أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم لك الحمد على ما أوليت وأعطيت، اللهم لك الحمد على ما أحسنت وأفضلت، فإنا لك شاكرون.
قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، والقائل هو ملك الموت وأعوانه، أي: قالوا لهم: فيم كنتم؟ في مزابل؟ في مراحيض؟ في أي مكان كنتم حتى أصبحتم هكذا؟ فقالوا معتذرين: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: قهرونا وغلبونا ومنعونا من أن نذكر الله تعالى، وأن نقف بين يدي الله عز وجل، وأن ننكر الشرك والمشركين، فهذه هي علتهم، فردت عليهم الملائكة فقالت: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، فما استطاعوا أن يجادلوا؛ لأن الحجة قد قامت عليهم.
فقال تعالى في الحكم عليهم: فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، فلماذا كان مستقرهم ومأواهم جهنم؟ لأن أرواحهم خبيثة منتنة عفنة ليست أهلاً لأن تنازل الأبرار وتجالسهم في الملكوت الأعلى، فهل في هذا ظلم؟ لا والله، إذ الآن لو يدخل عليكم رجل ملطخ بالدماء والقيوح والقاذورات والأبوال، فهل تسمحون له أن يجلس بينكم؟ والله ما تسمحون له، إذاً فكيف يُسمح لشخص ملطخ متعفن بأوضار الذنوب والآثام أن يدخل الجنة دار السلام؟!
إذاً: أولاً: الهجرة واجبة من مكة إلى المدينة وجوباً عينياً لا كفائياً، ثم لما فتح الله مكة على رسول الله والمؤمنين سقطت تلك الهجرة عنهم، فأهل مكة يبقون في مكة، ثم أيما مؤمن وجد نفسه في دار أو في بلد لا يجد فيه من يعرف الله تعالى، ولا الطريق إليه، وجب عليه أن يهاجر إلى بلد آخر ليعرف الله، ويعرف كيف يعبده ويتقرب إليه.
ثانياً: إذا وجد المؤمن نفسه في بلد لا يستطيع أن يقيم فيها صلاة، ولا أن يتجنب ما حرم الله، لا من أكل ولا من شرب ولا من ملبوس، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى مكان آخر ليتمكن من عبادة الله تعالى، إذ الهجرة هي الانتقال من مكان إلى مكان لأجل أن نعبد الله تلك العبادة التي هي علة وجودنا وعلة وجود الكون كله، وهي السلم للوصول إلى الملكوت الأعلى، فإذا تعطلت من أجل فقر أو خوف هاجر يا عبد الله إلى بلد آخر.
وكان أول من هاجر في سبيل الله هو الخليل إبراهيم عليه السلام، فاقتدوا بأبيكم، واقرءوا قوله تعالى: وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26]، وذلك بعد أن حُكِم عليه بالإعدام، فأججوا النار وأوقدوها أربعين يوماً أو أكثر، وأرادوا أن يلقوه فيها حتى لا تتعلق به قلوب الناس أو يفتنهم عن دينهم الجاهلي الكافر، ولما أرادوا أن يلقوه في النار ما استطاعوا لشدة لهبها وحرها، فوضعوه في منجنيق ودفعوه من بعيد، وقبل أن يصل إلى النار عرض له جبريل فقال له: هل لك حاجة يا إبراهيم؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، والمتصوفة والهابطون في الضلال يقولون: قال إبراهيم: حالي يغني عن سؤالي، ومعنى هذا: إياكم أن تدعو الله عز وجل، إذ إن هذا عيب عليكم، كيف تدعوه وهو يعرف حالك؟! ومعنى هذا أيضاً أنهم هدموا أعظم حصن في الإسلام وهو العبادة، إذ إن الدعاء هو العبادة ومخها، فاستطاعوا أن يحرموا المؤمنين والمؤمنات من دعاء الله حتى يبقوا هابطين، وهذا من تخطيط الثالوث الأسود، والمقلدون يقلدون ويقولون: هذا من وضع الماكرين، فقالوا: ليس هناك حاجة إلى أن تقول: رب أعطني، ارزقني، اعملي لي كذا، هل هو ما يعرف؟ معناها: أنك تقول: رب لا يدري وأنا أبين له! وهذه مقتلة ومذبحة للعقيدة، فالدعاء هو العبادة، قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي [الجن:20]، فمن ترك دعاء الله كفر، فهل عرفتم من أين أخذوا هذا؟ إبراهيم قال: أما إليك فلا، أي: أنا أدعو ربي فقط، فقال الله عز وجل: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فانقلبت برداً لولا قوله: وسلاماً، إذ إن البرد يقتل كالنار تقتل، وما أتت النار إلا على قيد في يديه ورجليه، فأحرقته فقط وخرج وقال: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26]، فودعهم وتركهم، وهاجر معه ابن أخيه لوطاً وامرأته سارة، فخرجوا تائهين في الأرض، ليس عندهم ما يركبون ولا ما يأكلون، فاتجهوا غرباً تجاه فلسطين.
واعلموا أنه لا بد من أن تكون القلوب مقبلة على ربها، فصححوا معتقداتكم، وحققوا معنى لا إله إلا الله، فصاحب هذه المنزلة العالية قلبه لا يتقلب إلا في طلب رضا الله، أما مع دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذور لهم والعكوف على قبورهم والتمسح بأتربة أضرحتهم، فهذا يتنافى منافاة كاملة مع الإيمان بالله ورسوله، إذ لا يصح أبداً أن يكون صاحبها مؤمناً، وقد خدعونا وغرونا وفعلوا بنا العجب، والحمد لله قد صحونا وانتبهنا وعرفنا ألا إله إلا الله معناها: لا ينبغي أن يوجد في الأكوان من نقبل عليه بقلوبنا ووجوهنا إلا الله تعالى، فلو تعطش ألف سنة لا تقل: يا سيدي عبد القادر اروني، ولو تجوع حتى يكاد الجوع أن يقتلك فلا تقل: يا أولياء الله! أنا خادمكم، ولو تصاب بمصائب فلا تفزع فيها إلى غير الله أبداً؛ لأن هذه الفضائل والمقامات السامية لا بد لها من أصل ألا وهو توحيد الله عز وجل.
إذاً: المهاجر المؤمن الصادق ذو التوحيد الخالص هو الذي هجر كل ما نهى الله عنه من الكذب والغيبة والنميمة والغش والخداع والعجب والسرقة والفجور والزنا والربا وعقوق الوالدين وأذية الجيران وأذية المؤمنين، بل كل ما نهى الله ورسوله عنه، فهذا هو المهاجر حقاً، فاللهم اجعلنا منهم.
يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا [النساء:100]، أي: ما يرغم به أنف أعدائه الذين منعوه من عبادة الله تعالى، وَسَعَةً [النساء:100]، أي: وسعة في رزقه الخير الكثير، وقد هاجر المسلمون من مكة فتركوا أموالهم وأوطانهم، وما هي إلا سبع أو ثمان سنوات إلا وهم يوزعون الفضة في الأكياس، فيا من تهجر ما نهى الله عنه ورسوله امنع نساءك وبناتك من السفور، ولا تخاف ولا تشقى ولا تتعب، بل طهر بيتك واهجر منه ما يشابه بيوت الغافلين، من الفيديوهات والتلفازات التي تعرض العواهر وهن يغنين ويرقصن وأهل البيت يشاهدون نساء ورجالاً! بل حتى لو كنت في بلد لا تستطيع أبداً إلا أن يكون في بيتك تلفاز ونساؤك وأطفالك يشاهدون، والله لوجبت عليك الهجرة، وحرام عليك أن تبقى في ذلك البلد، ولو تلتحق برءوس الجبال خير لك، ولكن الحمد لله ليس هناك مؤمن قد أكره على هذا، لا في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر أبداً، ولكن الجهل وظلمة النفس هي التي أوقعت الناس في هذا.
سألني شاب فقال: هل يجوز لبناتنا أن يمارسن الرياضة البدنية؟ فقلت: لا، فقد أعطانا الله رياضة حُرِمها اليهود والنصارى والبلاشفة والعالم الكافر بكامله، هذه الرياضة تؤدى خمس مرات في اليوم والليلة، ألا وهي إقامة الصلاة، فوالله لو أقمنا الصلاة كما أراد الله ورسوله ما احتجنا إلى رياضة بدن قط، لكن أكثرهم لا يصلون، ومن صلى لا يطمئن ولا يستقر، فلو أنك تقف معتدلاً كما يعدلونك أصحاب الرياضة ثم قلت: الله أكبر من كل جوارحك، ثم تأخذ في تلاوة الآيات-وأنت مع الله-فتفصح في بيانها وإخراجها من فمك، ثم تقول: الله أكبر، وتمد ظهرك وصلبك وتقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، وذلك سبع مرات، أو تسع أو إحدى عشرة أو عشرين وأنت في تلك الحال، ثم ترفع باعتدال وتقول: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ثم تقول: الله أكبر، وتمد نفسك على الأرض، وجبهتك وأنفك وأعضاؤك كلها مشدودة وأنت تسبح فتقول: سبحان ربي الأعلى، وتدعو بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، ثم ترفع فتقول: الله أكبر، وتجلس جلسة معتدلة وتقول: رب اغفر لي وارحمني وعافني واهدني وارزقني، وتفعل ذلك في صلاتك كلها، والله لا توجد رياضة أنفع من هذه، وأن أتكلم على علم، أمع هذا نقول: هل لبناتنا أن يمارسن الرياضة؟!
لو كانت الرياضة ضرورية لبدن المسلم لأنزل الله فيها قرآناً، ولشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الله شرع إقامة الصلاة فقال: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [البقرة:277] ولم يقل: صلوا، فتؤدى خمس مرات كل مرة على الأقل نصف ساعة مع النوافل والقيام في الليل وفي آخره، فهل صاحب هذه الرياضة يحتاج إلى أن يجري في الشارع؟!
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا [النساء:100] إلى من؟ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [النساء:100] قبل الوصول، كأن مرض في الطريق فمات، فما أجره؟ قال: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100] ويجزيه به، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100].
فهذه الآيات المباركات التي درسناها بالأمس تستقر هذه العلوم في أذهانكم، كما عرفتم أول المهاجرين، وعرفتم المهاجر الحق من هو؟ الذي يهجر ما نهى الله عنه ورسوله، فإن فاتتك الهجرة لكونك آمناً في ديارك، فإن هناك هجرة أخرى أعظم من تلك، ألا وهي أن تهجر ما نهى الله ورسوله عنه من سائر الذنوب والمعاصي.
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ [النساء:101]، أي: حرج أو تضييق أو إثم أبداً.
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، أي: أن تقصر الطويلة منها، فتصلي الظهر ركعتين، وتصلى العصر ركعتين، والعشاء ركعتين، أما المغرب فوتر لا تنقص، إذ هي وتر النهار، والصبح كما هي.
إذاً: هذه الآية تحمل حكماً فقهياً وهو مشروعية قصر الصلاة الرباعية في حال السفر للجهاد أو للعمرة أو للتجارة أو لأي عمل شرعي يحبه الله ويأذن فيه.
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، وهذا الشرط قد زال، فقد تحررت الجزيرة واستقلت البلاد وقامت دولة الإسلام، وما بقي من يخاف، فتمشي من الرياض إلى المدينة، أو من مكة إلى نجران ولا تخاف شيئاً، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلن عن عفو الله عنه، فشرع قصر الصلاة في السفر، وأنها سنة ثابتة وقائمة إلى يوم القيامة، وليست مستحبة أو فضيلة من الفضائل فقط، بل رحمة الله عز وجل بالمؤمنين، فقد أذن لهم أن يقصروا الرباعية، فبدل أن يصلوا الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، يصلوها ركعتين ركعتين وإن كنا في أمن كامل.
إذاً: القصر سنة مؤكدة فلا تتركه يا عبد الله، يقول الرسول: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، فهل يتصدق عليك مولاك وتقول: أنا لا أقبل؟ هل هذا أدب مع مولاك؟ إنها صدقة تصدق الله بها علينا فلنرضى بها ولنفرح ولنحمد الله على ذلك.
ثم إن قوله: ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ [النساء:101]، يعني: مسافرين، فكم هي مسافة القصر؟ من العلماء من يقول: كل سفر يجوز للمؤمن أن يقصر فيه، ومعنى هذا: من خرج من هنا إلى أحد فهو مسافر؛ لأنه تجاوز البلد، وسافر كما تسفر المرأة إذا أبعدت الحجاب عنها، وهذا القول باطل ومردود وإن كان صاحبه من أئمة الإسلام وبصائر الهدى كـابن حزم، إذ السفر الحق هو الذي يرحل فيه الإنسان عن بلده ليجتاز مسافة يوم، أما مسافة عشر دقائق أو ربع ساعة في البستان فليس بسفر هذا، وإن تركت الدار وراءك، والدليل على ذلك: أن أسفار النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت أكثر من يوم وليلة.
وبعض الفقهاء من قال: يجوز القصر إن كانت المسافة سبعين ميلاً أو خمسة وثمانين كيلو، والقول الذي قلت به ورجحته وكتبته في المنهاج أنه ثمانية وأربعين كيلو، وهو قول وسط، وديننا دين الوسطية، ومنهم من يقول: مسافة عشرين ميلاً، ومنهم من يقول: ثمانين أو خمسة وسبعين، والدليل على ما ذهبت إليه دليل علمي، ألا وهو أن الميل في لغة العرب ولغة القرآن وعرف علماء الأندلس وأئمة الإسلام ألفا ذراع، وألفا ذراع هو كيلو متر، والكيلو متر فيه ألف متر، والمتر ذراعان، وهنا فإن أوروبا قد أخذت هذا من الإسلام، إذ ما كانوا يعرفون الكيلو متر، وبالتالي فمن سافر مسافة ثمانية وأربعين كيلو فما فوق فهو مسافر وله جواز القصر، فإذا ركبت بعيرك أو حمارك ومشيت فإنك لا تستطيع أن تقطع خمسين كيلو إلا وقد انتهى النهار، ومع هذا إذا قال الرجل: أنا حنفي أو شافعي أو حنبلي أو مالكي لا أقصر، فهذا شأنه ولا نلومه أبداً، وجزاه الله خيراً، وإنما فقط من قال: أنا أقصر إذا خرجت من البلد فلا نقبل ذلك منه؛ لأن هذه ليست مسافة قصر، أما إذا كانت المسافة مسافة قصر فله أن يقصر، ومسافة القصر كما ذكرنا ثمانية وأربعين كيلو، سواء بالحمار أو بالسيارة أو بالطيارة أو بغير ذلك، قال تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].
ثانياً: متى نبتدئ في القصر؟ لما تترك البلد والدور وراءك، فإذا حضرت الصلاة وأنا إنسان مسافر إلى جدة مسافة خمسين كيلو فأقصر، لكن لا تقصر وأنت في البلد، كأن دخل وقت العشاء فنصلي العشاء ركعتين فلا يجوز هذا أبداً حتى تفارق البلد الذي خرجت منه، أما إذا دخلت البلد التي سافرت إليها، كأن سافرت إلى ينبع وأذن المغرب فقلت: سأصلي المغرب والعشاء ونخرج، فيجوز لك ذلك لأنك مسافر، إذ إن ينبع ما هي بلدك، إنما فقط بلدك التي أنت فيها مقيم، فلا تقصر حتى تغادر وتترك بلدك وراءك، والآن نحن نقصر في مطار المدينة إذا حضرت الصلاة؛ لأننا قد تركنا المدينة وراءنا بأميال وهكذا، ثم تبقى تقصر إلى أن تعود إلى بلدك، فإذا دخلت بلدك انتهى القصر وجاء الإتمام والتتميم.
ويبقى مسألة وهي: إذا نويت الإقامة بجدة أو بالقاهرة أو بالرياض يومين أو ثلاثة أو أربعة فلك أن تقصر الصلاة، لكن إذا عزمت أن تقيم أكثر من أربعة أيام، كأن عزمت أن تقيم خمسة أيام أو أسبوعاً أو شهراً فلا تقصر؛ لأنك أصبحت مقيماً، فأنت إذا سافرت الآن إلى مدينة بريدة، وأردت أن تقيم خمسة عشر يوماً أو عشرة أيام، فبمجرد ما تدخل المدينة لا تقصر الصلاة؛ لأنك أصبحت من أهلها، أما إذا كنت لا تدري هل سنخرج غداً أو بعد غد؟ ففي هذه الحال تبقى تقصر ولو شهراً، وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصلاة في تبوك عشرين يوماً، فقد خرجوا من المدينة وأخذوا في قصر الصلاة حتى عادوا؛ لأن الرسول ما يرحل ولا يقيم إلا بإذن الله، فهو ينتظر أمر الله عز وجل، فهو لا يدري متى يقول: سافروا أو تقدموا لقتال العدو؟ وهذا الذي عليه الأئمة الجمهور، وهو الوسط.
إذاً: إن نوى الإقامة لأكثر من أربعة أيام فإنه يتم الصلاة حتى يستأنف السفر ويقبل خارجاً من بلده، فإن لم يدر متى يخرج غداً بعد غد، فإنه يبقى يقصر ما دام كذلك ولو عاماً.
وهنا استغل بعض الطلبة فقلدوا الأباضيين، والأباضي إذا رحل من بلده وترك زوجته وأولاده فهو مسافر، ولو فتح دكاناً أو متجراً عظيماً، فإنه يشتغل لأعوام ويقول: أنا مسافر؛ لأن امرأتي في البلد، وقد أخذ هذا بعض طلاب العلم الذين يدرسون في أمريكا وأوروبا فقالوا: نحن نقصر لأننا لسن من أهل البلد، وقد أخطئوا، وبالتالي يجب أن يراجعوا أمرهم، ثم أي سفر هذا؟!
كذلك الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جائز، فلك أنت فيه حر، فلك أن تجمع، ولك ألا تجمع، إذ كونك تصلي الصلاة في وقتها هذا أفضل لك، لكن إذا الضرورة استدعت ذلك، كأنك أصابك التعب أو الإعياء فاجمع ولا تتحرج، فتجمع المغرب والعشاء، والظهر والعصر، إن شئت جمع تقديم فتصلي العصر مع الظهر، أو جمع تأخير فتصلي الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، أو تصلي العشاء مع المغرب فهذا جمع تقديم، والكل واسع، وراعي فيه مصلحة سفرك وحاجتك إلى ذلك، وإن شاء الله سنعود إلى الآية في يوم آخر.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر