أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة النساء ومع هذه الآيات الأربع والتي قد درسناها في ليلتين سالفتين، وما زلنا نحتاج إلى فهمها؛ لأنها تحتوي على أحكام فقهية، فهيا نتلوها وتأملوا وتدبروا فيها، ثم إن شاء الله ندرسها كما هي في الكتاب ليتقرر كل معنى إن شاء الله في نفوسنا، ونصبح عالمين بهذه القضية الفقهية الهامة، وتلاوة الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:101-104].
إذاً: إذا قال القائل: الآية فقط فيها رفع الحرج، فأنا لا أقصر وإنما أتم صلاتي، فتقول له: قد استشكل هذا عمر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب البيان فقال: ( يا
مرة أخرى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فقال عمر: ذاك يوم كنا خائفين، أما اليوم فنحن آمنون، إذاً لا نقصر، ولكن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل عرفتم ما هي الصلاة التي تقصر؟ صلاة الظهر والعصر والعشاء ذات الأربع ركعات فقط.
هذه الآية تضمنت صفة واحدة من صفات صلاة الخوف، فإذا كنا خائفين من العدو ونحن في ساحة الحرب، فهل نصلي فرادى؟ هل نؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها؟ الجواب: لا، إذ الصلاة لا تؤخر أبداً، بل هي ميعاد بيننا وبين الله، ثم أيحضر الله ونغيب نحن؟! أما نستحي منه عز وجل؟! إنه ميعاد بيننا وبين سيدنا ومالك أمرنا، وهو الذي حدده وعينه، ونحن نقول: لا بأس، ما نحضر! أعوذ بالله.
إذاً: علمنا الله تعالى فقال: انقسموا إلى قسمين، فالإمام القائد الأعظم يصف وراءه نصف الكتيبة فيصلون معه، والآخرون بأسلحتهم يرقبون العدو حتى لا يتدفق علينا، ويصلي الإمام بنا ركعة ويبقى واقفاً ونحن نتم ركعة لأنفسنا ونسلم؛ لأنها قصر، ثم يأتي الآخرون ونحن نقف في مكانهم بأسلحتنا ضد العدو، فيصلون ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول يتم صلاة الركعتين فيجلس وهم يتمون ركعة، فإذا أتموها سلم بهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه صورة من عدد من الصور، وتختلف من كيفية إلى أخرى لاختلاف الظروف والأحوال.
قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، من هو الذي قال: لا تصلى صلاة الخوف إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو يوسف من علماء الأحناف، ورد عليه كل الناس، إذ ليس شرطاً أن يكون الرسول في كل معركة أبداً، بل ولا في كل زمان، فكل من يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيادة المؤمنين فهو مثل رسول الله في هذا الباب، وهو فقط أخذ واقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، فيصلي والرشاش على كتفه، والبندقية في يده.
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا [النساء:102]، أي: الآخرون مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، هذه بالذات، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102] أيها القائد، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] لم؟ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:102] بجدع أنوفكم، وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى [النساء:102]، وهذه رخصة من الله تعالى، فإذا كان المطر ينزل أو بالرجل مرض، فلا بأس أن يضع سلاح أمامه، قال تعالى: أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، ثم قال تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، أي: وخذوا حذركم من أعدائكم إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، أي: فإذا سلمت من الفريضة فاعلم أنك مطالب بذكر الله على اختلاف أنواعه، وإن كنت في الطائرة، وإن كنت سائراً، وإن كنت جالساً، فاذكر الله عز وجل وخاصة في الحرب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]؛ لأن قوانا مستمدة من ربنا عز وجل، لذا لا بد أن يكون ذكره في قلوبنا وعلى ألسنتنا، فهو الذي يقوي طاقاتنا ويزيد في قوتنا، فإذا انقطعنا عن الله هبطنا وتمزقنا، فلا تترك ذكر الله يا عبد الله ويا أمة الله إلا إذا كنت على كرسي المرحاض فقط، إذ إن الذي يدخل بيت الخلاء لا يذكر الله تعالى، إذ إن هذا معفو عنه، أما خارج هذا المكان فدائماً اذكر الله، سواء عند الأكل أو عند الشرب أو عند القعود أو عند القيام أو عند الركوب أو عند المنام أو عند الاستيقاظ، والناس يتفاوتون في هذا الميدان، لكن إرشاد الله عز وجل في قوله: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، وذاك في حال الحرب، فصلوا مع الرسول أو مع الإمام ركعة، ثم أتموا الركعة لأنفسكم، وهم مع ذكر الله على كل حال.
إذاً: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، على الوجه المطلوب، فأولاً في بيوت ربنا عز وجل، وثانياً في جماعة المسلمين، وثالثاً بأدائها بكل أركانها وشروطها وآدابها كما صلاها جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما صلاها رسول الله بالمؤمنين فقال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا معنى إقام الصلاة
إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: مؤقتة ذات وقت محدد، ومواعيد ضربها الملك جل جلاله لعباده، فحرام عليك يا عبد الله أن يحضر الله وتغيب، فالمصلي يناجي ربه والله ينصب وجهه لعبده، فكيف إذاً تهرب وتبعد وتترك الوقت يخرج ثم تأتي وتصلي؟!
وقد ورد في الأثر: ( من ترك صلاة واحدة فهو بها كافر )، وورد أيضاً: ( لأن يفقد المرء أهله وماله وولده خير من أن تفوته صلاة العصر في وقتها ).
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا [النساء:104]، أي: بالأحوال والظواهر والبواطن وبما يقنن ويشرع، وحكيماً [النساء:104]، أي: في كل ما يقنن ويشرع.
إذاً: فما علينا إلا أن نقبل تشريعه ونذعن له ونطبقه كما أمر.
وسيد المهاجرين وأفضلهم هو من هجر ما نهى الله عنه ورسوله، وهذا يحتاج إلى أن يكون الإنسان عالماً عارفاً بما ما نهى الله عنه ورسوله، لا أن يكون أمياً عامياً جاهلاً لا يعرف شيئاً.
قال: [ بمناسبة الهجرة ] في الآيات السابقة [ والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية ] أي: الصلاة ذات الأربع ركعات [ إلى ركعتين، فقال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، أي: سرتم فيها مسافرين، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: حرج وإثم في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن ولم يخف، فهذا القيد غالبي فقط ] إذ الغالب أن المسافر يخاف.
قال: [ وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن ] أي: من الخوف [ فهذا القيد غالبي فقط، وقال تعالى: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101] ] وهذه الجملة قال: [ تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين، فلذا شرع لهم هذه الرخصة ] إلى يوم القيامة.
قال: [ هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآيتان بعدها فقد بينت صلاة الخوف وصورتها، وصورتها ] هي: [ أن ينقسم الجيش قسمين: قسم يقف تجاه العدو، وقسم يصلي مع القائد ركعة ] أي: قائد المعركة، سواء كان رسول الله أو غيره [ ويقف الإمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون ويقفون تجاه العدو، ويأتي القسم الذي كان واقفاً تجاه العدو فيصلي بهم الإمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة، هذا معنى قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، يريد الطائفة الواقفة تجاه العدو لتحميهم منه، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].
وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، سبق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى، والأمر بالأخذ بالحذر، وحمل الأسلحة في الصلاة، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم جراحات، أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلاح أن يضعوا أسلحتهم، فقال عز وجل: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102].
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102] ] هذا [ تذييل ] الكلام [ لكلام محذوف دل عليه السياق قد يكون تقديره: فإن كان الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم، ولذا أعد الله لهم عذاباً مهيناً، وإنما وضع الظاهر مكان الضمير إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر.
وقوله تعالى في الآية الأخيرة: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان، أي: الأوقات، لاسيما في وقت لقاء العدو؛ لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوة المادية وتهزمها، فلا يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط، بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله في كل حال.
وقوله تعالى: فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة لا تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف، إذ قد تصلي ركعة واحدة وقد تصلي إيماء فقط وإشارة في حال الخوف، وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم ] وقد بينا هذا فقلنا: يصلي وهو راكب.
قال: [ وقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، تعليل للأمر بإقامة الصلاة، فأخبر أن الصلاة مفروضة على المؤمنين، وأنها موقوتة بأوقات لا تؤدى إلا فيها.
وقوله تعالى في الآية الأخيرة: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: لا تضعفوا في طلب العدو لإنزال الهزيمة به، ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحاتكم، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:104] النصر والمثوبة العظيمة، مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فأنتم إذاً أحق بالصبر والجلد، والمطالبة بقتالهم حتى النصر عليهم بإذن الله.
وقوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد؛ لأن علمهم بأن الله عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهم، وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العاقبة لهم بالنصر على أعدائهم ] وقد فعل، فقد انتصر رسول الله وأصحابه، ففي خلال خمسة وعشرين سنة فقط أو ربع قرن إلا والإسلام من أقصى الشرق إلى أقص الغرب.
نقول: من أراد أن ينشئ مصنعاً فقط فحتى يستقيم ويصبح ينتج يحتاج إلى خمس وعشرين سنة، وما مرت خمس وعشرون سنة إلا والإسلام قد انتشر من وراء نهر الهند إلى الأندلس، ولولا نصر الله فكيف يتم هذا؟!
قال: [ ثانياً: مشروعية صلاة الخوف ] أي: الصلاة في وقت الخوف، قال: [ وبيان كيفيتها ] كيف نصلي؟ في حدود الطاقة، فإذا كنا ما التحمنا مع العدو بعد، وإنما ننتظره أو ينتظرنا، فنقسم الجيش إلى قسمين، وإذا التحمنا صل وأنت تقاتل بلسانك وقلبك وبالإشارة، وإن كنت هارباً أيضاً إلى القبلة أو إلى غير القبلة فصل على حالك.
فإن قيل: يا شيخ! إنهم آمنون غافلون في الطعام والشراب واللباس ولا يصلون؟ ما لهم؟! عمي لا بصيرة ولا نور في قلوبهم، لم خلقت؟ خلقت لتجامع النساء وتأكل الطعام؟ تعالى الله أن يخلق لهذا العبث، وإنما خلقك لتذكره بقلبك ولسانك وتشكره بجوارحك، أما الطعام والشراب والنكاح فقط لتواصل ذكر الله عز وجل ولا تقطعه.
قال: [ ثالثاً: تأكيد صلاة الجماعة ] ما معنى صلاة الجماعة؟ كل صلاة من الصلوات الخمس يجب أن تقام في بيوت الله في القرية أو في المدينة أو في الطريق أو في أي مكان، ولذلك فقد كانوا يأتون بالصحابي والله يهادى بين اثنين حتى يضعوه في الصف، إذ إن أكبر مظهر من مظاهر العبادة لله عز وجل أن ترى المؤمنين في بيت الله صفوفاً كالملائكة بالسماء، فإذا تركت صلاة الجماعة فقد انتهى الإسلام.
قال: [ ثالثاً: تأكيد صلاة الجماعة؛ بحيث لا تترك حتى في ساحة الخوف وساعة القتال.
رابعاً: استحباب ذكر الله تعالى بعد الصلاة
وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع ] فهل أخذتم بهذا أو لا؟ حالنا دائماً أن نذكر الله تعالى إلا في حال واحدة وهي عند التغوط ويبول فقط، قال أبو هريرة: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة.
قال: [ خامساً: تقرير فريضة الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها المؤقتة لها ] فقد قال الله تعالى: كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، فما المعنى الكتاب؟ أي: مكتوبة رسمياً بصك وليس مجرد كلام.
قال: [ سادساً: حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو والاستعانة على قتاله بذكر الله تعالى ورجائه ].
ومضى القرن الأول والثاني والثالث ولا وجود لها، والآن نحييها! كيف نحييها؟ ماذا نصنع؟ هل نغني فيها؟ هل ننشد القصائد؟ هل نقرأ القرآن؟ ماذا نستفيد؟ اعلموا والعلم ينفع، وأهل الحلقة من نساء ورجال على علم، والأسف مع الذين لا يحضرون، أن هذه العبادات التي شرعها الله قد وقتها وقننها بدقة أكبر من مركبات الكيمياويات من أجل تزكية النفس، أي: تطهير الروح البشرية لتصبح كأرواح الملائكة، إذ لا تستطيع أن تطهر نفسك وتزكيها وتطيبها بالماء والصابون والعطورات؛ لأنك لا تمسكها ولا تعرفها، فالذي يزكيها ويطيبها ويطهرها لتتأهل للملكوت الأعلى بعد الموت هو الله عز وجل، إذ إن هذه العبادات التي شرعها الله جل جلاله وبين كيفياتها وكيفية أدائها، وبين أوقاتها رسوله صلى الله عليه وسلم، علتها أنها تزكية النفس وتطهيرها ليتأهل الآدمي إلى أن يخترق السبع الطباق وينزل عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15].
كما أن هذه العبادات ليست من حق أي أحد سوى الله ورسوله، فله سبحانه أن يشرع كلمة فقط ويقول: من قال كذا يحصل له كذا، أو حركة فقط فيقول: من مشى بين كذا وكذا حصل له كذا، وأيما إنسان يبتدع بدعة ويدعو إليها ويعمل بها فهو كالذي يأكل الرمل والحصى والتراب، فهل يشبع؟ لا والله، ومثله كالذي يتمضمض بالخرء والبول والدماء، فهل ينظف ويطيب؟! مستحيل.
إذاً: فهذه العبادات التي شرعها الله في كتابه وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته هي التي تزكي النفس بشرط: أن تؤديها كما بينها في أوقاتها وأمكنتها، مثال ذلك: لو أراد المسلمون أن يقفوا بأحد بدل أن يقفوا بعرفة، فهل يصح حجهم؟ مستحيل، أو أرادوا أن يطوفوا بالحجرات النبوية بدل أن يطوفوا بالكعبة، هل يصح هذا الطواف؟ يزكي النفس؟ مستحيل.
وعليه فلابد من عبادة شرعها الله تعالى وبينها رسوله وعمل بها أصحابه وأولادهم وأحفادهم وحملها أئمة الإسلام إلينا، أما بدعة ابتدعناها من عند أنفسنا فلا، ولنرفض العمل بها، فهيا بنا، ماذا نعمل في الليلة الرجبية؟ ماذا نصنع؟ فقط نقول: الحمد لله ما عندنا في هذه الليلة شيء، ونحن نعبد الله كما كنا نعبده بالأمس، فقيام الليل هو القيام والصيام هو الصيام.
وإنما في القرن الرابع بعد سنة ثلاثمائة وخمسة وعشرين ابتدعت بدعة المولد وجاءت من طريق النصارى، والنصارى اليوم يحتفلون بأعياد كثيرة، ونحن للأسف نقلدهم ونعطي إجازات لطلابنا أيضاً، وأظن أن هذا واقع في العالم الإسلامي باستثناء هذه البقعة، فهناك عيد الميلاد! بينما نحن ما عندنا إلا عيدان، عيد الفطر وعيد الأضحى، ومن زاد عيداً فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجهله ونسب إليه الكتمان والجحود وترك أمته بلا أعياد.
فمن يقف هذا الموقف والعياذ بالله؟! عيدان فقط، عيد الفطر وذلك بعد صيام شهر بكامله، وهو ذاك اليوم الذي تقام فيه الصلاة والخطبة، وتوزع الصدقات، ويحصل التلاقي والمحبة والإعلان عن الفوز والنجاة، وعيد الحج، وذلك يوم الحج الأكبر، يوم عاشر ذي الحجة، إذ الوقفة في يوم تسعة ويوم عشرة عيد، فيفرح المسلمون بنعمة الله عليهم، ويصلون صلاة خاصة محددة الركعات والتكبيرات والمكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حددها وصلاها.
كما أنه ليس هناك شعبانية، أي شعبان هذا؟! رجل اسمه شعبان! والآية التي يحتج بها الضائعون: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:1-3].
فقالوا: هذه ليلة النصف من شعبان، والله ما هي ليلة النصف من شعبان، وإنما هذه الليلة المباركة هي ليلة القدر في رمضان، فكيف يصرفون أمة الإسلام عن الحق؟! لأنهم يستغلون هذه المواقف، والحمد لله فقد أفقنا وعرفنا الطريق ولن نضل بعد اليوم أبداً.
إذاً: هذه البدع وهذه الخرافات كلها من باب صرف الأمة عما يزكي نفوسها ويطهر أرواحها ويعدها للكمال في الدار الآخرة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر