذاً فمن يعلمنا؟ من يعرفنا كيف نستعمل الصالحات في تزكية أنفسنا؟ والجواب: اطلب تجد، زاحم العلماء بركبتيك وتعلم، أو تريد أن تقول: أنا مسلم وتصبح عالماً، كيف تعبد الله؟ مستحيل، إذ لا يوحى إليك وما أنت بنبي، بل لا بد وأن تعرف كيف تستعمل الصالحات حتى تزكي بها نفسك، ويجب أن تعرف أيضاً المفسدات للنفس وتبتعد عنها وترحل من ساحتها، وتهجر حتى ديارها، وذلك إن كنت تريد أن تنزل دار السلام، أما إن كنت تريد أن تهبط إلى أسفل سافلين فما أكثر الهابطين.
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، وبالأمس عرفتم أن النصراني قد يبني المشافي، ويوزع الأدوية والأكسية والأطعمة في الشرق والغرب، لكن والله لا يجد حسنة واحدة يوم القيامة؛ لأنه كافر غير مؤمن.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124]، أما من كفر بالله وبرسوله ولقائه، فكيف تقبل أعماله الصالحة؟!
فَأُوْلَئِكَ [النساء:124] السامون الأعلون يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، أي من حسناتهم وأعمالهم، فإياك أن تفهم أنك تظلم حسنة واحدة، بل معشار حسنة، إذ حسناتك مدونة ومسجلة، فاعمل ما شئت طول حياتك وثق بأنك لا تبخس ولا تنقص من حسناتك شيئاً، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].
إذاً يقول الجبار تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ [النساء:125]، لا وجود له، مِمَّنْ [النساء:125] أي: من عبد أبيض أو أسود، أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، والحال وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النساء:125] أيضاً، حَنِيفًا [النساء:125]، فهذه ثلاثة قيود، فهل تريد أن تعرف من أحسن ديناً من الناس؟ من يرغب في أن يعرف من أحسن دين في البشرية؟ فالجواب: أن تقول: أحسن ديناً في الناس من أسلم وجهه لله، وذلك بأن لا ينظر إلا إلى الله، فقلبه ووجهه مقبل على ربه، بل كل حياته موقوفة على الله تعالى، فليأكلن من أجل الله، وليشربن من أجل الله، وليبني المنزل ويهدمه من أجل الله، ولينام ويستيقظ من أجل الله، وليتزوج ويلد من أجل الله، فكل شيء أعطاه لله، فهذا هو المسلم الحق.
وإن قلت: يا شيخ! كيف هذا؟ يأكل من أجل الله؟! إي نعم، لما يوضع الأكل بين يديه يقول: باسم الله، ولولا أنه أذن له فيه ما أكله، كما أنك ناوٍ أن يأكل ليتقوى بالأكل أو لتستمر حياته على طاعة الله وعبادته، وكذلك لما يحرث ويرمي البذرة من أجل أن يوفر قوتاً له ليعبد الله عز وجل، ويبني هذا المنزل ليستر فيه نفسه وأسرته، وذلك حتى لا يؤذي المؤمنين ولا يؤذونه، ويطلق امرأته لله؛ لأنها مظلومة ما سعدت معه، بل تأذت وما أطاقت المكث معه، فهذه أمة الله طلقتها لأجل الله.
فحياة المؤمن الحق كلها موقوفة على الله تعالى، وذلك إن أراد أن يكون أحسن الخليقة ديناً، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، والحال وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، أي: في أداء تلك العبادات، حتى لو كانت ذكراً لله فيجب أن تحسن هذا الذكر فضلاً عن الأعمال التي هي بالأركان والجوارح؛ لأنك إذا أسأت في العبادة ما أنتجت لك النور ولا التزكية المطلوبة، فإذا قام وتوضأ فغسل رجله اليمنى ثم مسح رأسه ثم تمضمض، فماذا يقول له الفقيه؟ أعد وضوءك؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فلا بد من إحسان العمل والقول، فتأتي تذكر الله فتقول: الله، لا إله! الله، لا إله! لا ينفع هذا، بل قل: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، كذلك تقول: الله، سبحان! ما تنفع، بل قل: سبحان الله، ولذلك الذي لا يحسن صلاته ولا صيامه ولا جهاده ولا صدقاته ولا أذكاره، فإنه يعمل بلا ثمرة ولا نتيجة، وقد علمنا في البارحة كلمة الرسول الباقية الخالدة: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، أي: من عمل عملاً ما أمرنا به، ما أذنا فيه، ما شرعناه، فهو مردود على صاحبه، ولا يقبله الله ولا يثيب عليه ولا يجزي به.
واستعرضوا مواقف إبراهيم في القرآن، قال تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، وهذا رد على اليهود والنصارى لما ادعوا أنهم على ملة إبراهيم، وأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، إذ أين اليهودية والنصرانية؟ بينهم وبين إبراهيم أكثر من ألفين سنة، لكن أكبتهم الله وأخزاهم بقوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا [آل عمران:67]، إذ ما كانت اليهودية إلا على عهد موسى، فكيف كان إبراهيم يهودياً أو نصرانيا؟ فهذه ردود الله تعالى على دعاوى اليهود والنصارى.
والشاهد عندنا هو قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28].
فإبراهيم كان حنيفاً مسلماً ووالله ما كان من المشركين، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فأولاً وقف حياته على الله عز وجل، فلا يتزوج إلا لله، ولا يطلق إلا لله، ولا يطلب وظيفة إلا لهه، ولا يترك وظيفة إلا لله تعالى.
واقرءوا لذلك قول الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، وهذه الآية قد سميناها آية الوقفية، إذ إن حياة المؤمن وقف على الله تعالى، وكما قدمنا ازرع واحصد من أجل الله، وابن واهدم من أجل الله؛ إذ حياتك كلها لله، وهكذا أمر الله رسوله أن يعلنها ليتبعه أتباعه والمؤمنون به، إِنَّ صَلاتِي [الأنعام:162]، ويدخل فيها كل العبادات، وَنُسُكِي [الأنعام:162] كذلك، وإن كان المراد به الذبح لله، فكل العبادات نسك؛ لأنها تطهر النفس وتزكيها، وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [الأنعام:162]، هل بقي شيء؟ لا، لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].
قال: وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء:125]، أتدرون ما الإحسان؟ هل الإحسان يعني التصدق على الفقراء والمساكين؟ اليهود والنصارى يتصدقون! إذاً ما هو الإحسان؟ الإحسان فسره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل: ما الإحسان يا رسول الله؟ فقال: ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه )، فإن عجزت ولم تكن تراه فلتعلم أنه يراك، فهاتان مرتبتان، الأولى عليا والثانية دنيا، فإن عجزت عن الأولى فلا تفوتك الثانية، فإذا توضأت وكأنك تنظر إلى الله لينظر إلى وضوئك كيف يتم، ولما تكبر وتدخل في الصلاة صل كأنك تنظر إلى الله وأنت تصلي أمامه، فلا تستطيع أن تلتفت بعينك وأنت مع الله، ومن ثم تحسن أداء العبادة، ولا تغشها ولا تدخل فيها ما ليس منها، والذي يدخل العبادة وليس من هذا النوع فلن يستفيد شيئاً.
( أن تعبد الله كأنك تراه )، لما يختبرك المعلم كيف يكون حالك ساعة الاختبار؟ تجتهد في أن تؤدي ذلك العمل على ما يحب هذا المختبر، وذلك خشية أن تخيب وتخسر، ولذلك لو عرفنا هذا وكنا من أهله ما نزلنا من علياء السماء إلى هذه الأرض.
قال: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:125]، أي: مائلة عن كل ألوان الباطل وصنوف الشرك والضلال إلى الحق المبين وهو عبادة الله وحده، وأخيراً: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، وما دام الله قد جعله خليلاً له إذاً فملته من أكمل الملل وأعظمها؛ لأن الله اتخذ صاحب هذه الملة خليلاً له.
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، احتراس من أن يقال: إذاً الله في حاجة إلى إبراهيم، فقد اتخذه خليلاً له ليعينه أو يساعده، فهذا الكلام باطل؛ لأن الله ليس بعاجز وليس بمحتاج أو فقير، بدليل أن له ما في السموات وما في الأرض، وهو بكل شيء محيط؛ لعظم ذاته وقدرته.
قال: [ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123] من يهود ونصارى، أي: ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية ] هو [ أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي على النفس بالتزكية أو التدسية، فمن عمل سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه، فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار، والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار ويبعدها عن مجاورة الفجار ].
مرة أخرى، قال: [ وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي ]، ما معنى الكسب الإرادي؟ أن تعمل العمل وأنت واع لست بسكران ولا مجنون ولا نائم، أما الخطأ والنسيان والنوم والجنون فلا يؤاخذ به الإنسان إن عمل عملاً، فالكسب الإرادي هو الذي يسلب إرادتك.
قال: [ في تأثير الكسب الإرادي على النفس ] بماذا؟ [ بالتزكية أو التدسية ] فإذا كانت الكلمة طيبة أنتجت حسنة، وإن كانت الكلمة خبيثة أنتجت سيئة، وكذلك كل حركة يعملها الإنسان.
قال: [ فمن عمل سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه ] أي: بحسب عمله، [ فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار ] في الدار الآخرة، [ والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها ] ويعدها [ لمجاورة الأبرار، ويبعدها ] في نفس الوقت [ عن مجاورة الفجار ] والكفار.
قال: [ وقوله تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123]؛ لأن سنن الله كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها، بل تمضي كما هي، فلا ينفع صاحب السوء أحد، ولا يضر صاحب الحسنات أحد. فقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]، فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب ]، أي: العمل [ على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهراً وتدسية وخبثاً، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكراً كان أو أنثى، ويتأهل بذلك لدخول الجنة، ولا يظلم مقدار نقير فضلاً عما هو أكثر وأكبر.
وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان؛ إذ هو قائم على أساس إسلام الوجه لله، وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع الإحسان الكامل، وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى، واتباع ملة إبراهيم بعبادة الله تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر الآلهة.
وقوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، فيه زيادة تقرير فضل الإسلام الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خليلاً.
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله؛ فإنه رفعٌ لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو أنه في حاجة إليه، فأخبر تعالى أن له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً، وإبراهيم في جملة ذلك، فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شيء ومليكه؟! ].
قال: [ وقد شرُف بالخلة محمد صلى الله عليه وسلم ]، والخلة هي الحب الذي يتخلل القلب ويسري في كل أجزائه.
قال: [ وقد شرف بالخلة محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين ] أي: البخاري ومسلم، [ أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم آخر خطبة ] أي: خطب المؤمنين آخر خطبة في حياته، [ فقال: ( أما بعد: أيها الناس! فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت
أتعرفون أبا بكر ؟ ملايين من إخوانكم المسلمين يكفرونه ويبغضونه ويلعنونه، ويتقربون بذلك إلى الله! فأي عمى أكثر من هذا العمى؟! وأي موتٍ أعظم من هذا الموت؟! ولا يسألون ولا يفكرون بعقولهم، إذ إن أبا بكر هو صاحب رسول الله في الغار، والشاهد عندنا هو الجهل الذي غطى هذه الأمة وعماها وأضلها.
قال: [ من هداية الآيات: أولاً: ما عند الله ]، أي: من النصر والفوز، ومن النعيم المقيم في الجنة، [ لا ينال بالتمني، ولكن بالإيمان والعمل الصالح ]، وإن شئت فقل: [ أو التقوى والصبر والإحسان]، وأخذناها هذا من قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، بل مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].
قال: [ ثانياً: الجزاء أثر طبيعي للعمل ]، فلو تأخذ إبرة وتغرزها في لحمك فإنك تتأذى، ولو تشرب سماً فإنك تهلك، ولو تقوم الآن وتسب أحد الإخوان فإنه سيرد عليك، إذاً فالجزاء أثر طبيعي لا يتخلف أبداً، [ وهو معنى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء:123-124].
ثالثاً: فضل الإسلام على سائر الأديان ]، وأخذنا هذا من قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، فمن يسلم وجهه لله سوى المسلم؟ المسلم الذي يعطي قلبه ووجهه لله، وكل حياته وقف على الله عز وجل حتى يموت، وفي نفس الوقت هو موحد لا يلتفت إلى غير الله، ولا يعرف من يدعوه أو يناديه أو يستغيث به غير الله، فهو على ملة إبراهيم عليه السلام.
قال: [ رابعاً: شرف إبراهيم عليه السلام باتخاذه ربه خليلاً ]، وسبب اتخاذ ربه له خليلاً أنه أول من هاجر في سبيل الله، فترك دياره وأهله وأولاده وأمواله، وذلك لما حُكِم عليه بالإعدام فنجاه الله وسلمه، وقال: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات:99-100]، وترك أرض بابل والعراق واتجه غرباً حتى وصل إلى مصر، وهذه واحدة، والثانية: أنه امتحن بأن يبني لله بيتاً في جبال فاران، وأعظم من هذه أن الله ابتلاه بأن يذبح ولده، فهل تردد إبراهيم؟ لا والله، بل أخذت هاجر إسماعيل وطيبته وألبسته أحسن الثياب، ثم أتى به إبراهيم إلى منى وتله على جبينه على الأرض والمدية في يده وأراد ذبحه؛ لأن الله أمره بذلك.
قال: [ خامساً: غنى الله تعالى عن سائر مخلوقاته، وافتقار سائر مخلوقاته إليه عز وجل ]، وأخذنا هذا من قول الله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، والله تعالى أسأل أن يرد إخواننا وأمتنا إلى كتاب الله عز وجل، فيجتمعون عليه في مساجدهم ويتعلمون الكتاب والحكمة، فتنتهي المذهبية والفرقة والعنتريات وأوضار الحياة وأوساخها؛ إذ والله لا نجاة إلا بهذا، إما أن نعود إلى كتاب الله وسنة رسوله بصدق، فإذا أذن المغرب لن تجد رجلاً في الأسواق ولا في الشوارع ولا في البيوت، إذ كل المؤمنين في بيت ربهم، وطول العمر وهم كذلك، فهل يبقى جاهل؟ لا والله، بل إذا انتفى الجهل لا يبقى الظلم والشر والخبث، ولا حيلة إلا هذه، ولنذكر أن الشيوعية لما بدأت كانت تلزم المواطنين بأن يجتمعوا حتى في الصحراء ليتلقوا معارف البلشفية الحمراء، حتى في عدن فعلوا بهم هذا، ونحن يؤذن المؤذن لصلاة فتجد هذا يغني، وهذا يلعب، وهذا يرقص، إذاً فكيف نرجع إلى الله؟ مستحيل بدون علم، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، ومن شك فلينظر أعلمنا في أي قرية أتقانا لله عز وجل والله العظيم، وأجهلنا بالله أخبثنا، أتريد بياناً أعظم من هذا؟
فهيا نعود على الله تعالى، ما نستطيع، لم؟ مقيدون مكبلون؟! لا والله، وإنما شهواتنا وأطماعنا وشياطيننا، وإلا فالأصل أنه إذا دقت الساعة السادسة توضأ واحمل زوجتك وأولادك إلى المسجد القريب منك، وصلوا المغرب واجلسوا جلوسنا هذا لتتعلموا الكتاب والحكمة، وعند ذلك لا يبقى جاهل أو ظالم، وهذا هو الطريق، فاللهم اهد هذه الأمة إليه.
وصلى الله على سيدنا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر