أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم وفداه أبي وأمي والعالم أجمع: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.
وما زلنا مع سورة النساء المدنية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآية التي تدارسناها وتلوناها البارحة، وهي قول ربنا جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، وحفظها الكثير من المستمعين والمستمعات، وفهمناها فهماً جيداً، وفهمنا أن الله عز وجل أعلن هذا الإعلان الرسمي الإلهي الرباني الذي لا ينقض بحال من الأحوال، وهو أن الله تعالى لا يغفر لمشرك مات على شركه، وما عدا الشرك من سائر الذنوب والآثام فموضوعة تحت النظر، إن شاء الله غفر، وإن شاء آخذ وعذب.
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:116]، الذي هو الشرك، لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116]، ثم أخبر خبراً عظيماً فقال: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، ما يرجع إلى الصواب.
كما أخذنا يوم أمس في دراسة التوحيد من هذه الآية المباركة الكريمة، وعلمنا أن التوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة أو الإلهية، وعلمنا أن من ادعى أن فلاناً يخلق أو يرزق، أو يعطي أو يمنع، أو يضر أو ينفع، أو يخلق شيئاً ما من المخلوقات، فقد أشرك هذا المخلوق في ربوبية الله عز وجل؛ إذ لا يوجد من يخلق سوى الله، ولا يوجد من يرزق سوى الله، ولا يوجد من يدبر الحياة سوى الله تعالى.
ولهذا فإن المشركين على عهد نزول القرآن الكريم لا يشركون بتوحيد الربوبية، بل لقد كانوا يقرون به، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس:31]، وإنما كان شركهم في الإلهية أو العبادة، وقد ظهرت جماعات تشرك بالله في ربوبيته، وتشرك بالله في عباداته، وتشرك بالله في أسمائه وصفاته، وقد نبهنا بأيسر طريق وهو أن علينا أن نؤمن بأسماء الله وصفاته الذاتية والفعلية، فنجريها على ألسنتنا كما هي في الكتاب وعلى لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ إن لله مائة اسم إلا واحداً، أي: تسعة وتسعين اسماً، فلا نسمي بها أحداً من المخلوقات، وإنما لنا أن نسمي فنقول: عبد العزيز، عبد الرحمن، عبد الغفار، عبد الله، عبد الرحيم، أما أن نسمي كائناً مخلوقاً باسم الله فقد أشركنا في أسماء الله تعالى، أيضاً إن لله صفات عليا نوردها وننطق بها ونتكلم بها كما هي، بلا نؤول ولا تحريف ولا تشبيه، فنقول: سمع الله ليس كسمع الإنسان، أو بصر الله ليس كبصر الإنسان، إذ هو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء.
وقد ذكرنا أمثلة لذلك ومنها: نزول الله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فلا نقل: كيف؟ لأنك لن تستطيع أن تعرف، وإن قلت: لا، فقد كفرت وكذبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أولت وقلت: ينزل الملك أو أمره فقد كذبت الله والرسول، إذ ما حملك على هذا؟!
ومنها: أن الله تعالى قد أخبر أنه خلق آدم بيديه، فقل: آمنت بالله، ولا تقل: كيف؟ ولا يخطر ببالك أن تتمثل يد الله أو تتخيلها؛ لأنك عاجز عن هذا، ولا تستطيع أن تدركه لضعفك وهزلك.
كذلك: الملائكة الآن هي حولنا تحفنا، فهل استطعنا أن نراهم بأعيننا؟ لا؛ لضعف أعيننا، إذ إنها ليست متأهلة لأن ترى الملائكة والجن! مع أن هذا حادث بيننا، فنؤمن بصفات الله كما أخبر بها هو عن نفسه، وكما أخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها أيضاً: أنه جاء في الحديث الشريف المفسر: أن الله يحشر ويدخل الكفار والمشركين والمجرمين والظالمين النار، وهي مع ذلك تقول: هل من مزيد؟ بل كل ما يُدفع إليها تقول: هل من مزيد؟ فأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجبار تعالى يضع قدمه فيها فتمتلئ وتقول: قط، قط، أي: يكفي، ما بقي مزيد، فلا تسأل فتقول: كيف القدم؟ أتصور الله كمخلوقاته؟! هل ناسج هذا الثوب مثل هذا الثوب؟ وهل خالق المخلوقات يكون مثلهم؟ مستحيل! فآمن بأسماء الله وصفاته كما آمنت بوجوده وعلمه وقدرته وسلطانه في خلقه، وإياك أن تحرفها أو تؤولها أو تشبهها بصفات المحدثين والمخلوقين، فإن الله ليس كمثله شيء.
ومنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر ويدخلان الجنة )، فلا تقل: كيف يضحك؟ وهل عرفت ذات الله حتى تسأل ذلك السؤال؟ قل: آمنت بأن الجبار تعالى يضحك، وكذلك يغضب الجبار، لكن لا تحاول أن تفهم غضب الله وتقيسه بغضب المخلوقات، وأيضاً يرضى الرحمن عن المؤمنين، فلا تتصور رضا الله كرضا مخلوقاته، بل هو فوق ذلك، وإنما فقط آمن بأسماء الله وصفاته ولا تشرك فيها كائناً من الكائنات، وهذا قد وفيناه ما يستحق بالأمس، وانتقلنا إلى توحيد الإلهية أو الألوهية أو العبادة، وكلها بمعنى واحد.
وعليه فمن قال: لا إله إلا الله لزمه ووجب عليه قضاء أن يعبد الله تعالى، وهذا أولاً، إذ كيف تشهد على علم أنه لا يعبد إلا الله وتعبد غيره؟! إن هذه زلة عظمى، أو من قال: لا إله إلا الله ولم يغتسل من جنابة ولم يصل ركعة ولم يصم يوماً؛ فإن ذلك لا ينفعه أبداً، إذ لو عرف معرفة حقيقية ألا معبود إلا الله والله لعبد الله تعالى، فهو قد عرف وأعلن عن علم، والشهادة لا تكون إلا عن علم، فأنت نظرت في الكون فرأيت أنه لا يستحق العبادة إلا هو فقلت: أشهد أنه لا إله إلا الله، فكيف لا تعبده؟! إذاً: شهادتك مردودة عليك؛ لأنك ما شهدت بالعلم.
ثانياً: ألا تعبد معه غيره وإلا تناقضت في نفسك، إذ إنك من جهة تشهد ألا معبود إلا الله وعبدته، ثم تعبد معه غيره، كيف ذلك؟! إن هذا تناقض، لكن لو قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وفلاناً معه وسميته، لكنت ربما تعذر، فأنت نطقت بما تعتقد، أو قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وجبريل مثلاً أو فلان، لكن كونك تشهد أن لا إله إلا الله وتعبد معه غيره فقد تناقضت، ومثلك كمثل من يقول: أشهد أن هذا المفتاح لفلان ثم لا تعطيه إياه! أو أشهد أن هذه السيارة لإبراهيم ثم لا تعطيعها إياه، فهذا تناقض ولا تقبل الشهادة منك.
إذاً: من شهد أن لا إله إلا الله وجب عليه أولاً: أن يعبد الله الذي شهد له بالعبادة، وأنه لا معبود يستحق العبادة إلا هو سبحانه وتعالى.
ثانياً: يجب ألا يعبد معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات، وسنبين ما شاء الله منها أن نبين.
ثالثاً: ألا يرضى بعبادة غير الله تعالى، فلو عبد أباه أو أمه فإن الله لا يرضى بذلك، بل يسخط وينكر، فكيف وهو يشهد أنه لا يعبد إلا الله ويقر من يعبد غير الله تعالى؟! إن هذا تناقض واضح، إذ ما صدق في شهادته، ولهذا لا يقر أبداً ولا يرضى بعبادة غير الله من أي إنسان كان، قريباً كان منه أو بعيداً، ومن ثم تصبح شهادته ذات وزن وذات قدر.
وبالتالي فيجب عليك أموراً بشهادتك أن محمداً رسول الله، فأولاً: أن تقبل ما يأتيك عنه ويبلغك من رسالته، ولا ترد أمراً أبداً من أوامره، ولا ترفض نهياً من نواهيه، وهذا مقتضى شهادتك أنه رسول الله، فكل ما أخبرك به الرسول يجب أن تصدقه فيه، سواء أدركته أو عجزت، فإذا أخبرك بخبر وصح هذا الخبر عنه فيجب أن تؤمن به وتصدق، وحرام أن ترده، وإن رددته والعياذ بالله فقد كفرت برسالته.
وهنا صورة لهذا الأمر: كان صلى الله عليه وسلم جالساً بين أصحابه يعلمهم الكتاب والحكمة، فأوحي إليه بخبر وهو أن رجلاً من بني إسرائيل في الزمان الأول كان يركب بقرة، فرفعت البقرة رأسها إليه وقالت: ما لهذا خلقت، أنما خلقت للحرث والسني، فكيف تركبني؟! وفجأة قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( آمنت به، آمنت به، آمنت به، وآمن به
ثانياً: يجب أن تطيعه في الأمر والنهي، فإذا كان الأمر للإلزام وللوجوب لا للندب والاستحباب فيجب أن تطيعه فيه، فإن قلت: أنا لا أطيع محمداً في هذه القضية، فقد خرجت من الإسلام، كما إذا بلغك نهيه عما حرم الله فانتهي مباشرة، إذ ما حرم الله أمراً كان قولاً أو عملاً إلا لأنه ضار بالإنسان مفسد له معوق له عن السعادة والكمال، والله الذي لا إله غيره! ما أمرنا الله بشيء لنعتقده أو نقوله أو نعمله أو نتصف به إلا من أجل إسعادنا وإكمالنا؛ لأن الله ليس بعدو لنا، يكلفنا ويعذبنا! إنه ربنا وخالقنا ورازقنا وولينا، وهو أرحم بنا من أنفسنا، فإذا أمرنا أو نهانا فلنفهم أن ذلك لصالحنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يأمر الله به، ولا ينهى إلا عما ينهى الله تعالى عنه، ولهذا الكتاب والسنة أو الكتاب والحكمة متلازمان.
ثالثاً: حبه صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسك وولدك ومالك والناس أجمعين، وهنا قد غفل الغافلون وهبط الهابطون، إذ إنهم يدعون حب رسول الله وهم في الحقيقة ما أحبوه، وإنما دعاوى فقط، ولما يُسأل عن الحب وحقيقته ما يدري، وسأعطيكم مثالاً فقط لذلك وهو: إذا علمت أن رسول الله يحب كذا، سواء كان قولاً أو اعتقاداً أو عملاً، فإن كنت تحب رسول الله فسوف تفعل ذلك لأنه يحبه، فكيف تخالفه وتدعي حبه؟! نعم، قد تعجز، فقل: أستغفر الله، أتوب إلى الله، ضعفت عن هذا، أما أن تعلم أن رسول الله يحب كذا وأنت تبغضه، فوالله ما أحببته.
والمثال القريب هو: من المعلوم أنك تحب والدتك وزوجتك وولدك، فإذا طلبت منك زوجتك أن تعطيها كذا، فإنك سوف تعطيها؛ لأنك تحبها، ولذلك فمن أحب الله أو أحب رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يتنازل عن حبه للشيء من أجل حبه لربه عز وجل، ومن هنا يجب عليك أولاً أن تحب الله ورسوله، ومن ثم يجب أن نحب ما يحب الله ورسوله، فمن أحب ما يكره الله ورسوله فقد تناقض في دعوى محبته لهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين. فقال
إذاً: عرفنا من شهد أن محمداً رسول الله ماذا يجب عليه؟ أن يطيعه في الأمر والنهي، أن يصدقه في كل ما يخبر به، سواء أدركته أو عجزت عن إدراكه، ومثال ذلك: لما أخبر أنه أسري به من بيت أم هانئ من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم إلى الملكوت الأعلى، ثم إلى سدرة المنتهى، ماذا قال المؤمنون؟ قال أبو بكر: صدقناه فيما هو أعظم من ذلك، صدقناه في الوحي ينزل عليه من الله، فكن متهيئاً لأن تصدق رسول الله في كل خبر، على شرط أن تعلم أنه صح عنه وأنه قاله، أما إذا شككت في صحته فمعذور، ولكن اسأل أهل العلم: هل هذا صحيح أم لا؟ أي: هل ثبت هذا عن رسولنا أنه قاله أو لم يثبت؟
وهنا انظروا إلى الشيخ وهو يمثل لكم هذه المظاهر لهذه العبادة لتعرفوا أن الدعاء هو العبادة، فالآن أنا رفعت كفي إلى السماء فماذا تقرأ؟ الشيخ فقير مسكين وضع كفيه يتكفف سيده، الشيخ فقير محتاج إلى من يقضي حاجته ويسد فاقته، إذ عرف أن الله فوق سمواته فوق عرشه هو الذي يعطيه ويقضي حاجته، فلذا رفع كفيه إليه.
ثانياً: أن الشيخ علم أن ربه يعلم حاله، ويعرف مكانه، ويعرف حاجته، ويقدر على قضائها وإعطائها وإلا ما سأله.
ثالثاً: الشيخ لو علم أن ربه ليس فوق السماوات فوق العرش لنكس يديه إلى الأرض، لكن هو رفع يديه لأنه علم أن الله فوقنا، فهو أقر بوجود الله، وبعلم الله، وبقدرة الله، ثم كفر بكل كائن سوى الله يعطيه حاجته ويقضيها، وإلا لقال: يا فلان! لكنه وحد الله عز وجل غاية التوحيد وأعظمه.
ثم إن كل من يدعو غير الله من الملائكة أو الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصلحاء فقد أشرك بربه، أي: أشرك في عبادة ربه، ويصدق عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، فإن تاب وتاب الله عليه فنعمت، وإن لم يتب ومات على ذلك فقد انتهى أمره ولو صام سبعين سنة، ووقف متعبداً سبعين أخرى، وحج سبعين حجة، وغزا سبعين غزوة؛ إذ كل ذلك باطل لا يعطى عليه شيئاً.
وها نحن نشاهد من يدعون غير الله عز وجل من آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا في العالم طيلة خمسمائة عام أو أكثر! فأين مصير هؤلاء؟ يسألني بعض الإخوة أو الأبناء فيقول لي: إن أمي قد ماتت على كذا، وأبي مات على كذا، فنقول له: اسمع، لعل والدك أو أمك كانت جاهلة فقط ما عرفت الطريق، وكانت تصوم وتصلي وتتصدق وتذكر الله، فإذا كانت صادقة فالله عز وجل يحفظها عند الوفاة، وذلك بأن يوفقها للشهادة عند الموت، فلا تقول: يا سيدي عبد القادر! يا مولاي إدريس! يا عبد الرحمن! وتكون بذلك قد نجت، إذ إن من مات وآخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة؛ لأن هذه الكلمة إذا عرفها العبد وأعلن بها فإنها تمحو كل الذنوب وتبخرها!
وإن مات العبد وهو يأتي يقول: يا سيدي عبد القادر! فقد انتهى أمره، ولا تصل ولا تصم ولا تحج عنه، إذ لا ينفعه ذلك شيئاً، وافهموا هذه القضية بالذات؛ لأننا جاهلون متورطون في ظلمة الجهل، لكن إذا أراد الله أن ينقذ عبداً من عباده أو أمة من إمائه لعلمه بسابق نياته -ولكن وقع في الجهل- فإنه يحفظه ساعة الوفاة، فلا يعرف إلا الله تعالى، وينسى عبد القادر وفلان وفلان، وهذه هي حسن الخاتمة.
إذاً: قد رأينا المسلمين في الشرق والغرب يدعون غير الله تعالى، وهم بهذا الدعاء والله مشركون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فماذا نصنع؟ نأخذ في تعليمهم فنقول: لا يدعى سوى الله عز وجل، لا ملك ولا نبي ولا ولي ولا أي كائن، إذ لا يعلم أين أنت؟ ولا يعلم حاجتك، ولا يسمعك، ولا يقدر على أن يعطيك شيئاً إلا الله، ولك أن تقف في صحراء وتنادي يا عبد القادر! هل يجيبك؟! لا والله، بل لو ناديت رسول الله فإنه لن يجيبك أبداً، والقرآن الكريم قد بين هذه المواقف فقال: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، وأخرى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ [الأحقاف:6]، أي: يوم القيامة، كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، وهذه وحدها كافية، وَمَنْ [الأحقاف:5]؟ إنه استفهام من الجبار جل جلاله وعظم سلطانه، أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ [الأحقاف:5]، لو دعا عيسى إبراهيم وهو بين يديه يسمع صوته ويرى حاجته ويقدر عليها فلا بأس، لكن أن يدعو من لا يستجيب له إلى يوم القيامة! فوالله لو تقف على قبر رسول الله وتناديه إلى يوم القيامة ما استجاب لك، ويوم القيامة والله ليكفر بشركك، ولا يعترف لك أبداً بأنك دعوته، إذ كيف يعترف أنه قد عُبِد مع الله؟! وهذا سيد الخلق، فكيف بمن دونه من الخلق؟! بل والله قد هبطنا حتى ما أصبحنا ندعو الأنبياء والأولياء، وإنما ندعو الصعاليك وندعي أنهم أولياء وأقطاباً وهم من تاركي الصلاة والعياذ بالله!
فاحذر يا عبد الله! واحذري يا أمة الله! أن يراك الله وأنت تقولين: يا سيدي فلان! كما أنه لا يحل أيضاً أن تركب سيارتك أو بغلتك أو دابتك إلى الضريح الفلاني أو إلى القبر الفلاني لتتمرغ عليه وتبكي بين يديه وكأنك بين يدي الله، إذ إن هذا والله لهو الشرك الأعظم، وصاحبه لن ينجو إلا إذا أدركه الله فمات عند آخر ساعاته وهو يقول: لا إله إلا الله.
وكذلك السجود لا يكون إلا لله تعالى، وهو وضع الجبهة والأنف -أفضل الأعضاء وأعظمها- في التراب بين يدي الله، وبالتالي فمن سجد لغير الله تعظيماً لحي أو ميت فقد أشرك بالله عز وجل، وهو والله من المشركين وإن صام وصلى؛ لأنه قد أشرك في عبادة الله تعالى، وما وحد الله تعالى، بل كذب في قوله: لا إله إلا الله.
وقد رأينا وبلغنا أن إخواننا الجهلة يأتون إلى ضريح سيدي فلان وهم يزحفون على أستاههم وذلك تعظيماً له! ثم يخرون ساجدين، مع أنهم ما فعلوا هذا مع الله تعالى، ولذلك فلا ركوع ولا سجود إلا لله عز وجل، كما لا دعاء ولا سؤال حاجة إلا من الله عز وجل، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فمن أمر الرسول أن يقول هذا؟ إنه الله عز وجل، فقد أمره أن يعلنها للعالم أجمع: قُلْ إِنَّ صَلاتِي [الأنعام:162]، ويدخل فيها الدعاء والركوع والسجود.
وقد ظننا أن هذه القضية قد انتهت، وإذا بكتاب يأتينا من حضرموت يقول فيه صاحبه: اذبح شاة سوداء أو بيضاء عند دخولك البيت، وذلك حتى تسلم من الجن والعفاريت، وهذه قد عاصرناها، إذ يأتي المريض أو أبو المريض أو المريضة للشيخ، وإذا بالشيخ يفتح الكتاب، وهو كذب، إذ ليس هناك كتاب، فيقول: ولدك مضروب على الدم، أو مضروب على كذا، وإذا أردت شفاءه فاذبح تيساً أسوداً، وأحياناً يمكرون بهم فيعطيه وصفاً لا يحصل عليه! ولما يموت المريض يقول: يا أحمق! نحن قلنا لك النوع والوصف كذا، فهل هذه أمتنا؟ قرون عديدة وهي هكذا! يذبحون للجن والعفاريت، واسمع هذه القصة: سكنا منزلاً في باب المجيدي، وبني منزل إلى جنبنا، ولما تم بناؤه جئت مع الغروب وإذا بكبش مذبوح وهو يوزع لحماً، فقلت: ما هذا؟ فقال صاحب المنزل: أمرني المعلم -وهو في جدة- أن نذبح على العتبة، وذلك حتى نحصن السكان من الجن! ولذلك فكل ما ذبح وإن قلت: باسم الله، ولكن نيتك ليبعد الجان أو يتخلوا عن مريضك أو يفعل كذا وكذا، فالجن يعلنون عن فرحهم ويقولون: قد عبدناهم؛ لأن من أكبر العبادات النسك، آالله أمرك بهذا؟ والجواب: لا، وإنما أطعت الشيطان والعياذ بالله، فزين لك عبادة غير الله فعبدته بذبحك للجان، فهل عرفتم الذبح لغير الله ما حكمه؟ وهل هناك من يذبح لغير الله تعالى؟ كل من ذبح لسيدي فلان أو من أجل الجان الفلاني فقد أشرك ورب الكعبة، وإن مات على ذلك ما نجا.
والجواب: الكتاب محفوظ بحفظ الله، والسنة محفوظة بحفظ الله، والذي أوقعنا في هذه الفتنة هو عدونا المكون من ثلاثة أجناس: المجوس واليهود والنصارى، فلا يريدون أن ندخل الجنة ويدخلوا النار، بل ما يريدون لنا ألا أن يوجد بيننا البغاء والزنا والعهر والخمر والباطل، وأنا أقول هذا على علم، وقد عملوا على تجهيلنا، إذ علة هذا الشرك والله لهي الجهل، فالقرآن حولوه ليقرأ على الموتى، إذ ما يتدارسونه هكذا أبداً، وفي هامش أو حاشية على شرح خليل يقول القائل: تفسير القرآن صوابه خطأ، أي: إذا فسرت وأصبت فأنت مخطئ، وخطؤه كفر! فعاشت أمتنا قرى ومدن مائتين أو ثلاثمائة سنة ما يفسرون آية من آيات الله! وبالتالي كيف يعلمون؟!
وكذلك السنة تقرأ للبركة، وقد رأيت هذا في ديارنا الجزائرية في الجامع الكبير، ورأيناه في الروضة الشريفة إلى غد، فسيدخل رمضان وتجدون جماعة من أهل الخير عاملين حلقة في الروضة يقرءون سيدي البخاري للبركة فقط! ولا يريدون أن يفهموا حكماً، فهل معنى ذلك أن الرسول يتكلم بالباطل؟ إن كل كلامه شرائع وقوانين وآداب وأخلاق، وقد بلغهم هذا البكاء أربعين سنة وما زالوا؛ لأن الأمة هبطت، فمن يرفعها؟
أما من عرف الله وامتلأ قلبه بحبه والخوف منه، مجرد أن يسمع فقط كلمة محرمة لا يقولها حتى الموت، أو يسمع فقط حركة يكرهها الله والله ما يتحركها، ولو كان قد عاش خمسين سنة يعملها، بل بمجرد أن يعرف أن الله لا يرضى بهذا ما يفعله، ومن لم يعرف الله فإنه يرقص وهم يرقصون.
فإن قيل: كيف نقضي على هذا الجهل؟ بإيجاد الخلافة الإسلامية؟! هذه خرافة، إذ والله لا تقضي على الجهل، إذاً كيف نقضي على الجهل؟ والجواب وقد كررنا هذا والله يعلم ويشهد: أن على أهل القرية المسلمة عربية أو عجمية، في الجبال أو في السهول، أن يجتمعوا بنسائهم وأطفالهم في بيت ربهم كل ليلة وطول الحياة، وذلك كاجتماعنا هذا من المغرب إلى العشاء، فيدرسون ليلة آية من كتاب الله، فيفهمونها ويعملون بها، وليلة أخرى حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يتعلمون ويعملون، فتتهذب آدابهم وأخلاقهم، وترتفع مستويات علومهم ومعارفهم، وتطهر قلوبهم من الشرك والزيغ والباطل.
وكذلك أهل المدن، فكل حي من المدينة يجتمعون أهله في بيت ربهم من المغرب إلى العشاء، فيدرسون ليلة آية وليلة حديثاً فقط، لا قال سيدي فلان ولا فلان، ولا أنا مذهبي مالكي ولا حنبلي، وإنما قال الله وقال رسوله، فلا فرقة ولا انقسام ولا أباضية ولا زيدية ولا سنية، وإنما مسلمون نتعلم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الطريق، وهذا الذي يزيل هذه المحن والإحن، وهذا الذي يجمع الكلمة، وهذا الذي يطهر القلوب، وهذا الذي يجعلنا أمة واحدة، وأهل القرية والله كأسرة واحدة، فيبكون إذا بكى أحدهم، ويضحكون إذا ضحك أحدهم، وبدون هذا النظام الإلهي الذي جاء به رسول الله هيهات هيهات أن نعلم ولو فتحنا في كل زاوية مدرسة! فقد خمت الدنيا بمدارس أبنائنا وبناتنا، حتى البلاد الفقيرة، فهل نفع هذا العلم؟ والله ما نفع؛ لأنه ما أريد به وجه الله، وإنما أريد به الوظيفة فقط، فيقول الأب لابنه: تعلم يا ولدي لتكون كذا! أما في بيت الرب لماذا يجتمعون؟! لم يتعلمون قال الله وقال رسوله؟ لله، ليعرفوا الله فيخافوا ويحبوه ويعبدوه، فيكملون ويسعدون.
مرة أخرى: بلغوا هذا الكلام، أين الكتاب؟ لم ما يكتبون هذا الكلام؟ لأن الأمة هابطة وما زالت هابطة، وجرب يا عبد الله! انزل في قرية من القرى، واجمع الناس بعد المغرب، فالفلاح يضع المسحاة على جهة، والتاجر يغلق بابه، وما بقي عمل قط، وتقول: هيا إلى الله نجلس بين يديه، فنبكي فقط حتى يفرج ما بنا، لكن ما يريدون، إذاً كيف يتعلمون؟ والله لن يزول الجهل ولا الظلم ولا الخبث ولا الشر ولا الفساد إلا بالعلم بالله ومحابه ومساخطه، فهل فهمتم هذا أو لا؟
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر