أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في هذه الليلة ليلة الأحد من يوم السبت ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، اللهم حقق رجاءنا، وأعطنا سؤلنا، وارفع درجاتنا، واجعلنا من عبادك الصالحين.
ومعنا هذه الآيات الأربع وقد درسنا الآية الأولى منها، وبقي معنا الآيات الثلاث وهي تتحدث عن مسألة فقهية، فاللهم فقهنا في الدين، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ).
فهيا نتلو الآيات ونستمع ونصغي ونتدبر ونتفكر حتى نفهم مراد الله تعالى منها، إذ إننا مأمورون بتدبر القرآن الكريم، فقال مولانا: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وهذا في الحقيقة ذم للمنافقين؛ لأنهم لم يتدبروا القرآن الكريم، أما المؤمنون فإنهم يتدبرون الآيات حتى يفهموا ما يريد الله تعالى منهم فيقدموا مطلوب الله، فأولئك هم المؤمنون الأحياء، فهيا نتلو الآيات الكريمات حتى نفهم مراد الله تعالى منها، فقال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا * وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:101-104].
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، أي: ضربتم بأرجلكم مسافرين، إذ الماشي على الأرض يضربها برجليه.
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: تضييق وحرج.
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، فتصلوا الرباعية كالظهر والعصر والعشاء اثنتين، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم لـعمر عندما قال: قد زال الخوف يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ).
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وهذه الآية قد درسناها.
وخلاصة ما علمناه من الآية: أن قصر الرباعية في السفر سنة مؤكدة، ولا نقول كما يقول بعض الغلاة: إنها فريضة، ولو أتم أحد فصلاته باطلة، وهذا اتركوه جانباً، ولا نقول: هذه رخصة إن شئت عملت بها وإن شئت تركتها، فأيضاً نترك هذا جانباً؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمتنا ما تركوا القصر قط في المسافات التي يقصر فيها، فالصلاة ذات الأربع الركعات كالظهر والعصر والعشاء تقصر إلى اثنتين اثنتين، وتقرأ في الأولى بالفاتحة وسورة، وفي الثانية كذلك، والمغرب لا تقصر لأنها وتر، والصبح لا تقصر لأنها ركعتان.
وأما المسافة التي نقصر فيها فكذلك نترك الغلو أو التطرف كما يقولون، فلا نقول: كل من خرج من بلده كيلو متراً فإنه يقصر، بل لا بد وأن تكون المسافة مسافة يوم وليلة على بعيرك، وأقلها ثمانية وأربعين كيلو متراً، فإذا خرجت من بلدك وكانت المسافة ثمانية وأربعين كيلو أو خمسين كيلو، ثم أذن المؤذن فدخل الوقت فلك أن تقصر حتى ترجع إلى بلدك، فإذا دخلت بلدك فقد انتهى القصر، وإن أقمت في البلد الذي سافرت إليه أكثر من أربعة أيام أو أسبوعاً أو شهراً فيجب أن تتم صلاتك؛ لأنه قد انتهى السفر، لكن إن أقمت فيها يوماً أو يومين أو ثلاثة إلى الأربعة فاقصر، وإن كنت لا تدري متى تخرج منها غداً أو بعد غد، أو حتى يجيء فلان، ما استقريت أبداً على مدة المكث، أو استقريت على البقاء في هذا البلد أكثر من أربعة أيام، فواصل القصر حتى تعود، وهذا الذي عليه أئمة الإسلام: مالك والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وتلامذتهم.
وأما الجمع في السفر فللمسافر إذا احتاج إلى الجمع بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء، أن يجمع، وهذا جائز، وليس بسنة يثاب عليها ويأثم على تركها، وإنما يجوز فقط، وينظر المسافر في ذلك إلى مصلحته، فله أن يصلي الظهر والعصر في وقت الظهر أولاً، أو يؤخرها ويصليها في وقت العصر، أو يصلي المغرب والعشاء في وقت المغرب، أو يؤخر المغرب ويصليها مع العشاء.
وقد نجمع ليلة المطر، وذلك أيام كان لا أضواء ولا سفلتة للطرقات، وليس عندنا ثياب ولا مدفئات كاليوم، فيؤذن للمغرب فيصلي أهل القرية المغرب والعشاء ثم يعودون ما دام الضوء موجوداً في الشوارع، وهذه رحمة الله بنا، ورخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته.
وكذلك المريض الذي يصعب عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها، فله أن يجمع وهو على فراشه، فيصلي الظهر مع العصر جمع تقديم أو تأخير، ويصلي المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير؛ لمرضه وعلته وعدم قدرته على القيام والصلاة.
الآية مرة أخرى، قال تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ [النساء:101] وما زالوا، عَدُوًّا مُبِينًا [النساء:101]، وهنا قال عمر: ( قد انتهى الخوف يا رسول الله؟ فقال: اسكت يا عمر
صلاة الخوف يعني إذا كنت خائفاً كيف تصلي؟ قالت العلماء: إذا كان السيل آت من الغرب إلى الشرق، وإذا دخلت تصلي جاءك السيل فأغرقك وأهلكك، استقبل السيل واترك القبلة، وكذلك عدو ينتظرك ويتربص بك وأنت تعلم أنه يجيء من هذا الطريق، فإذا أردت أن تصلي فاستقبل جهة العدو، وكل هذا حفظاً لأولياء الله عز وجل من أن ينالهم مكروه أو سوء.
فهيا بنا إلى صلاة الخوف في حال الحرب، قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، أي: يا رسولنا! والمخاطبون هم أصحابه صلى الله عليه وسلم، وقد شذ أبو يوسف من أئمة المذهب الحنفي فقال: إن صلاة الخوف قد انتهت؛ لأنها لا تكون إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الله قد قال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، وما دام أن الرسول ليس بيننا إذاً ليس هناك صلاة خوف، فرد عليه أهل العلم أجمعون، وقالوا: فقط أن يكون معنا إمامنا وحامل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا صلى بنا صلينا وراءه في حال الخوف وفي حال السلم.
إذاً: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء:102]، أي: دعوتهم إليها وأقمتها، فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102]، أي: يصفون فيصلون وراءك.
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، أي: ما يضعون الرشاش والمدفع أو السيف أو الرمح، بل يحملونها استعداداً لما قد يحدث.
إذاً: وَلْيَأْخُذُوا [النساء:102]، وهذا أمر، يأخذون ماذا؟ أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، وما قال: سيوفهم؛ لعلمه أن يوماً سيأتي ما ينفع فيه السيف.
فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: فإذا سجدت يا رسولنا ومن معك فليكن أولئك الحاملون للسلاح من ورائكم يحمونكم.
مرة أخرى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، ولا يضعونها، بل يصلون وأسلحتهم على أعناقهم وأكتافهم، فَإِذَا سَجَدُوا [النساء:102] أي: الذين معك، فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: أولئك الذين هم كالحرس يحمونكم.
وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].
ولصلاة الخوف أكثر من إحدى عشرة صورة، وكل ذلك بحسب شدة الخوف ووضع المعركة، وهذه الصورة التي في هذه الآية تقتضي أن يكون العدو غير حاضر، وإنما نتوقع هجومه علينا فقط، وفي هذه الحال يقول إمامنا بعد أن يقيم الصلاة فينا: فلتأت طائفة ولتصل ورائي، فيصفون ويصلون وراء الإمام، والطائفة الأخرى تقف في وجه العدو، والكل سلاحه في يده أو على كتفه، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة ويبقى واقفاً وهم يتمون لأنفسهم، ثم يذهبون إلى المعسكر، فيقفون موقف أولئك، ثم يأتي أولئك فيصلي بهم الإمام ركعة ويبقى جالساً ويقومون هم فيصلون الركعة الثانية ويسلم بهم الإمام جميعاً.
وخلاصة القول: أن هذا بحسب وضع المعركة، فأحياناً يتطلب منا أن نصلي ونحن على صهوات الخيول، والرجل يجري وهو يصلي، والمهم أن صلاة الجماعة هي منبع الفضائل الإسلامية، ومصدر المودة والإخاء والتعاون، وقوام هذه الملة، فلا تترك حتى في حال الحرب، بل حتى في شدة الخوف، والله ليصلين أحدهم وهو يطارد العدو، وذلك خوفاً من أن يفوته، وأما الهارب فلا تسأل.
إذاً: للمسلم في الحرب أن يصلي بالإيماء، أو يصلي على ظهر الخيل بالإيماء والإشارة، وليس شرطاً أن يأتي بالركوع والسجود، وإنما بحسب وضع المعركة، فإن تطلب منا الوضع أن نصلي ونحن نهاجم العدو نصلي بالإيماء والإشارة، إن لم يتطلب منا الوضع لأننا ما أطلقنا الرصاص بعد، والعدو ينتظر متى نغفل حتى ينصب علينا، فنقسم أنفسنا إلى قسمين، فقسم يقفون في وجه العدو، وقسم يصلي ركعة مع الإمام، ثم يتمون لأنفسهم والإمام واقف ينتظر، ثم تذهب حتى تقف في وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلون وراء إمامنا الركعة الثانية، ركعتين، ويبقى الإمام جالساً فيصلون الركعة الثانية ويسلم بهم، ولا نقول: كيف هذا؟ هذا تشريع الله وقد أذن الله فيه ولا حرج.
واسمعوا إلى الآيات مرة أخرى، يقول تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، وقد أبطلنا قول من قال: ليس هناك صلاة خوف إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم! وتسعة وتسعون في المائة قالوا: صلاة الخوف تصح وراء إمامنا في المعركة، ولا نحتاج إلى رسول الله في كل مكان، والمهم أن هذا القول لا التفات إليه، وأما قوله تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ [النساء:102]، فلأنه يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل وهو يشرع ويبين، والإنسان الذي قال بهذا القول مهما كان قد تزل قدمه، إذ قد يخطئ البشر، لكن ما نأخذ بأخطاء شخص ونترك صواب مائة، فدائماً كن مع جماعة المسلمين، أما أن يشذ شاذ فنجري وراءه فإننا سنهلك، ثم ما الداعي إلى ذلك؟ وهل هو أفضل أم أمة كاملة أفضل؟ ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بالجماعة ).
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ [النساء:102]، أي: الآخرون الذين يحمونكم، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، هي نفسها، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102].
ثم قال تعالى: وَدَّ [النساء:102]، من؟ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:102]، ومعنى: (ود): أي: أحب، وهي تعني أكثر من كلمة الحب.
وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ [النساء:102]، يخبر الله تعالى عما في قلوبهم، إذ هو خالق القلوب وعالم بحركاتها.
وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فإذا مالوا عليهم وهم يصلون أكلوهم.
وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وتصلوا؛ لأنه إذا كان هناك مطر وشخص مريض ما يقوى على حمل سلاحه فله أن يضع سيفه بين يديه ولا حرج، وهذه رخصة ثانية.
يقول تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:102]، أي: لا إثم ولا حرج، إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وهذه رخصة، وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، أي: يجب أن تأخذوا حذركم من عدوكم.
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]، أي: إن الله قد هيأ للكافرين عذاباً مهيناً يهينهم ويكسر أنوفهم ويذلهم بأيديكم أيها المؤمنون.
قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103].
إذاً: خلقنا للذكر فقط، فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، سواء كنا في الصلاة أو في الجهاد، فإذا اطمأننا، فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذا اللفظ يدخل فيه كل مؤمن ومؤمنة، فإذا فرغ من الصلاة فيذكر الله عز وجل وإن كان يمشي، وإن كان يقود سيارته، بل يقود طيارته وهو يذكر الله، إذ إن ذكر الله غذاء روحي يزيد في طاقة إيمانك، ويزيد في طاقة صبرك، ويزيد في طاقة كمالك، ويدخل فيه الدعاء وأنواع الذكر؟
فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذا اللفظ أيضاً يدل على أنه إذا اشتدت المعركة نصلي على أي حال، فلك أن تصلي وأنت جالس والرشاش في يدك؛ لأنك إن قمت ضربك الآخر برصاصة، بل ممكن أن تنام على جنبك حتى تتقي الرصاصة، وثم أنت تذكر الله وتصلي.
فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، وزال الخوف والإعياء والمرض، فإذا اطمأننتم ماذا تصنعون؟ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: أقيموها كما تقام في حال الأمن والصحة والعافية، وأتموها على الوجه الذي نزل به جبريل وعلم رسول الله كيف يصلي، فيقوم ويقرأ ويطمئن في الركوع وفي السجود وفي الجلوس.
فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ [النساء:103]، يعني: زال الخوف وسكنتم فأقيموا الصلاة، وإن قلت: لم يا الله؟ والجواب: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: كتاب مؤقت، صلاة مؤقتة، فلا تستطيع أن تصلي أي صلاة في غير وقتها، إذ إن الصلاة مؤقتة بأوقاتها المحددة من قبل ذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه، فلا تصح صلاة قبل وقتها أبداً إلا ما أذن فيه عز وجل، وذلك كالجمع بين الصلاتين للمسافر والمريض كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، وقد نزل جبريل فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح عند الكعبة في أول وقتها، ثم جاء الظهر فصلى بالرسول عند الكعبة في أول وقتها، وجاء كذلك في العصر وفي المغرب وفي العشاء، ثم جاء اليوم الثاني فصلى به جميع الصلوات في آخر الوقت، ثم قال له: ما بين هذين وقت، أي: ما بين صلاتنا أمس وصلاتنا اليوم وقت، فمثلاً: يؤذن للظهر على الساعة الثانية عشرة وربع، وهو في اليوم الثاني جاءه في الثالثة فصلى به، والعصر في الثالثة والربع، فهذه الربع الساعة ما بين هذين وقت، وهكذا صلى العصر عند الساعة الثالثة والربع، وفي اليوم الثاني الخامسة والربع صلى العصر، وقال: ما بين هذين وقتين، إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
ثم قال تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: يا أولياء الله! يا جيش الرحمن! لا تهنوا ولا تضعفوا، والوهن هو الضعف والانهزام والخور.
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: في طلب العدو وأنتم تجاهدون.
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، لجراحات أو تعب أو مرض أصابكم.
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ [النساء:104]، أي: هم، فإذا تألمنا نحن للتعب وللجوع وللمرض وللحرب الدائرة من ساعات طويلة، فالعدو هو أولى بهذا الألم.
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، وشيء آخر: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، فرق ما بينكم وبينهم، فأنتم ترجون المغفرة والعزة والنصر وهم آيسون من هذا لا يرجونه؛ لأنهم كفار لا يؤمنون بالله ولا بلقائه.
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104]، فاقبلوا إرشاداته وتوجيهاته بل وأوامره؛ لأنه عليم بما يقنن ويشرِّع، حكيم لا يضع الشيء إلا في موضعه، فلو جاء من يقول: لا داعي لصلاة الخوف! والله ما نقبل كلامه؛ لأن المشرع ما كان جاهلاً فأخطأ، ولا كان أحمقاً ما يدري الأول من الآخر فوضع أشياء وهي خطأ، إنه عليم بخفايا الأمور وظواهرها، عليم بما بين أيدينا وما خلفنا، عليم بما في صدورنا، حكيم في كل شرعه وعمله، فلا يضع الشيء إلا في موضعه، والحكمة ما عرفناها إلا منه، إذ هو واهبها ومعطيها.
ثم قال تعالى: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] أي: للصلاة، وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا [النساء:102]، أي: الآخرون من ورائكم يحمونكم، وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى [النساء:102]، أي: بعد صلاة الركعتين، لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ [النساء:102]، أيها القائد صلى الله عليه وسلم، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102] فهذه هي صلاة الخوف.
وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102]، فماذا يتركون لهم لو مالوا عليهم ميلة واحدة؟ يأكلونهم، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ [النساء:102]، وقد تقدم أنه يصلي والسلاح، لكن إذا كانت حالة مطر شديد أو كان الرجل مريضاً ما يقوى على حمل السلاح والصلاة به، فقد أذن له الشرع بأن يضع سلاحه بين يديه، وهذه رخصة من الله تعالى، ولكن وَخُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:102]، لم؟ قال: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]، ومعنى هذا: أنكم منتصرون أعزاء، وأما عدوكم فقد هيأ الله له الذل والهون والدون؛ لأنهم كفروا به، إذ إنه يطعمهم ويسقيهم وهم يجهلونه ولا يسألون عنه، ولا يحمدونه ولا يشكرونه.
ثم قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103]، أي: فرغتم منها، ماذا نصنع؟ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، وهذه عامة إلى يوم القيامة، إذ لا يوجد مؤمن منا يقول عند الانتهاء من صلاته: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم يخرج ولا يذكر الله أبداً! أعوذ بالله، ولذلك إن كان هناك وقت متسع فيجلس على الأقل فيقول: استغفر الله ثلاث مرات، ثم يقول: ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام )، ثم يقول: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، ثلاث مرات، ثم يقول: سبحان الله ثلاث وثلاثين، والحمد لله ثلاث وثلاثين، والله أكبر ثلاث وثلاثين، ثم يختم المائة فيقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له، الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثم يقرأ آية الكرسي، والمواظبة عليها ضمان له بالجنة بإذن الله، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو الله ويسأله حاجاته، وإن كان مضطراً أن يخرج فليس هناك ما يمنعه أن يسبح الله وهو يمشي أو وهو على دابته، فهل فهم الصالحون هذا أو لا؟
فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، حتى الصلاة أيضاً تتضمن هذه الآية، فإذا لم يستطع أن يصلي وهو قائم فيصلي وهو قاعد، أو ما استطاع أن يصلي وهو قاعد فيصلي على جنب، أو ما استطاع أن يصلي على جنبه فيصلي وهو مستلقٍ ويومئ برأسه أو بعينيه.
وقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ [النساء:103]، وما زالت عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النساء:103]، أي: المؤمنين الصادقين، كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: محدد الوقت، فالكتب تأكيد والوقت معين.
ثم قال عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: لا تضعفوا في طلب العدو أيها المجاهدون، ونخشى أن يسمع التائهون والضائعون فيقولون: الشيخ يقول: المجاهدون، نعم، المجاهدون الذين قادهم إمام بايعته الأمة فقادهم إلى دار الكفر ليدعو أهلها إلى الدخول في الإسلام، أو ليفتحوا المجال لتعليم تلك الأمة وإنقاذها من الكفر والخبث والشر والفساد، فإن أبوا إلا القتال فالقتال، وذلكم هو الجهاد، أما عصابات تتعنتر وتخرج عن الإمام وتلتحق بالجبال وتختبئ ويقولون: هذا جهاد! فبئس الجهاد، ووالله ما هو بالجهاد، إنما هي الفتنة العمياء والضلال المبين، وممكن واحد من الجالسين يقوم يتعنتر ويبين لنا، دلونا ماذا أنتجت تلك الطفرات؟ هل أوجدت دولة إسلامية؟! من إندونيسيا إلى بريطانيا ثلاثة وأربعين دولة ما استطاعت دولة واحدة أن تقيم الصلاة فقط أبداً، أو أن تجبوا الزكاة، أو أن تشكل فيها لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ذلك لأن الأمة هابطة جاهلة لاصقة بالأرض.
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي قوم؟ الكفرة المشركون الذين يحاربونكم.
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، فهم أيضاً يألمون، إذ إنهم بشر مثلكم، وبالتالي ما داموا يألمون وأنتم تألمون فأنتم أولى بالثبات والوقوف في وجوههم.
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، وهذا هو الفضل العظيم، فنحن نرجو إذا متنا أن نموت شهداء نبيت في دار السلام، وهم يبيتون في جهنم، وإذا انتصرنا نشرنا العدل والخير والطهر والصفا، وهم إذا انتصروا نشروا الخلاعة والدعارة والكفر والشر والفساد.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر